حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة

          61- قوله: (يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ) [خ¦1162] أي: لأنَّها مطلوبةٌ، وكذلك الاستِشارة مطْلوبةٌ ومُقدَّمةٌ على الاستخارة، ولا يكون كلٌّ منهُما إلَّا في الأمْر الجائزِ، كتقديم بعضِ المنْدوباتِ على بعضٍ.
          قوله: (في الأُمُوْرِ كُلِّهَا) هو عامٌّ مُرادٌ به الخصوص، بدليلِ أنَّ الواجباتِ مَطلوبةٌ، فإنْ أتى بها فذاكَ، وإلَّا عُوقب / تاركُها فلا يستخار فيما العذاب على(1) تركِه.
          والمحرَّمات أيضاً ممْنوعٌ فعْلُها، والعذاب مُعلَّقٌ على فِعْلِها، وما العذاب مُعلَّقٌ على فعْلِه فلا استخارة فيْه.
          فالذي فيه الاستخارة أَمْرانِ:
          إمَّا نَوع المباحات، وهو ما إذا أرادَ الشَّخْصُ أنْ يعملَ أحدَ مُباحَيْن ولا يعرِف أيَّهما خيرٌ لَه، جازتْ له الاستخارةُ ليرْشده مَنْ يعلم الأُمور وعَواقبَها على ما هو الأصلح في حَقِّه.
          وإمَّا نوع المنْدوبات، وهو أن يخطرَ لأحَدٍ أنْ يفعل أحد المنْدوبَيْن ولا يعْرِف أيَّهما خيرٌ له، فيَسْتَخِيْر.
          وأمَّا نوعُ المكْروه، فمكْروهٌ أنْ يُستخارَ فيه، فعلى هذا هو لفْظٌ عامٌّ، والمرادُ به الخصوصُ كما ذكرنا، وهذا في اللِّسان كَثيرٌ.
          قوله: (كَما يُعَلِّمُنا السُّوْرَةَ مِنَ القُرْآنِ) يحتملُ أنْ يكونَ الشَّبَه مِن جهة حفظِ حُروفِه وترتيلها، ولا يبدّل منْها شيءٌ بشيءٍ كما هو القرآن.
          ويحتملُ أنْ يكونَ أرادَ مَنْعَ الزِّيادةِ على تلْك الألْفاظِ والنَّقْص عنْها.
          ويحتملُ أنْ يكون الشَّبهُ في عدم الفرضية؛ لأنَّ السُّوْرةَ _ما عَدَا أُمَّ القُرآن_ تعليمها مِن طَرِيق المنْدُوبِ.
          ويحتملُ أنْ يكون الشَّبَهُ منْ طرِيق الاهتمامِ بها.
          ويحتملُ أنْ يكونَ الشَّبَه منْ كونها بوَحْيٍ من الله تعالى، كما أنَّ السُّورةَ مِن الله ليست من عِنْده ╕.
          قوله: (إذا هَمَّ) المرادُ بالهَمِّ: النَّيِّةُ.
          وقولُه: (فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ) أي: يُصلِّي ركْعتَين، يَنْوي بهما سُنَّةَ الاستخارةِ، ويقرأُ في الركعة الأُولى بعد الفاتحةِ: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ...} إلى: {يُعْلِنُونَ} [القصص:68-69].
          وفي الثَّانية: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ...} إلى {مُبِينًا} [الأحزاب:36].
          فإنْ قلْتَ: قد جاءَ عنِ النَّبيِّ صلعم أدعيةٌ كثيرةٌ، ولم يشترطْ فيها صلاةً، وهُنا جعَلَ من شرطِها صلاةً تخصُّها؟!
          أُجِيْبَ بأنَّ هذا الأمرَ تَعبُّديٌّ.
          وقيل: إنَّه معقولُ المعنى، أي: له حِكْمةٌ مفهومةٌ، وهي أنَّه لمَّا كان هذا الدُّعاءُ من أكبر الأشياء؛ إذْ إنَّه ╕ أرادَ به الجمْعَ بين صلاح الدِّين والدُّنيا والآخِرةِ، فطالِبُ هذه الحاجة يحتاجُ إلى قرع بابِ الملِك بأدَبٍ وحالٍ يُناسب ما يطْلُب، ولا شيء أرفع من الصَّلاة؛ لما فيها منَ الجمْع بين التَّعظيْم لله سُبحانه وتعالى والثَّناء عليه، والافتقار إليه حالاً ومقالاً(2)، وذِكْره ╡ وتلاوةُ كتابِه الذي به مفاتيح الخيْر من الشِّفاءِ والهدى والرَّحمةِ وغير ذلك. /
          قوله: (مِنْ غَيْرِ الفَرِيْضَةِ) بَيانٌ للأكْمل، وإلَّا فتحصل بالفَرْضِ.
          قوله: (اللَّهُمَّ) هذه اللَّفظةُ مِن أرفع ما يستفتح به الدُّعاء.
          قوله: (أَسْتَخِيْرُكَ بعِلْمِكَ) يَحتملُ أنْ تكونَ للظَّرفيَّة، أي: ما هو خَيرٌ لي في عِلْمك، أي: أطلبْ منكَ انشراحَ صَدْري لما هو خيرٌ لي في علْمِك، فالإنسانُ لا يفعل بعد الاستخارة إلَّا ما انشرحتْ نفسُه لَه.
          فقد وردَ(3): «إذا هَمَمْتَ بأَمْرٍ فاسْتَخِرْ رَبَّكَ فيْه سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثمَّ انْظُرْ إلى الذي سَبَقَ إلَيْه قَلْبكَ، فإنَّ فيْهِ الخيْر».
          ولا يشترط أنْ تكونَ بنَوْمٍ.
          قوله: (وَأَسْتَقْدِرُكَ) أي: أطلب منكَ الإقْدار على ما فيه الخير، بقُدْرتِك التي لا تعجز عن شيءٍ من الأشياءِ، لا بقُدْرتي العاجزة عن جميع الأشياءِ.
          قوله: (وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيْمِ) أي: لا وجوباً عليك.
          قوله: (وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوْبِ) زيادةً في الثَّناءِ على المولى الكَريم.
          قوله: (اللَّهُمَّ) إنَّما أعادَ هذه اللَّفظة لما فيها منَ الخيْر والرَّغبةِ.
          قوله: (إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ) أي: إنْ كان علمك تعلَّق ﺑ (أنَّ هذا الأَمْرَ خَيْرٌ)، فـ«إن» للشَّكِّ في كون علمه تعلَّق بكون هذا الأمْر خيراً لا في نفس العِلْم.
          قوله: (خَيْرٌ لِي فِي دِيْنِي) قدَّم الدِّين لأنَّه الأهمُّ في جميع الأُمور، فإنَّه إذا سَلِمَ الدِّين فالخيرُ حاصِلٌ، تَعِبَ صاحِبُه أو لم يَتْعَبْ، وإذا اخْتلَّ الدِّيْن فلا خير بَعْدَهُ.
          قوله: (وَمَعَاشِي) أي: عَيْشي في هذه الدَّارِ.
          قوله: (وَعَاقِبَةِ أَمْرِي) أي: في آخِرَتي.
          وقوله: (أوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ) الشَّكُّ هُنا من الرَّاوي، والمعنى واحدٌ، وإنَّما قال هذا لما كان فيه وفي جميع الصَّحابة رِضوانُ اللهُ عليهم مِن التَّحرِّي في النَّقْلِ والصِّدْقِ.
          قوله: (فَاقْدُرْهُ لِي) بضمِّ الدَّال وكَسْرِها، أي: فأظهرْ مقدورك لي، وليس المرادُ عَلِّقْ إرادتكَ بِه.
          ويحتملُ أنَّ المرادَ: علِّقْ إرادتكَ به تَعلُّقاً تنجيزياً حادِثاً، لا تعَلُّقاً تنجيزياً قدِيماً ولا صلاحياً؛ لأنَّ هذا الأمر واقعٌ لا يُطلب.
          قوله: (وَيَسَّرْهُ لِي) مأخوذٌ من التَّيسير، وهو التَّسهيلُ.
          قوله: (ثُمَّ أَرْضِنِي) بهمْزة قَطْعٍ.
          وفي رِوايةٍ: «رَضِّنِي»، أي: اجعلني راضِياً به.
          وقوله: (قَالَ) أي: الرَّاوي.
          وقوله: (وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ) أي: بَدَلَ قولِه (الأَمْرَ).
          وظاهرُ الحديثِ أنَّ الإنسانَ لا يستَخِيْر لغيره، وليس كذلك، فقد وردَ أنَّ الإنسان يستخير لغيره، وربَّما يُؤخذ من قولِه ╕: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أن / يَنْفَعَ أَخاهُ فلْيَنْفَعْهُ»(4).
          ومن جُملة النَّفع الاستخارةُ للغَيْر.
          وهذا الحديثُ ذَكَرهُ البخاريُّ في باب: ما جاءَ في التَّطوُّع مَثْنى مَثْنى.


[1] كذا في «ز1»، وفي بعض النُّسخ: في.
[2] كذا في «ز1» و«ز5»، وفي نسخة أخرى: ومآلاً.
[3] ابن السني في عمل اليوم والليلة 597 وقال عنه النووي بعد أن أورده في [الأذكار]: إسناده غريب؛ فيه من لا أعرفهم. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح 11/178: «وهذا لو ثبت لكان هو المعتمد لكن سنده واهٍ جداً».
[4] مسلم 63/2199.