حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار

          60- قوله: (عَنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو) [خ¦1153] أسْلمَ قبلَ أَبِيه، وكان بَيْنه وبيْنَه في السِّنِّ اثنتا عشرة سنةً، وقد ذَكَر بعضُهم أنَّ صِبْيان تِهَامَةَ ونِساءَهُم يَحتلمونَ لتِسْع سنين، وكان يحفظُ التَّوراة كما يحفظ القُرآن وقال:
          «لأنْ أدمع دمعةً مِن خَشْيةِ الله تعالى أحبُّ إليَّ منَ الصَّدَقةِ بألْفِ دِيْنارٍ»(1). وكانَ يقول: «مَن(2) سُئل بالله فأعطى كُتِبَ لهُ سَبْعون أَجْراً».
          وقال(3): «مَنْ سقى مُسلماً شرْبةَ ماءٍ باعَدَه اللهُ منْ جَهنَّم شَوْطَ فَرَسٍ».
          قوله: (أَلَمْ أُخْبَرْ) هذا استفهامٌ تقْريريٌّ، وهو حمْلُ المخاطب على الإقْرارِ بما يعرفه، والمرادُ: الإقرارُ بما بعد النَّفْي، أي: أقرُّ بأنِّي أُخبرت أنَّك تقُوم اللَّيل... إلى آخِرِه.
          قوله: (إنِّي أَفْعَلُ ذلِكَ) أي: المذْكورَ مِن الأمْرَيْن.
          قوله: (قَالَ) أي: رسُولُ الله صلعم.
          وقوله: (هَجَمَتْ عَيْنُكَ) أي: غارَتْ وضَعُفَ بَصَرُها.
          قال في «المصْباح»: وهَجَمَتِ العَيْنُ هُجُوْماً: غارَتْ. انتهى.
          وهو مِن بابِ دَخَلَ وقَعَدَ.
          قوله: (وَنَفِهَتْ) بفَتْح النُّونِ وكَسْرِ الفاءِ وبالهاءِ، أي: تَعِبَتْ وأَعْيَتْ وكَلَّتْ.
          قوله: (وَإنَّ لِنَفْسِكَ) أي: ذاتِك.
          وقوله: (وَلأَهْلِكَ) أي: زوجك.
          قوله: (فَصُمْ) أي: في بعض الأيَّام.
          وقوله: (وَأَفْطِرْ) بقطْع الهمْزة، أي: في البعض الآخر، وكأنَّ هذا إشارةٌ إلى صَوْم داوُد ╕.
          وقال عبدُ الله بنُ عَمْرٍو [م 188/1159]: دخَلَ عليَّ رسوْلُ الله صلعم فقال: «أَلَمْ أُخْبَرْ أنَّكَ تَقُوْمُ اللَّيلَ وتَصُوْمُ النَّهار؟»، قلت: إنِّي أفعلُ ذلك يا رسول الله.
          قال: «إنَّ مِنْ حَسْبِكَ أنْ تَصُوْمَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثلاثةَ أيَّامٍ، فإذا فَعَلْتَ ذلك صُمْتَ الدَّهْرَ كُلَّه»، فقلت: إنِّي أقْوى على أكثر مِن ذلك.
          قال: «إنَّ أَعْدَلَ الصِّيامِ عِنْد الله صِيَامُ / داوُدَ».
          قال فأدْركَني الكِبَرُ، حتَّى ودِدْتُ أنِّي عَدِمْتُ(4) مالِي وأهْلي وأنِّي قَبِلْتُ رُخْصةَ رسولِ الله صلعم.
          قوله: (وَقُمْ) أي: بعضَ اللَّيل، (وَنَمْ) البعض الآخر.
          قال عبدُ الله: زوَّجَني أَبي امرأةً من قُريشٍ، فلم أقْربْها لاشتغالي بالصَّوْم والصَّلاةِ، فبلغَ ذلك أَبِي، فعَنَّفَني بلسانِه، ثمَّ شَكَاني إلى رسوْلِ الله صلعم، فطَلَبني، فلمَّا جئتُ قال:
          «يا عبد الله أتصُوْم النَّهار؟»، قلت: نعم، قال: «وتَقُوْم اللَّيل؟»، قلت: نعم.
          قال: «لكنِّي أَصُوْمُ وأُفْطِرُ، وأنامُ وأمسُّ النِّساء، فمَن رَغِبَ عَن سُنَّتي فليسَ مِنِّي»، ثمَّ قال: «اقْرأ القُرآن في ثلاثة أيَّامٍ، وصُمْ في كُلِّ شَهْرٍ ثلاثةَ أيَّامٍ».
          فقلتُ: إنِّي أقْوى على أكثر مِن ذلك. فلم يزل يرفعني حتَّى قال: «صُمْ يَوْماً وأفْطِرْ يوماً، فإنَّ ذلك أفضل الصِّيام، وهو صيامُ أَخي داوُد».
          تَتِمَّة:
          سألَ رجُلٌ مَعْرُوفاً الكَرْخِيَّ: أيُّ شيءٍ أهيجُ للعِبادةِ وأقطعُ لهوى النَّفْسِ؟
          قال: خَوْف المَوْت.
          فقال: وأشدُّ من ذلك؟
          قال: هَوْلُ الموقِف.
          ثمَّ قال: وأشدُّ من ذلك؟
          فقال: خَوْف النَّار ورجاء الجنَّة.
          فقال: وأشدُّ من ذلك؟
          فقال: يا أَخِي، إنْ أَحبَّك أحببتَه وإن أحببته أنساكَ هذه كُلَّها وعبَدْته لأجْلِه خالِصاً.
          وفي الحديثِ دليلٌ على أنَّ المنْدوبَ في الدِّين مطْلوبٌ على كلِّ حالٍ، فكأنَّه ╕ يقول له: لا تشتغل بإعطاءِ الحقوقِ وتَتْرك المنْدوبَ مرَّةً واحدةً، ولكن اجمعْ بين فَرْضِك ونَدْبِك؛ وعلى هذا الأُسلوب تجِد قواعد الشَّريعة كُلَّها إذا استقرَيْتَها، فمَن أُرِيد «بِه خَيْراً بصَّرَه بعُيُوبِ نَفْسِه»، فأبصرَ رشدَه، ولذلك قال:
          نظركَ إلى النَّفْسِ حِجابٌ عمَّا سِواها، وشغلكَ بغَيْرها حجابٌ عنْها، فإنْ عجبتَ بها فاتكَ الحظ ممَّا سواها، فإنْ تعامَيْتَ عنْها نلْتَ خَيْرها وخير ما سِواها.
          وهذا الحدِيْثُ ذَكَره البُخاريُّ في باب: ما يكره منَ التَّشديدِ في العِبادةِ.


[1] شعب الإيمان 816.
[2] ابن أبي شيبة 10898.
[3] أبو نعيم في حلية الأولياء 1/153.
[4] كذا في «ز1»، وفي بعض المصادر: غَرِمْتُ.