حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل

          59- قوله: (لا تَقُوْمُ السَّاعَةُ) [خ¦1036] أي: القيامة.
          قوله: (حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ) أي: بِمَوت العُلماء، وكَثْرةِ الجهَّال، كما تقدَّم في أوَّلِ الكتابِ: «إنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُه منَ العِباد، ولكن يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلماءِ، حتَّى إذا لم يَبْقَ عالِمٌ، اتَّخذَ النَّاسُ رُءُوساً جُهَّالاً فأفْتَوا بغَيْر عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا».
          قولُه: (وَتَكْثُرُ الزَّلَازِلُ) جمعُ زَلْزَلَةٍ: حَرَكَةُ الأرضِ واضْطرابُها حتَّى ربَّما يسقطُ البِناءُ القائم عليها.
          قوله: (وَيَتَقَارَبُ الزَّمَانُ) أي: فيكون الزَّمنُ الطَّويل كالزَّمنِ القَصير.
          وهذا مجملٌ بيَّنه المصطفى صلعم بقوله: «لا تَقُوْمُ السَّاعةُ حتَّى يتقارَبَ الزَّمانُ، فتكونُ السَّنةُ كالشَّهْرِ، والشَّهْرُ كالجمعةِ، والجمعةُ كاليَوم، واليوْم كالسَّاعةِ، والسَّاعةُ كالضَّرَمَةِ منَ النَّارِ».
          أي: كزمانِ إيقادِ الضَّرَمةِ منَ النَّارِ.
          والضَّرَمَةُ: ما يُوقد به النَّار أوَّلاً، كالقصبِ والكِبْريتِ.
          أوْ يحملُ ذلك على قِلَّة بركةِ الزَّمانِ وذهابِ فائدته.
          أَو على أنَّ النَّاسَ لكَثرة اهتمامِهم بما هُم فيه منَ النَّوازلِ والشَّدائدِ وشغل قلْبِهم بالفِتَن العِظام، لا يدْرون / كيف تنقضي أيَّامهم ولياليهم.
          فإنْ قلْتَ: إنَّ العربَ تستعملُ قصرَ الأيَّام واللَّيالي في المسرَّاتِ، وطُولَها في المكارِه!؟
          أُجِيْبَ بأنَّ المعنى الذي يذهبون إليْه في القِصَر راجعٌ إلى تمنِّي الإطالة للرَّخاء، أو إلى تمنِّي القصر للشِّدَّة.
          نَعَمْ؛ حمَلَه الخطَّابيُّ على زمانِ المهْديِّ؛ لوُقوع الأمْنِ في الأرض فيستلذ العيش عند ذلك لانبساطِ عدْلِه فيستقصر مدَّته؛ لأنَّهم يستقصرون أيَّامَ الرخاءِ وإنْ طالَت، ويستطيلونَ أيَّامَ الشِّدَّة وإنْ قصرت.
          وتعقَّبَه الكِرْمانيُّ(1) بأنَّه لا يناسب أخواته مِن ظُهور الفِتَنِ وكثرة الهرْج وغيرهما.
          وحملَه بعضُهم على تقاربِ اللَّيل والنَّهارِ لعدم ازديادِ السَّاعات وانتقاصِها بأن تساويا طولاً وقصراً.
          والحاصل: إنَّه اختلفَ في قولِه (يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ):
          فقيل: على ظاهرِه، فلا يظهر التَّفاوت في اللَّيل والنَّهار بالقِصَرِ والطُّولِ.
          وقيل: المرادُ: قُرب يوم القيامة.
          وقيل: تذهب البَرَكة، فيذهب اليوم واللَّيل بسُرعةٍ.
          وقيل: المراد: تَقَارُب أهْل ذلك الزَّمان في الشَّرِّ وعدم الخيْر.
          قوله: (وَتَظْهَرُ الفِتَنُ) أي: تكثر وتشتهر.
          وقوله: (الهَرْجُ) بفتح أوَّله، وسُكون ثانيه، وبالجيْم.
          قوله: (وَهُوَ القَتْلُ) وهذا مُدْرجٌ من الرَّاوي.
          فإن قلْتَ: إنَّ هذا القَتْل مذْكورٌ في جملة الفِتَن، فلمَ خَصَّه بالذِّكْر؟!
          أُجِيْبَ بأنَّه إنَّما خصَّه لأجل شَناعتِه وقُبحِه.
          قوله: (حَتَّى يَكْثُرَ) هو غايةٌ لكَثرة الهرْجِ؛ وذلك لأنَّه إذا كثُر القَتْلُ قلَّتِ الرِّجال، وقلَّتِ الرَّغبات في الأمْوالِ، وقصرت الآمال.
          ويحتملُ أن يكونَ معطوفاً على قولِه: (حَتَّى يُقْبَضُ العِلْمُ)، وحذف العاطِف، أي: وحتَّى يَكْثُرَ المال، هذا هو الموافقُ لما في «تَذْكِرةِ» [2/118] القُرْطبيِّ؛ لأنَّه قال:
          «لا تَقُوْمُ السَّاعةُ حتَّى يُقبض العِلْم، وتكثُر الزَّلازِل، ويتقارَبَ الزَّمانُ، وتَظْهر الفِتَن، ويكثر الهرْج _وهو القَتْل_ حتَّى يكثُر فيكُم المالُ فيَفِيْضَ، وحتَّى يهتمَّ رَبَّ المالِ بمَن يَقْبلُ صَدَقَتَه، وحتَّى يَعْرِضَه ويقولُ الذي يَعْرِضُه عَلَيه: لا أَرَبَ لِي فيْهِ».
          قوله: (فَيَفِيْضَ) بالفاءِ، وبالنَّصْبِ عَطْفٌ على (يَكْثُرَ)؛ وهذه رِوايةُ أبي ذَرٍّ.
          وفي رِوايةِ غيرِه، بحذْفِ الفاءِ.
          وعلى كُلٍّ؛ فحَرْفُ المضارعةِ مَفْتُوحٌ، مِنْ فَاضَ، و(يَفِيْضَ) استعارةٌ مِنْ فيض الماء لكَثْرتِه، كقوله: /
شكوتُ وما الشَّكوى لِمثلِيَ عادَةً                     ولكن يَفِيْض الكاسُ عِنْدَ امْتِلَائِه
          يقال: فَاضَ الماءُ، يَفِيْضُ: إذا كَثُرَ حَتَّى سَالَ على جانِبِ الوَادِي، وأَفَاضَ الرَّجُلُ إنَاءَهُ، أي: مَلَأَهُ حتَّى فَاضَ.
          والمعنى: يَفِيْضُ المالُ حَتَّى يَكْثُرَ، فيفضلُ مِنْه بأيدي مالِكيْهِ ما لا حاجَةَ لَهمْ بِه.
          وقيل: بلْ ينْتشرُ في النَّاسِ ويعمهم، ويتسبَّب عن ذلك الفيضان، أن رَبَّ المالِ يُريد أن يتصدَّق فلا يَجِد مَن يقبل صدَقَته ويقول: (لا أَرَبَ لِي) في هذا المال، أي: لا حاجة لي فيه.
          وهذا الحديثُ ذَكَره البُخاريُّ في باب: ما قيلَ في الزَّلازلِ والآياتِ.


[1] الكواكب الدراري 24/150_151.