حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: كان النبي يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به

58- قولُه: (حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِه) [خ¦1000] أي: في أيِّ مكانٍ توجَّهتْ به فيْه، فكانت قِبْلتُه جهةَ مقصده، وعليه حُمل قولُه تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115].
          أيْ: فأيَّ مكانٍ {تُوَلُّوا} وجُوهكم إليه {فَثَمَّ}، أي: هُناكَ {وَجْهُ اللَّهِ}، أي: جهة الله، أي: الجهة التي أمَرَ اللهُ باستقبالها.
          قوله: (يُوْمِئُ) هو بَدَلُ اشتمالٍ من قولِه: (يُصَلِّي)، أوْ حالٌ من فاعل (يُصَلِّي)، فكان ╕ لا يتم رُكوعه وسُجوده.
          وقوله: (إيْماءً) منْصوبٌ على المفعُوليَّة المطْلقة.
          قوله: (صَلَاةَ اللَّيْلِ) بالنَّصْب، مفعولُ (يُصَلِّي)، أي: الصَّلاة في اللَّيل(1)، وهي النَّافلةُ المطْلَقة.
          قوله: (إلَّا الفَرَائِضَ) مُستثنًى مِن قولِه: (صَلَاةَ اللَّيْلِ)، وهو استثناءٌ منْقطعٌ _بمعنى: لكن، أي: لكن الفرائض فلم يكُن يُصلِّيها على الرَّاحلة_ لا متَّصلٌ؛ لأنَّ المرادَ خروجُ الفرائضِ عن الحكم لَيليةً أو نهاريَّةً.
          وقالَ بعضُهم: إنَّ الاستثناءَ متَّصلٌ؛ لأنَّ صلاة اللَّيل تشمل الفَرْضَ والنَّفلَ، والفَرْضُ في صلاة اللَّيل اثنان: المغْرِب والعشاء، وعَبَّر عنهما بالجمْعِ وهو الفرائض بناءً على أن أقلَّ الجمع اثنان، أوِ المرادُ بالجمع اثنان مَجازاً.
          قال بعضُهم: ورُدَّ ذلك بأنَّ المرادَ خُروجُ الفرائضِ منَ الحكم، سواءٌ كانتِ الفرائضُ ليليَّةً أَمْ نهاريَّةً، فالاستثناء مُنْقطعٌ.
          ولابن عساكرَ: «إلَّا الفَرْضَ» بالإفْرادِ.
          قوله: (وَيُوْتِرُ) أي: بعد فراغِه من صلاة اللَّيلِ، وهو عطْفٌ على (يُصَلِّي).
          وفي الحديث رَدٌّ على قولِ الضَّحَّاكِ: «لا وِتْر على المُسافرِ».
          وأمَّا قولُ ابنِ عُمَرَ المروي في مُسلمٍ [8/689] وأبي داوُد(2): «لو كنتُ مُسبِّحاً في السَّفَرِ لأَتمَمْتُ»، فإنَّما أرادَ به راتبة المكْتوبة لا النَّافِلة المقصودة كالوترِ؛ قالَه في «الفَتْحِ» [2/489].
          واستدلَّ بهذا الحديث على أنَّ الوترَ ليس بفَرْضٍ، وعلى أنَّه ليس منْ خصائص النَّبيِّ صلعم وُجوب الوتْر عليه، لكونه أوقعَه على الرَّاحلة.
          وأمَّا قولُ بعضِهم: إنَّه كان مِن خصائصه أيضاً أنَّه يوقعه على الرَّاحلة مع كونه واجباً عليه، فهي دعوى لا دليل عليها؛ لأنَّه لم يثبت دليلُ وجوبِه عليه حتَّى يحتاج إلى تكلُّف / هذا الجمع.
          واستدلَّ به على أنَّ الفريْضةَ لا تُصلَّى على الرَّاحلة.
          قالَ ابنُ دَقيْقِ العِيْدِ(3): وليس ذلك بقَويٍّ؛ لأنَّ التَّرْكَ لا يدلّ على المنْع، إلَّا أنْ يقال: إنَّ دخولَ وَقْت الفريضة ممَّا يكثر على المسافر، فترك الصَّلاة لها على الرَّاحلة دائماً يشعر بالفَرْقِ بينها وبين النَّافِلةِ في الجواز وعدمِه.
          وأَجاب مَن ادَّعى وُجوبَ الوتْرِ من الحنفيَّة، بأنَّ الفَرْضَ عِنْدهم غيرُ الواجب، فلا يلزم مِن نَفْيِ الفَرْضِ نَفْيُ الواجِب، وهذا يتوقَّف على أنَّ ابنَ عُمر كان يُفرِّق بين الفَرْضِ والواجب.
          وقد بالَغَ الشَّيخُ أبو حامدٍ فادَّعى أنَّ أبا حنيفةَ انفردَ بوُجوب الوترِ، وليس يوافقه صاحباهُ، مع أنَّ ابن أبي شَيْبةَ أخرجَ عن سعيدِ [6936] بنِ المُسيَّبِ وأبي عُبيْدةَ بنِ عبدِ الله بنِ مَسْعودٍ [6937] والضَّحَّاكِ ما يدلُّ على وُجوبه عندهم(4).
          وعنده عَن مُجاهدٍ [6931]: «الوترُ واجبٌ، ولم يُكتب»، ونقلَه ابنُ العَرَبيِّ عن أَصْبَغَ منَ المالِكيَّة، ووافقَه سَحْنُونٌ، وكأنَّه أخذه مِن قول مالكٍ: «مَن تركَه أُدِّب وكان جرحاً في شهادته».
          وهذا الحديثُ ذَكَره البخاريُّ في باب: الوتر في السَّفَرِ.


[1] قوله: «بالنصب... في الليل» زيادة من «ز1»، وليست في «م».
[2] 1223 بدون قوله (في السفر).
[3] إحكام الأحكام ص131.
[4] في ابن أبي شيبة قولهم: إنه على أهل القرآن.