حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار

          33- قوله: (يَتَعَاقَبُوْنَ) [خ¦555] أي: الملائكةُ، أي: تأْتي طائفةٌ عقب طائفةٍ أُخرى، منَ التَّعاقُبِ: وهو إتْيانُ جماعةٍ عقب الأُخرى، وهو مُضارعٌ مرفوعٌ بثُبوتِ النُّونِ، والواوُ ضميرُ الفاعلِ العائدِ على (المَلَائِكَة)؛ لأنَّ الرَّاوي اخْتصرَ الحديْث(1)، وأصلُ الرِّوايةِ: «إنَّ لله مَلَائِكَةً يَتَعاقَبُوْنَ».
          وفي رِوايةٍ: «المَلَائِكَةُ يَتَعَاقَبُوْنَ».
          وحملَ ابنُ مالكٍ الرِّوايةَ على لُغة بَني الحارِثِ المشهورة بلُغة: أَكَلُوْنِي البَرَاغِيْثُ، فجعلَ الواوَ علامةَ الجمْعِ، و(مَلَائِكَةٌ) فاعلٌ.
          وردَّه أَبو حَيَّانَ بما تقدَّمَ مِن أنَّه مُختصَرٌ منْ حديثٍ مُطوَّلٍ.
          قوله: (فِيْكُمْ) أي: المُصلِّين، أو مُطْلق المؤمنين.
          قوله: (مَلَائِكَةٌ) بَدَلٌ مِن الواوِ، أو بَيانٌ لَه، فهو كلامٌ مُستأنفٌ سِيقَ للإتيان به جواباً عن سُؤالٍ مقدَّرٍ، تقديرُه: مَن هُم؟ فقيلَ: ملائكةٌ، فهو خَبَرٌ لمُبتدإ محذوفٍ، أي: هم ملائكةٌ؛ وهذا مذْهبُ سيْبوَيْه.
          ومذْهبُ ابنِ مالكٍ أنَّه فاعِلٌ، وفيه ما تقدَّم.
          والملائكةُ: / أجْسامٌ نُورانيَّةٌ، خلَقَها اللهُ تعالى من النُّوْر، تَتشكَّل بما شاءَتْ من الأشكالِ، ومِن أعجب ما خلَقَه اللهُ تعالى فيهم ملَكٌ نِصْفُه منْ نارٍ ونِصْفه مِن ثَلْجٍ، فلا النَّار تذيبُ الثَّلْجَ، ولا الثَّلْج يُطفئ النَّار، وهو يُسبِّحُ الله، ويُقدِّسه، ويُمجِّده، ويُوحِّدُهُ، ويقولُ في كلامِه: «اللَّهمَّ يا مَنْ ألَّفَ بين الثَّلْج والنَّارِ، ألِّفْ بيْن قُلُوْبِ عِبادِك المُؤمِنين».
          وتَنْكيرُ (مَلَائِكَةٌ) في الموضعَين يُفيد أنَّ الثَّانيةَ غيرُ الأُولى، كما قيلَ به في قولِه تعالى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:6] وفي قولِه تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12].
          والمرادُ بالملائكةِ: الحفَظَةُ عِنْد الأكْثرِين.
          وتُعقِّب بأنَّه لم يُنقلْ أنَّ الحفَظَةَ يُفارِقونَ العَبْدَ، ولا أنَّ حَفَظَةَ اللَّيلِ غيرُ حَفَظةِ النَّهار!
          وهذا التَّعقْيبُ(2) مبْنيٌّ على أنَّ المرادَ بهم الكَتَبةُ، وأمَّا إنْ قُلْنا: إنَّ الحفَظَةَ غيرُ الكَتَبةِ، فالحفَظَة يفارِقونَ، وحَفَظةُ اللَّيل غير حَفَظةِ النَّهارِ.
          وأمَّا الكَتَبةُ فلا يفارِقُونَ العَبْدَ ما دامَ حَيّاً، فإذا ماتَ وقَفَا واستغْفَرَا للميِّت على قَبْره إنْ ماتَ مُؤمناً إلى يومِ القيامةِ، وإنْ ماتَ كافراً وَقَفَا على قَبْره يلْعناهُ إلى يَوْم القِيامةِ.
          ولكُلٍّ عبْدٍ كاتبانِ، ملَكٌ عن يَميْنِه وآخَرُ عَن يَسارِه، ومَلَكُ اليَمين أَميْنٌ على مَلَكِ الشِّمالِ، فإذا عملَ الشَّخصُ سيِّئةً فأرادَ صاحِبُ الشِّمالِ كتبها، قالَ لهُ صاحبُ اليَمين: تَوقَّفْ لعلَّه يَسْتغفر، أي: يتُوب، فينتظرُه سِتَّ ساعاتٍ.
          وفي رِوايةٍ: سَبْع ساعاتٍ.
          فإنِ استغْفرَ اللهَ تعالى فيها كَتبَها لَه صاحبُ اليميْنِ حَسَنةً، وإلَّا كتَبَ صاحِبُ الشِّمالِ سَيِّئةً.
          ويكتبانِ كُلَّ ما يصْدر مِن العَبْدِ ولو مُباحاً، والكاتبُ له مَلَك الشِّمالِ، وكذلك يكتبانِ عَمَلَ القَلْبِ، وعلامةُ كَون عمل القَلْبِ حَسَنةً وُجودُ رِيْحٍ طيِّبةٍ مِنْه، وعلامةُ كونه سيِّئةً وجُودُ ريْحٍ مُنْتِنةٍ مِنهُ.
          ومدادُهما الرِّيْقُ، وقَلَمُهما اللِّسانُ، ومَجلِسُهما النَّاجِذان وهُما آخِرُ الأَضْراسِ.
          وفي الحديثِ(3): «لَطَّفَ اللهُ تعالى الملَكَيْن حتَّى أجْلَسَهُما على النَّاجِذَيْنِ».
          وقد وردَ(4): «نَقُّوا أفْواهَكُمْ بالخِلَالِ؛ فإنَّها مَجْلِسُ الملَكَيْن الكَرِيمَيْن، وليسَ علَيْهم شيءٌ أَضَرَّ مِنْ بَقَايَا الطَّعام».
          قولُه: (وَيَجْتَمِعُوْنَ) أي: ملائكة اللَّيلِ والنَّهارِ.
          فإنْ قلْتَ: التَّعاقُب يُغايرُ الاجْتماعَ!؟
          أُجِيْبَ / بأنَّ تعاقُبَ الصِّنْفَين لا يمنع اجتماعَهُما؛ لأنَّ التَّعاقُبَ أعمُّ منْ أن يكونَ معَه اجتماعٌ كهذا، وَكَما جلسَ جماعةٌ للأكْلِ، ثمَّ جلس جماعةٌ آخرُونَ مَع الأوَّلَيْنِ، ثمَّ انصرَفَ الأوَّلونَ، فقد حصلَ اجتماعٌ وتَعاقُبٌ أوْ لا يكون معَه اجتماعٌ.
          قولُه: (في صَلَاةِ الفَجْرِ) تخصيصُ اجتماعِهم في المجيءِ والذَّهاب بأوْقاتِ العِبادةِ تكرمةُ المؤمنين واللُّطْفُ لهم، لتكون شهادتُهُم بأحْسَنِ الثَّناءِ وأطيَب الذِّكْرِ، ولم يجعلِ(5) اجتماعَهم معهُم في حالِ خلواتِهم بلَذَّاتِهم وانْهماكِهِم في شَهواتهم، فللهِ الحمْدُ.
          وتخصيصُ هذَيْن الوقْتَين بالاجتماع فيهما يُفيد أنَّهما أشْرفُ الأوقاتِ، وممَّا يدلُّ لذلك حديثٌ قُدْسيٌّ(6): «اُذْكُرْنِي ساعةً بَعْدَ الصُّبْحِ وساعةً بعْدَ العَصْرِ، أَكْفِكَ ما بَيْنَهُما».
          وممَّا يدلُّ على شَرَف وقْتِ الفجْرِ، أنَّ الرِّزْقَ يُقْسَمُ مِن بَعْد صلاةِ الصُّبْح(7)، فمَن كانَ في ذلك الوَقْت في طاعةٍ زِيْدَ في رِزْقه؛ ولذلك ترى أرْزاقَ أهْلِ التَّعبُّد مُبارَكَةً، والبَرَكةُ أفضلُ الزِّياداتِ، وتخصيصُ الاجتماعِ فيهما يُفيد أنَّ هاتَين الصَّلاتَين أفْضلُ الصَّلَواتِ.
          قوله: (ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِيْنَ بَاتُوا) أي: يصعدُ الملائكةُ (الَّذِيْنَ بَاتُوا) وهُم ملَائكةُ اللَّيل، وذَكَر النَّبيُّ صلعم (الَّذِيْنَ بَاتُوا) دونَ غيرِهِم وهُم ملائكةُ النَّهارِ، إمَّا للاكْتفاءِ بذِكْر أحدِ المثلَيْن عن الآخر، نحو: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81]، أيْ: والبَرْدَ.
          وإمَّا لأنَّه استعملَ (بَاتَ) في «أَقامَ» مَجازاً، فلا يختصّ ذلك بليْلٍ دون نهارٍ، ولا بِنَهارٍ دون ليْلٍ، فكُلُّ طائفةٍ منهم إذا صعدتْ سُئلَت.
          ويُؤيِّدُ هذا ما رَواهُ النَّسائيُّ(8) عَن مُوسى بنِ عُقْبةَ، عَن أَبي الزِّنَادِ: «ثُمَّ يَعْرُجُ الذين كانُوا فِيْكُم».
          فعروجُ ملائكةِ اللَّيل بعد الفَجْرِ، وعروجُ ملائكةِ النَّهارِ فيْه قَولان:
          أَحدُهما: إنَّهما يصعدان في صلاة العَصْرِ.
          والثَّاني: إنَّهما يصعدان في صلاة العشاءِ.
          والثَّاني مِنْهما مَرْجُوحٌ، والرَّاجحُ القَولُ الأوَّل، وهو ظاهرُ الحديثِ، كظاهرِ حديثِ صَوْم(9) الإثنين والخمِيْس: «إنَّهما يَوْمان تُعْرَضُ فيهما الأعْمالُ، فأحبُّ أنْ يُعْرَضَ عَمَلي وأَنا صائِمٌ»، وظاهرُ الحديثَين أنَّ حَفَظةَ النَّهار تصعد بَعْد العَصْرِ.
          ويمكن أنْ يقالَ على القَوْل المرجوح، أنَّ (ثُمَّ) في حديث / المصنِّفِ في قولِه: «ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِيْنَ...» إلى آخرِه للتَّراخي، فيشملُ العروج في صلاة العشاءِ، وأنَّ قولَه في الحديث الآخر: «وَأَنا صَائِمٌ»، معناهُ: وأَنا على أثر الصَّوْمِ، فيشمل ذلك.
          قوله: (فَيَسْألُهمْ)، ولابنِ عساكرَ: «فيَسْأَلُهم رَبُّهُمْ».
          قيل: الحكْمةُ فيه استدعاءُ شهادتِهم لبَني آدَمَ بالخيرِ، واستنطاقُهُم بما يقتضي التَّعطُّف عليهم؛ وذلك لإظْهارِ الحِكْمةِ في خَلْقِ نوعِ الإنسانِ في مُقابلة مَن قالَ مِن الملائكةِ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، أي: وقد وُجد فيهم مَن يُسبِّح ويُقدِّس مثلكم بنَصِّ شهادَتِكُم.
          وقالَ عِياضٌ(10): هذا السُّؤالُ على سبيْل التَّعبُّدِ للملائكةِ كما أُمِرُوا أنْ يكتبوا أعْمال بَني آدم، وهو سُبحانه وتعالى أعلمُ منَ الجميعِ بالجميْع.
          قولُه: (وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ) أي: بالمُصلِّين منَ الملائكة، فحذف صِلَة أفعل التَّفضيل، ويحتملُ أنَّ (أَعْلَمُ) بمعنى: عالم، فلا حذف.
          قوله: (كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي) هذا السُّؤال من الله للملائكةِ.
          قال العلَّامةُ ابنُ أبي جَمْرةَ: وقعَ السُّؤالُ عن آخرِ الأعمالِ؛ لأنَّ الأعمالَ بِخَواتِيمِهَا.
          قال: والعِبادُ المسؤولُ عنهُم همُ المذْكُورونَ في قولِه تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42].
          قولُه: (تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّوْنَ) أي: فقد شاهَدوا دُخولَهم في الصَّلاة، وهذا ظاهرٌ بالنِّسْبة لمن صلَّى في أوَّلِ الوَقْتِ.
          وأمَّا مَن شرعَ في أسْبابها بعد دُخوْلِ الوَقْتِ ولم يُصلِّ، والعازِمُ على الفِعْلِ في الوَقْت مع عَدَم الشُّروع في السَّبب: فهُما في حُكْم المصلِّي في أوَّل الوَقْتِ.
          وقوله: (وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّوْنَ) زيادةٌ في الجوابِ لإظْهار فَضيلةِ المُصلِّين، ولعِلْمهم أنَّه سُؤال تَعَطُّفٍ، وقد وقعَتْ في القُرآنِ كما في: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ...} [طه:17] الآيةَ، وفي السُّنَّةِ فإنَّه ╕ سُئلَ عنْ ماءِ البَحْرِ فقال: «الطَّهُوْرُ ماؤُه، الحِلُّ مِيْتَتُهُ».
          وإنَّما أخْبَروا عَن آخرِ أعمالِهم قبلَ أوَّلها؛ لأنَّه المسؤولُ عنْه؛ ولأنَّ(11) «الأعْمالَ بِخَواتِيْمِهَا» [خ¦6493].
          وفي الحديثِ الإخْبارُ بما نحنُ فيه من ضَبْطِ أحْوالِنا حتَّى نتحفَّظ في الأوامرِ والنَّواهي ونَفْرحَ في هذه الأوقاتِ بقُدُومِ رُسُلِ رَبِّنا وسُؤالِ رَبِّنا عَنَّا.
          وفيه إعلامُنا بحُبِّ ملائكةِ الله / لنا(12) لنزْدادَ فيهم حُبّاً ونتقرَّبَ إلى الله بذلك، وفيه كلامُ الله تعالى مَع ملائكتِه، وغير ذلكَ منَ الفوائدِ، واللهُ أعلمُ.
          وهذا الحديثُ ذكَرهُ البخاريُّ في باب: فضل صلاةِ العَصْرِ.


[1] من «ز1».
[2] كذا في الأصل، وفي «م»: التعقب.
[3] قال السيوطي في جمع الجوامع 2449: أخرجه الديلي عن معاذ.
[4] ذكره السيوطي في جمع الجوامع 404 وقال: أخرجه الديلمي عن سعد بن معاذ.
[5] كذا في الأصل، وفي «م»: يحصل.
[6] حلية الأولياء 12261 بلفظ: «ابن آدم؛ اذكرني بعد الفجر وبعد العصر ساعة أكفك ما بينهما».
[7] من هنا يبدأ السَّقط من «ف3».
[8] في المجتبى 485، وفي الكبرى 459، 7760، كلاهما من حديث مالك عن أبي الزناد وليس في إسناده موسى بن عقبة وكلاهما بلفظ: «باتوا».
[9] النسائي 2358.
[10] كما في فتح الباري 2/37.
[11] من «ز4» و«م».
[12] كذا في الأصل، وسقطت من «م».