حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس

          31- قوله: (عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ...) [خ¦509] إلى آخرِهِ.
          الحاصلُ: إنَّ أبا سَعيدٍ كان يُصلِّي في يَوْم جُمُعةٍ(1) إلى شيءٍ يَسْتُرُه منَ النَّاسِ، فأرادَ شابٌّ مِن بَني أبي مُعَيْطٍ أن يجتازَ بيْن يدَيْه، فدفَعَه أَبو سعيدٍ في صَدْرِه، فنظَرَ الشَّابُّ فَلَم يَجِدْ مَساغاً إلَّا بين يَدَيْه، فعادَ يَجْتازُ، فدفَعَه أبو سعيْدٍ أشَدَّ من الأُولى.
          فَنالَ الشَّابُّ مِن أبي سعيدٍ _أي: أصابَ مِن عِرْضِهِ بالشَّتْم_ ثمَّ دخَلَ على مَرْوانَ فشكَى إليه ما لَقِيَ من / أبي سعيدٍ، ودخَلَ أبو سعيدٍ خَلْفَه على مَرْوانَ فقالَ مَرْوانُ: ما لَك ولابنِ أَخِيكَ _أي: في الإسْلام_ يا أَبا سَعيدٍ؟
          قالَ: سمعْتُ النَّبيَّ صلعم يقولُ: «إذا صَلَّى أَحَدُكُمْ...» الحديثَ.
          قوله: (يَسْتُرُهُ) أي: يسْتُرُ ذلك الشَّيْءُ المُصلِّيَّ، والجمْلةُ صِفةٌ ﻟ (شَيْءٍ)، ولا فَرْق في الشَّيء السَّاتِر(2) بينَ كَوْنه جِداراً وَعَمُوداً وَعَصَاً وغير ذلك كخَطٍّ، وإنْ لم يكُنِ الخطُّ مشْروعاً عند المالكيَّةِ.
          قالَ الأُجْهُوْريُّ: قالَ في «المدوَّنة»: الخطُّ باطِلٌ.
          وقوله: (مِنَ النَّاسِ) مُتعلِّقٌ ﺑ (يَسْتُرُ).
          قوله: (أنْ يَجْتَازَ) أيْ: يمُرَّ، من الاجْتيازِ وهو المُرُور، لا مِن الجَوَازِ، خِلافاً للقَسْطلَّانيِّ(3).
          قولُه: (فَلْيَدْفَعْهُ) أيْ: دَفْعاً غيرَ قويٍّ، فيدفَعُه بلُطْفٍ. قالَ القُرْطُبيُّ ⌂: بالإشارةِ ولَطيفِ المَنْعِ(4).
          وهذا الدَّفْعُ مَنْدوبٌ.
          قال النَّووِيُّ ⌂: لا أعلمُ أَحداً مِن الفُقهاءِ قالَ بوُجوبِ هذا الدَّفْع، بلْ صرَّح أصحابُنا ▓ بأنَّه مَنْدوبٌ.
          نَعَمْ، قالَ أهْلُ الظَّاهرِ _أي: الظَّاهِرِيَّةُ_ بِوُجُوْبِه. انتهى.
          ومحلُّ طَلَبِ الدَّفْعِ على سبيْل النَّدْبِ إنْ كان هُناك سُتْرةٌ، فإنْ صلَّى إلى غير سُتْرةٍ فلا يطلب الدَّفْع لعدمِ حُرمةِ المُرور، بلْ هو مكْروهٌ، أوْ خلافُ الأَولى.
          والصَّلاةُ إلى السُّتْرة سُنَّةٌ؛ وحينئذٍ فيحرمُ المُرور بينها وبين المُصلِّي إنْ كان بينَه وبينها ثلاثة أذْرعٍ فأقلّ، وإلَّا فلا يحرم المرور ولا يسنُّ الدَّفْعُ.
          قوله: (فَإنْ أَبَى) أي: امْتنعَ الأَحَدُ مِن عدَمِ المرور، أوِ امتنعَ منْ كُلِّ شيءٍ إلَّا المرور فلم يمتنع منْه بلْ أَرَادَهُ.
          قولُه: (فَلْيُقَاتِلْهُ) بكَسْر اللَّام الجازِمة وسُكُونها.
          نقَلَ البَيْهقيُّ(5)، عنِ الإمامِ الشَّافِعيِّ أنَّ المرادَ بالمُقاتَلَة: دَفْعٌ أشدُّ منَ الدَّفْع الأوَّل.
          وقال أصحابُنا: يردُّه بأسهل الوُجوهِ، فإنْ أَبى فبالأشدِّ، ولو أدَّى إلى قَتْلِه فقَتَلَه فلا شيء عليه؛ لأنَّ الشَّارعَ أباحَ لَه مُقاتَلَتَه، والمُقاتَلَةُ المُباحةُ لا ضمان فيها، وليس المرادُ: المقاتلةَ بالسَّلاح ولا بالمشْي إليه، بلْ والمصلِّي بمَحلِّه بحيث تناله يَدُهُ، ولا يكون عمَلُه في مُدافَعَتِه كَثيراً.
          قوله: (فَإنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ) أي: كشَيْطان.
          أو إنَّ معناهُ: إنَّ الشَّيطان يحملُه على ذلك ويحرِّكُه عليه.
          أوْ إنَّه شيْطانٌ حقيقةً؛ لأنَّ الشَّيطان هو المارِدُ والخبيثُ مِن الإنسِ والجنِّ، قالَ تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112]؛ قالَه الأُجْهُوريُّ.
          وقالَ القَسْطلَّانيُّ(6): الشَّيْطانُ حقيقةٌ / في الجنِّيِّ، مَجازٌ في الإنْسيِّ.
          وهذا يدلُّ على حُرمة المُرورِ؛ فَفي الحدِيث: «لَوْ يَعْلَمُ المارُّ بين يَدَي المُصلِّي ماذا عَليْه منَ الإثْمِ، لَكَان عَلَيْه أنْ يَقِفَ أرْبعين خَرِيْفاً خَيْراً لَه مِنْ أن يَمُرَّ بين يَدَيْه»(7).
          وهذا الحديثُ ذَكَرَهُ البخاريُّ في باب: يرد المصلِّي مَن يمرّ بين يَدَيْهِ.


[1] كذا في الأصل، وفي «م»: الجمعة.
[2] كذا في الأصل، وسقطت من «م».
[3] إرشاد الساري 1/470.
[4] «المُفهِم لما أَشكل من تلْخيص كتاب مسلم» لأبي العبَّاس القُرْطبيِّ ░2/104▒.
[5] معرفة السنن والآثار 3/185.
[6] إرشاد الساري 1/471.
[7] متفق عليه [خ510] [م261/507] دون لفظة «من الإثم».