حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان

          2- قولُه: (عَنْ أَنَسٍ) [خ¦16] هُو ابنُ مالكٍ، الصَّحابيُّ المشْهورُ، خادِمُ رسولِ الله صلعم وقد خدمَه عشرةَ أعْوام فَلَم يقُل لَّه في فِعْلِ شيءٍ: «لِمَ فَعَلْته»، ولا في شيءٍ تركَه: «لمَ تَركْته»، ودعا لَه المصطفى صلعم حينَ قالتْ له أُمُّه: اُدع لخُوَيْدِمِكَ أَنس بكَثرة المالِ والوَلَد وطولِ العُمر فقال: «اللَّهُمَّ أكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ فِيْهِ، وأطِل عُمُرَهُ».
          وفي رِوايةٍ: «واغْفِرْ ذَنْبَهُ».
          فحقَّقَ اللهُ تعالى دُعاءَه فعاشَ مئة إلَّا سَنة، وكان يحمل نخله مرَّتَين في السَّنَة، وكان له بستان يجيء مِنْه ريحان رائحته كرائحة المسك، والأولاد مِن صُلْبِه نحو مئة ذَكَر، قالَ أنسٌ وقد حصل ما دعا به المُصطَفى صلعم: «وأَنا أرْجُو الرَّابِعةَ».
          أي: وهيَ المَغْفِرةُ.
          فإنْ قلتَ: يعارضُ هذا ما وردَ عنه صلعم أنَّه قال:
          «اللَّهمَّ مَنْ آمَنَ بِي وصَدَّقَني وعَلِمَ أنَّ ما جِئْتُ به هُو الحقُّ مِنْ عِنْدِكَ، فأقْلِلْ مالَهُ ووَلَدَهُ وحَبِّبْ إليْه لِقاءَكَ وعَجِّل لَّهُ القضاءَ، ومَنْ لم يُؤمن بي ولم يُصَدَّقْني ولم يعلَمْ أنَّ ما جئتُ بِه هو الحقُّ مِن عِنْدِكَ، فأكْثِرْ مالَهُ ووَلَدََه وأطِلْ عُمُرَهُ»!
          أُجِيْبَ بأنَّ هذا الحديثَ محمولٌ على مَن كان الغِنى شَرّاً له، وأمَّا حديثُ أَنسٍ فمحمولٌ على مَن لا يطغيه الغِنى، وقد وردَ في الحديْث القُدْسيِّ:
          «إنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لا يُصْلِحُه إلَّا الغِنَى ولَو أفْقَرْتُهُ لَفَسَدَ حالُهُ، وإنَّ مِنْ عِبادِي مَنْ لا يُصْلِحُهُ إلَّا الفَقْرُ ولَوْ أغْنَيْته لفَسَدَ حَالُه»(1).
          فاللهُ تعالى حكيمٌ في صُنْعِه.
          قوله: (ثَلَاثٌ) مُبتدأٌ، والمسوغُ للابتداء به كونُه صفةً لموصوفٍ محذوفٍ، أي: خصال ثلاث، وجملة (مَنْ كُنَّ...) إلى آخرِه خبَرُ المبتدإ، و(أن يكون) بَدَلٌ منْ قولِه (ثلاث).
          قوله: (مَنْ كُنَّ فِيْهِ) أي: حصلن ووجدن فيه، فكان تامَّة، والمرادُ بكونها فيه غلبتُها عَلَيه، وإنَّما خصَّت هذه الثَّلاثةُ بالذِّكْر لأنَّها أعمالُ قَلْبٍ لا يعرض لها الرِّياء.
          قوله: (وَجَدَ حَلَاوَةَ الإيْمانِ) أي: أصابَها، فهو متعدٍّ لمفعولٍ واحدٍ، وفي (حَلَاوة الإيمان) استعارةٌ بالكناية، حيثُ شبَّه الإيمانَ بشيءٍ حُلْوٍ بجامِع الرَّغبةِ في كلٍّ / تشبيهاً مُضْمراً في النَّفس على سبيْل الاستعارة بالكناية.
          وإثباتُ الحلاوة تخييلٌ باقٍ على حقيقتِه.
          أو مستعارٌ للاسْتلذاذِ بالحلاوة، والمعنى: ثلاث مَن اتَّصف بهنَّ أصابَ الميل إلى الطَّاعاتِ والاستلذاذ بها وإنْ كان فيها المشاقُّ كالصَّوْم والحجِّ في شدَّة الحرِّ، والجهاد في سبيلِ الله تعالى، فقد وردَ عَن عُتْبةَ(2) أنَّه قال: «كابَدْتُ الصَّلاةَ عِشْرين سنةٍ، ثمَّ استمتعتُ بها بقيَّةَ عُمري».
          وقوله «كابَدْتُ» بالمُوحَّدة، أي: صرتُ أفْعل الصَّلاة بمشقَّة وتعبٍ مدَّة عشرين سنة، ثمَّ صرتُ أتلذَّذ بها في بقيَّة عُمري.
          ورُوي عن الجُنيدِ ╩ أنَّه قال: «أهْلُ اللَّيلِ في لَيْلِهم ألَذُّ مِن أهْل اللَّهْوِ في لَهوهِم».
          وعَن إبراهيْمَ بنِ أَدْهَمَ ☺: «إنَّا لفي لذَّة، لو علمَها المُلُوك لجالَدونا عليها بالسُّيوفِ».
          قوله: (أَحَبَّ إلَيْهِ) منْصوبٌ لأنَّه خبرُ (يكُوْنَ).
          قالَ البَيْضَاوِيُّ(3): المرادُ بالحبِّ هُنا الحبُّ العَقْلي: الذي هو إيثارُ ما يقتضي العقلُ السَّليمُ رجحانَه، وإنْ كان على خلاف هَوى النَّفْس، كالمريض يَعافُ الدَّواءَ بطَبْعِه فينفرُ عنه، ويَميلُ إليه بمقتضى عقْلِه فيَهْوى تَناوَلَه لما يعلم أنَّ صلاحَه فيه.
          وإذا تأمَّل المرءُ أنَّ الشَّارِعَ لا يأمُر ولا ينهى إلَّا بما فيه صلاحٌ عاجِلٌ أوْ خلاصٌ آجِل، والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك، تمرَّن على الائتمار بأمْرِه بحيث يصير هواهُ تَبعاً له ويلتذذ بذلك التِذاذاً عقْلياً.
          إذِ الالتذاذُ العقليُّ إدراكُ ما هو كمال وخير منْ حيثُ هو كذلك، ومحبَّةُ الله على قسمَين: فَرْضٌ، ونَدْبٌ.
          فالفرضُ المحبَّةُ التي تبعث على امْتثال(4) أوامِرِه، والانتهاء عَن معاصيه، والرِّضا بما يُقدِّره.
          والنَّدْبُ أنْ يواظبَ على النَّوافل ويتجنَّب الوُقوع في الشُّبهات، والمتَّصف بذلك عُموماً نادِرٌ، وكذا محبَّةُ الرَّسُول على قسمَين، ويزاد: أن لا يتلقَّى شيئاً منَ المأْمورات والمنهيَّات إلَّا مِنْ مشْكاتِه، ولا يسلك إلَّا طريقته، ويرضى بما شرعه حتَّى لا يجد في نفسِه حَرَجاً ممَّا قضى، ويتخلَّق بأخلاقه في الجود والإيثارِ والحلم والتَّواضع وغيرها.
          فمَن جاهدَ نفسَه على ذلك وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمانِ، وتتفاوَتُ مَراتب المؤمنين بحسب ذلك، وإنَّما قال «أَحَبَّ» ولم يُثنِّ بأنْ يقولَ: أَحَبَّا؛ لاقْتران أَفْعل التَّفْضيل ﺑ (مَن)، وضميرُ (إلَيْه) عائدٌ على (مَن).
          قوله: (مِمَّا سِوَاهُمَا) متعلِّقٌ ﺑ (أَحَبَّ)، وهذا شاملٌ لجميْع المخْلوقاتِ فدخلَ نفسُه ومالُه ووالداهُ وأوْلادُه، وضميْر (سِوَاهُمَا) عائدٌ على (الله ورَسُوله).
          وفيه جوازُ جمع الله ورَسوله في ضميْرٍ واحدٍ.
          فإنْ قلْت: يُنافِي هذا ما وردَ أنَّ النَّبيَّ صلعم: قال للخَطيبِ الذي قالَ: ومَن يعصهما فقد غوى: «بِئْسَ الخطِيْبُ أنْتَ»!
          أُجِيْبَ بأنَّ المطْلوبَ في الخطبة الإيضاحُ والإطْنابُ، وهنا الإيجازُ.
          أوْ يقال: جمعهما هنا إشارة إلى أنَّ المعتبرَ هو المجموعُ من المحبَّتَين لا كُلُّ / واحدةٍ منهما؛ فإنَّها وحْدها لاغية إذْ لم ترتبط بالأُخرى، فمَن يدَّعي حُبَّ الله _مثَلاً_ ولا يحب رَسوله لا ينفعه ذلك، ويشيرُ إليه قولُه تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] فأوقعَ مُتابعتَه مُكْتَنَفةً بين محبَّة العِبادِ لله ومحبَّة الله للعِبادِ.
          وأمَّا أمْرُ الخطيْب بالإفْراد؛ فلأنَّ كلَّ واحدٍ من العِصْيانَيْن مستقلٌّ باستلزام الغَواية؛ إذِ العَطْفُ في تقديرِ التَّكْرير، والأصل استقلالُ كُلٍّ منَ المعطوفَين في الحكْم، ويشيرُ إليه قولُه تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فأعادَ {أَطِيعُوا} في {الرَّسُولَ} ولم يَعُدْه في {وَأُولِي الْأَمْرِ}؛ لأنَّهم لا استقلال لهم في الطَّاعة كاستقلالِ الرَّسولِ.
          أوْ يقال: إنَّ الجمْعَ بينهما في ضميرٍ واحدٍ سائغٌ للنَّبيِّ صلعم دُون غَيْره.
          قوله: (وَأنْ يُحِبَّ المَرْءَ...) إلى آخرِه، هذا وما بعْدَه من عطْفِ الخاصِّ على العامِّ؛ فإنَّ من جُملة امتثالِ الأمْرِ أن تُحبَّ غَيْرَكَ لله تعالى وتكْرَه العَوْدَ إلى الكُفرِ.
          أوْ منْ عَطْفِ اللَّازِم على الملْزوم.
          و(المَرْءَ) بالنَّصب مفعول (يُحِبَّ) وفاعلُه ضميرٌ يعود على (من)، وخصَّ (المَرْءَ) بالذِّكْرِ لشَرَفِه وإلَّا فمِثْله المرأة، ولا فرْقَ بين المؤمن والكافرِ، لكن محبَّة الكافرِ من حيث إنَّه مخلوق لله تعالى لا مِن حيثُ إنَّه متَّصفٌ بالكُفْر، فالميلُ للكافرِ بالقَلْب من حيثُ إنَّه كافر حَرامٌ.
          قوله: (لا يُحِبُّهُ إلَّا لله) جملةٌ حاليَّةٌ، أي: لا يُحبُّه لكونه أعْطى له شيئاً من الدُّنيا، بل لِّكونه عَبْداً مِن عِبَادِ الله تعالى مُشارِكاً له في العُبوديَّة.
          قالَ يحيى بنُ مُعاذٍ: «حقيقةُ الحبِّ في الله أنْ لا يزِيد بالبِرِّ ولا ينقص بالجفاءِ».
          قال النَّوَويُّ(5): أصلُ المحبَّةِ المَيلُ إلى ما يوافق المحب، ثمَّ الميلُ قد يكون إلى ما يستلذّه بحواسه كحُسن الصُّورة، أو لما يستلذّه بعَقْله كمحبَّة الفَضْل والكمالِ، وقد يكون لإحسانِه إليه ودَفْع المضار عنْه.
          فإنْ قلْتَ: المحبَّةُ أمْرٌ طبِيعيٌّ غريزيٌّ لا يدخل تحتَ الاختيارِ، فكيف يكُون مكلَّفاً بما لا يُطاق عادةً؟!
          قلْتُ: لم يرد فيه حبَّ الطَّبع، بلْ حبَّ الاختيارِ المُستندِ إلى أسبابِ الإيمان.
          قوله: (وَأنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُوْدَ في الكُفْرِ).
          فإنْ قُلت: إنَّ هذا يقتضي أنَّه كان أوَّلاً مُتلبِّساً بالكُفْر ثمَّ أسْلَمَ!؟
          أُجِيْبَ بأنَّ هذا ظاهرٌ بالنِّسْبة للصَّحابة؛ فإنَّهم سبقَ لهمُ الكُفْر، وأمَّا المُسْلمُ مِن أوَّل الأمْرِ فلا يتأتَّى لَه كراهة العَوْدِ إلى الكُفْر، إلَّا أن يقالَ: المرادُ بالعَوْد التَّلَبُّسُ والصَّيْرورةُ، أي: وأنْ يكْرَه أن يصير مُلْتبِساً بالكُفر، قالَ تعالى: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف:88]، ويستحيلُ على شُعيْبٍ أنْ يكون أوَّلاً كافِراً لأنَّه نَبِيٌّ.
          والمعنى: لتَصيرنَّ في مِلَّتِنا.
          فانْ قلْتَ: لم عدِّي العَوْد ﺑ (في) / مَع أنَّ المشهورَ تعدِّيه بـ: إلى؟!
          أُجِيْبَ بأنَّه ضُمِّن معنى الاستقرارِ، فكأنَّه قيل: إنْ يعودَ مُستقراً فيْه.
          قالَه الحافظُ(6)، وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّه يقتضي أنَّ المعتبرَ كراهةُ العَوْدِ إلى الكُفر على وَجْه الاستقرارِ فيْه لا العَوْد منْ غير استقرارٍ؛ ولِذا تعقَّبه العَيْنيُّ(7) بقوله: وفيْه تعسُّفٌ، وإنَّما (في) هُنا بمعنى: إلى.
          قوله: (كَمَا يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ) إنَّما شبَّه كراهةَ العَوْد في الكُفر بكراهة القَذْف في النَّارِ؛ لأنَّ كراهةَ القَذْفِ في النَّارِ أشدُّ على النَّفْسِ مِن غيرِها.
          وهذا الحديثُ ذكَرَه البُخاريُّ في باب [خ¦2/14-36]: مَنْ كَره أن يعُود إلى الكُفْر كما يكره أنْ يُلْقى في النَّارِ.


[1] ذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية 1/31-32 ░26، 27▒ وقال: هذا حديث لا يصح؛ أما الطريق الأول ففيه: يحيى بن عيسى الربلي. قال يحيى: ما هو بشيء. وقال ابن حبان: ساء حفظه وكثر وهمه فبطل الاجتماع به. وأن الطريق الثاني: ففيه الخشني. قال يحيى بن معين: ليس بشيء. قال الدارقطني: متروك، وصدقة فمجروح. وأخرجه الديلمي 8098.
[2] كذا في «ز1» و«ز5»، وفي «م»: عقبة.
[3] كما في الفتح 1/60، والكواكب الدراري 1/101.
[4] إلى هنا ينتهي السَّقط من الأصل.
[5] شرح النووي على صحيح مسلم 2/14.
[6] الفتح 1/62، وهو كذلك للكرماني 1/114.
[7] عمدة القاري 1/148، وتقد تعقب الكرماني صراحة.