حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة.

          292- قوله: (عَنْ أَبي سَعِيْدٍ...) [خ¦7518] إلى آخرِهِ.
          ختمَ المصنِّفُ كتابَه بهذا الحديْث الشَّريفِ إشارةً إلى حُسْنِ الخاتِمة، وإلى أنَّ مآلَ الأعمالِ الصَّالِحة النَّعيمُ الذي لا ينْقَطِع مَع رُؤية المُحبِّ الأكْبر، التي هي مجمع الإنعاماتِ.
          واعلمْ أنَّه وردَ أنَّ أهْلَ الجنَّة يكونون أوَّلاً في ضيافةِ الله ╡، ثمَّ في ضيافةِ رسولِ الله صلعم، ثمَّ في ضِيافةِ أبي بكْرٍ ╩، ثمَّ في ضيافة عُمر ╩، ثمَّ في ضيافةِ عليٍّ كرَّمَ اللهُ وَجْهَه.
          اللَّهمَّ متِّعنا بهذه الضيافات مِن غَيْر سابِقةِ عذابٍ.
          قوله: (لَبَّيْكَ) أي: أجبناكَ إجابةً بَعْد إجابةٍ.
          وقوله: (وَسَعْدَيْكَ) أي: أجبناكَ إجابةً سرِيعةً.
          واعلمْ أنَّ «لَبَّى» و«سَعْدى» لا يُضافانِ إلى الاسم الظَّاهرِ ولا إلى الضَّمِير الغائِبِ، فلا يضافانِ إلَّا إلى ضميْر المُخاطب، فتقول: لَبَّيْكَ، وسَعْدَيْكَ.
          فمعنى (لَبَّيْكَ) إقامَةٌ على إجابَتِكَ بَعْد إقَامةٍ، مِن أَلَبَّ بالمَكَانِ: إذا أَقامَ بِه.
          ومعنى (سَعْدَيْكَ) إسْعاداً لك بَعْد إسْعادٍ، أي: إجابةً لكَ بعْدَ إجابةٍ، فهو بمعنى (لَبَّيْكَ)، ولا يُستعمل (سَعْدَيْكَ) إلَّا بَعْد (لَبَّيْكَ)؛ لأن (لبَّيْك) هو الأصلُ في الإجابة، (وسَعْدَيْك) كالتَّأكيدِ لَها.
          وقد شَذَّ إضافةُ «لَبَّى» إلى الاسْم الظَّاهرِ في قولِه:
دَعَوْتُ لما نابَني مِسْوَراً                     فلَبَّى فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ
          وكذلك شذَّ إضافته إلى ضمير الغائبِ في قولِه:
          ... فَقُلْتُ: لَبَّيْهِ لمنْ يَدْعُوْنِي...
          ومذْهَبُ سِيبوَيْه أنَّ لبَّيْكَ مَصْدَرٌ مثنَّى لفْظاً، ومعناهُ التَّكْثيرُ، وهو نَصْبٌ على المصْدَرِيَّة، والعاملُ فيه محذوفٌ، يُقدَّر مِن معناهُ لا من لَفْظِه.
          وذَهَبُ يُوْنسُ إلى أنَّ (لَبَّيْكَ) اسمٌ مُفْرَدٌ مَقْصُورٌ، أصْلُه: لَبَّى، قُلِبَتْ ألِفُه ياءً للإضافة إلى الضَّمْير كما في: عَلَي وَلَدَيَّ.
          ورَدَّ عليه سيْبوَيْه، بأنَّه لو كانَ كذلك لما قُلِبَتْ مَع الظَّاهرِ في قولِه:
          ... فَلَبَّيْ يَدَي مِسْوَرِ
          وذهَبَ الأعْلَمُ إلى أنَّ الكافَ في (لَبَّيْكَ) حَرْفُ خِطابٍ لا مَوضِع لَه مِنَ الإعْراب، مثلُها في ذلك وردَ بقَولِهِم: «لَبَّيْه»، و«لَبَّيْ يَدَي مِسْوَرِ»، وبحَذْفِهم النُّون لأجلِها، ولم يحذفوها في «ذانِكَ»، وبأنَّها لا تلْحق الأسماءَ التي لا تُشبه الحرفَ.
          والعاملُ في (لَبَّيْكَ) محذُوفٌ يُقدَّر مِنْ معناهُ، أي: أُجيبُ، بخلافِ إخوانِه فيُقدَّر مِن لفظِها، نحو: سَعْدَيْكَ، وحَنانَيْكَ، ودَوَالَيْكَ، أي: أُسْعِدُ(1)، وأَتَحَنَّنُ، وأَتَدَاوَلُ.
          قولُه: (وَالخَيْرُ كُلُّهُ في يَدَيْكَ) خَصَّه رِعايةً للأدبِ، وإلَّا فالشَّرُّ في يدَيْه أيضاً، أي: الإنعامات بقُدْرتِك وإرادتِك، وإنَّما عبَّر باليدَين نَظَراً لعادة الإنسانِ مِن أنَّه إذا كان عِنْده خيرٌ يكُون بين يدَيْه.
          أوْ أنَّ لله يَدَيْن لا يَعْلَم حقيقتهما إلَّا هو سُبحانَه وتعالى.
          قوله: (أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ) أي: الذي أعطيتكم من نَعيْم الجنَّة.
          قوله: (أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ) المرادُ بالخلْقِ: الخلْقُ الذين لم يدْخُلُوا الجنَّةَ، إنْ كان الخِطابُ في (رَضِيْتُمْ) لأهْل الجنَّة جميعاً.
          وإنْ كان الخِطابُ لأُمَّة محمَّدٍ صلعم جميْعاً، فالمرادُ بالخلْقِ: ما عَدَا أُمَّة محمَّدٍ منْ أهْل الجنَّةِ.
          قوله: (أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي) أي: أنزلُه عليكُم.
          وقوْله: (فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً) أيْ: فهذا الرِّضا لا يَشُوبه ولا يُخالطه سخطٌ ولا غضبٌ، بلْ هو رِضاً محضٌ، ومفهومُه أنَّ لله أنْ يسخطَ على أهْل الجنَّةِ لأنَّه مُتفضِّلٌ عليهم بالإنعاماتِ كُلِّها، سواءٌ كانت دُنْيويَّةً أو أُخْرَويَّةً، وكيف لا والعَمَلُ المُتناهي لا يقتضي إلَّا جُزْاءً مُتناهياً.
          وبالجُمْلة: لا يَجِبُ على الله شَيْءٌ أَصْلاً.
          قالَه(2) الكِرْمانيُّ(3).
          وهو مأْخوذٌ مِن كلام ابنِ بطَّالٍ[10/517].
          وظاهرُ الحديْث أنَّ الرِّضَا أفضلُ من اللِّقاءِ، مَع أنَّ اللِّقاءَ أفضلُ منَ الرِّضا!؟
          وأُجِيْبَ بأنَّه لم يقُل بأنَّ الرِّضا أفضلُ مِن كُلِّ شيءٍ، بلْ أفضل من الإعطاءِ، فجاز أنْ يكونَ اللقاءُ أفضلُ منَ الرِّضا وهُو من الإعطاءِ، أو اللقاء مُستلزمٌ للرِّضا، فهُو من باب إطْلاقِ اللَّازِم وإرادة الملْزُوْم.
          كذا نقَلَه في «الكَواكِب»[25/210].
          قال في «الفَتْح»[13/488]: ويحتملُ أن يقالَ: المرادُ حُصُولُ أنواع الرِّضْوان، ومِن جُملتها اللِّقاءُ، وحينئذٍ فلا إشْكال.
          فإنْ قلْتَ: جاءَ في الحدِيث: «دُخُولُ الجنَّة تمامُ النِّعْمةِ والفَوْزُ منَ النَّارِ»، وقد ثبتَ أنَّه لا شيء أفضلُ من النَّظَر إلى وَجْهِ الله!؟
          قلتُ: يُجابُ بأنَّ تَمامَ النِّعْمةِ مَقْوُلٌ بالتَّشْكيكِ، فأجَلُّ الإنعاماتِ وأعظمُها رُؤيةُ المحبِّ الأعْظم، كما هو مَذْهَبُ أهْلِ السُّنَّة، خِلافاً لمن منَعَها مِن أهْل البِدَعِ(4).
          اللَّهمَّ اخْتِم لَنا بخاتِمة السَّعادةِ، واجعلْنا منَ الذِين لهمُ {الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، بِجَاهِ سَيِّدِنا ومولانا(5) محمَّدٍ صلعم ذِي الشَّفاعة، وآلِه وصَحْبه وسلَّم ذَوي السِّيادةِ.
          وصلَّى اللهُ على سيِّدِنا محمَّدٍ، وعلى آلِه وصَحْبِه وسلَّم(6).
          وكانَ الفَراغُ من تَأليف ذلك، يَوْمَ الأحدِ، تاسعَ شَهْرِ شَوَّالٍ الذي هو مِن شُهُور سَنة ░1202▒ اثنَين ومائتَين وألْف من الهِجْرة النَّبويَّة، على صاحبِها أفضلُ الصَّلاةُ والسَّلامُ(7).
          آمِيْن(8). /


[1] في هامش الأصل: أي: أعاون.
[2] كذا في الأصل، وفي «م»: قال.
[3] الكواكب الدراري 25/210.
[4] في الأصل زيادة: أي: فقد قال الزَّمخْشريُّ في قوله تعالى {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}: «ولا غاية للفوز وراءهُ النَّجاة من سخط الله والعقاب السَّرمدي، ونيل رضوانه والنَّعيم المخلَّدِ».
فهو مبنيٌّ على مذْهَبه الفاسِد أنه لا يُرى! نعوذُ بالله منْ هذا الاعتِقاد. اهـ . اج.
[5] زيادة من «ز5».
[6] في الأصل زيادة: قال مؤلفه حفظه الله.
[7] في الأصل: ووافقَ الفراغ من نَسْخ هذا الكتاب، قبيل عَصْر يوم الأربعاء، التَّاسع من شهر شوَّال، سنة ألف ومائتَين وستٍّ من الهِجْرة، وذلك على يد أفقر العبادِ إلى رحمة ربِّه الجليل المعز عبده: خليْل عِز.
اللَّهمَّ اغفر له ولوالدَيْه ولمشايخه ولأخوانه من المسلمين.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
[8] زيادة من «ت» و«ز2» و«م».