حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي

          288- قولُه: (أَنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي) [خ¦7405] الظَّنُّ بمَعنى الرَّجاء، أي: عِنْد رَجاءِ عَبْدي، فإنْ ظَنَّ أنِّي أعْفو عنه وأغْفِرُ له فَلَه ذلك، وإنْ ظَنَّ أنِّي أُعاقبُه وأؤاخذُه فكذلك.
          فينبغي للمَرْءِ أن يجتهدَ بقيام وظائفِ العِباداتِ، مُوقناً بأنَّ اللهَ يقبله ويغفرَ له لأنَّه وَعَدَه بذلك، وهُو لا يُخْلِفُ المْـِيعَادَ.
          فإنِ اعتقدَ أوْ ظنَّ خلافَ ذلك فهُو آيسٌ مِن رَحْمة الله وهو منَ الكبائرِ، ومَن ماتَ على ذلك وُكِّلَ إلى ظنِّه، وأمَّا ظنُّ المغفِرةِ مَع الإصْرارِ على المَعْصية؛ فذلك محضُ / الجهْلِ والغِرَّةُِ.
          وفيه إشارةٌ إلى ترْجيحِ جانبِ الرَّجاءِ على الخوْفِ، وقيَّدَه بعضُ أهْلِ التَّحقيقِ بالمُحتضِر، وأمَّا قبل ذلك فأقوالٌ ثالثها الاعتدال.
          قال الشَّيخُ الشَّعْرانيُّ: أنا دائماً مقدِّمٌ الرَّجاء؛ وذلك لأنَّه كلَّما خرجَ مِنِّي نَفَسٌ أجزِمُ بأنَّه لا يعود، فأنا دائماً في الاحتضارِ.
          وهذا شأنُ الخواصِ.
          قوله: (وَأَنَا مَعَهُ إذا ذَكَرَنِي) هذه مَعِيَّةٌ خصوصيَّةٌ، أي: معَه بالرَّحْمة والتَّوْفيقِ والهِداية والرِّعايةِ والإعانةِ، فهيَ غيرُ المَعيَّة المعلومةِ مِنْ قولِه تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]؛ فإنَّ مَعناها المَعيَّةُ بالعِلْم(1) والإحاطَةِ.
          قولُه: (فَإنْ ذَكَرَنِي) أي: بالتَّنْزيه والتَّقْدِيس وغيرِهما.
          وقوْله: (في نَفْسِهِ) أي: سِرّاً.
          قوله: (ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي) أي: رضيتُ عنْه، وأعددتُ لَه مِن النَّعيْم ما لَا عَيْنٌ رأَت، ولا أُذنٌ سمعتْ.
          قوله: (وَإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ) بفَتْح الميْم واللَّام، أي: جماعةٍ جَهْراً.
          قوله: (ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ) وهمُ الملأُ الأعْلى.
          ولا يلزم منْه تفضيل الملائكةِ على الأنبياءِ، لاحتمال أنْ يكون المرادُ بالملإ الذين هُم خَيْرٌ من ملإ الذَّاكرين الأنبِياءَ والشُّهداءَ، فلا ينحَصِر ذلك في الملائكةِ.
          وأيضاً؛ فإنَّ الخيْريَّة إنَّما حصلت بالذَّاكر والملأ مَعاً، فالجانبُ الذي فيه رَبُّ العِزَّة خيرٌ من الجانب الذي ليس فيه بلا ارتيابٍ، فالخيْريَّة حصلت بالنِّسبة للمَجْموع.
          قوْله: (وَإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ) بتشديدِ الياءِ.
          وقولُه: (بِشِبْرٍ) ولأبي ذَرٍّ، عنِ الكُشْميهَنيِّ: «شِبْراً»، بإسقاطِ الخافِض والنَّصْب، أي: مِقْدار شِبْرٍ.
          وقولُه: (ذِرَاعاً) بكسْرِ الذَّالِ المُعجَمة، أي: بقَدْرِ ذِراعٍ.
          وقوله: (تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ) ولأبي ذَرٍّ، عنِ الحَمُّوْييِّ: «مِنْهُ».
          وقوله: (بَاعَاً) أي: بقَدْر باعٍ، وهو طُولُ ذِراعي الإنسان وعَضُدَيْه وعُرْضُ صَدْرِه.
          وقوله: (وَإنْ) ولأبي ذَرٍّ، عن الحَمُّوْييِّ والمُسْتَمْلِيِّ: «وَمَنْ».
          قولُه: (هَرْوَلَةً) أي: إسْراعاً.
          يعني: إنَّ مَن تقرَّب إلَيَّ بطاعةٍ قليلةٍ، جازيتُه بمثوبةٍ عظيمةٍ، وكلَّما زادَ في الطَّاعة زِدْتُ في ثوابِه، وإنْ كان كيفيَّةُ إتيانِه بالطَّاعة على التَّأنِّي، فإتْياني بالثَّوابِ لَه على السُّرعة.
          والتَّقرُّبُ والهرْوَلَةُ مجازٌ على سبيْلِ المُشاكَلةِ والاسْتِعارةِ.
          وهذا الحديثُ ذَكَره البخاريُّ في باب: قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28].


[1] قوله: «المعية بالعلم» زيادة من الأصل، وفي «م»: العلم.