حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: مفاتيح الغيب خمس، لا يعلمها إلا الله

          287- قولُه: (مَفَاتِيْحُ الغَيْبِ خَمْسٌ، لا يَعْلَمُهَا إلَّا اللهُ) [خ¦7379] أي: إنَّ اللهَ تعالى يعلَمُ ما غابَ عنِ العِباد، وجعلَ للغَيْب مَفاتيْحَ على طرِيق الاستعارة؛ لأنَّ المفاتيْحَ يتوصَّل بها إلى ما في المخازن المستوثق منها بالأغْلاق والأقْفال، ومَن عَلِم المفاتيح وكيفيَّة فتحِها توصَّل إليها، فأراد أنَّه المتوصّل إلى المغيَّبات، المحيط علْمُه بها، فيعلم أوْقاتها وما في تعجيلها وتأخيرِها من الحِكَم، فيظهرها على ما اقتضته حِكْمته، وتعلَّقت به مَشيئته.
          وفيه دليلٌ على أنَّه تعالى يعلمُ الأشياءَ قبْلَ / وُقوعِها.
          والحكمةُ في كونها خَمْساً الإشارةُ إلى حَصْر العَوالم فيها.
          قوْله: (لا يَعْلَمُ مَا تَغِيْضُ الأَرْحَامُ إلَّا اللهُ) هذا إشارةٌ إلى ما يَزِيد في النَّفْس وينقص، أي: ما تحمله من الوَلَد على أيِّ حالٍ هُو مِن ذُكُوْرةٍ وأُنُوْثةٍ وعددٍ، فإنَّها تشتمل على واحدٍ واثنَين وثلاثةٍ وأربعةٍ.
          وهذا الحصْرُ يُنافِي أنَّ بعضَ الأوْلياءِ لَه الكشفُ.
          وأُجِيْبَ بأنَّ هذا الحصرَ بالنِّسْبة للعامَّة لا للخاصَّة.
          وقد وردَ أنَّ اللهَ لم يخرج النَّبيَّ صلعم من الدُّنيا حتَّى أطْلعه على كُلِّ شيءٍ.
          قوله: (وَلَا يَعْلَمُ مَا في غَدٍ إلَّا اللهُ) هذا إشارةٌ إلى أنواع الزَّمانِ وما فيها من الحوادِث، أي: لا يعلمُ ما في غدٍ مِن خيْرٍ وشَرٍّ إلَّا الله.
          وعبر بلفظِ (غَدٍ) لأنَّ حقيقتَه أقربُ الأزمنةِ، وإذا كان مَع قُربه لا يُعلَم حقيقة ما يقع فيه، فما بَعْده أحْرى.
          قوله: (وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي المَطَرُ أَحَدٌ إلَّا اللهُ) هذا إشارةٌ إلى العالم العُلْويِّ.
          أي: لا يعلم وَقْت أزمانِ المطَرِ مِن ليْلٍ أوْ نهارٍ إلَّا الله، نَعَم، إذا أمَرَ به عَلِمته الملائكةُ الموكَّلون به ومَن شاءَ اللهُ مِن خلْقِه.
          و(المَطَرُ) بالرَّفْع فاعلُ (يَأْتِي).
          و(أَحَدٌ) فاعِلُ (يَعْلَمُ).
          و(إلَّا اللهُ) بَدَلٌ مِن (أَحَدٌ).
          قولُه: (وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوْتُ إلَّا الله) هذا إشارةٌ إلى العالم السُّفلي.
          أي: لا تعلم نفْسٌ المكان الذي تموت فيه، فرُبَّما أقامتْ بأرضٍ وضربت أوتادها وقالت: لا أبرحُ منْها، فترْمي بها مرامي القَدَر حتَّى تموتَ في مكانٍ لم يخطر ببالها.
          كما رُوي أنَّ مَلَكَ الموْتِ مرَّ على سُليمان، فجعلَ ينظر إلى رجُلٍ مِن جُلسائه ويُديم النَّظَر إليه، فقال الرَّجُلُ: مَن هذا؟ فقال: مَلَكُ الموْتِ، فقال: كأنَّه يريدني، فَمُرِ الرِّيْحَ أنْ يحملَني ويُلْقيَني بالهِنْدِ. ففَعَلَ.
          فقالَ ملَكُ الموتِ: كان دوامُ نَظَري إليه تعجُّباً منْه؛ إذْ أُمِرْتُ أنْ أقبضَ رُوحَه بالهنْدِ وهو عِنْدك!
          وفي الطَّبرانيِّ [في] «الكَبِير»[461، 17564]، عن أُسامةَ بنِ زيدٍ قال: قال رسولُ الله صلعم: «ما جَعَلَ اللهُ منيَّةَ عَبْدٍ بأرْضٍ إلَّا جَعَلَ لَهُ فِيْها حَاجَةً».
          وأمَّا المنجِّمُ الذي يُخبر بوَقْتِ الغَيْثِ والموتِ، فإنَّه يقول بالقياسِ، والنَّظَر في المطالع بالدَّليلِ لا يكون غَيْبيّاً على أنَّه مُجرَّدُ ظنٍّ، والظَّنُّ غيرُ العِلْمِ.
          قوله: (وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُوْمُ السَّاعَةُ إلَّا اللهُ) هذا إشارةٌ إلى عُلُوم الآخِرة، فلا يعلمُ ذلك نَبِيٌّ مُرْسلٌ، ولا ملَكٌ مُقَرَّبٌ.
          قال بعضُ المفسِّرين: لا يعلمُ هذه الخمْس عِلْماً لَدُنِّيّاً ذاتِيّاً بلا واسِطةٍ إلَّا الله، فالعِلْمُ بهذه الصِّفة ممَّا اختصَّ الله به، وأمَّا بواسطةٍ فلا يختص به تعالى.
          وهذا الحديثُ ذَكَره البُخاريُّ في باب(1): قول الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن:26].


[1] كذا في الأصل، وسقطت من «م».