حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها

          283- قوله: (عَنِ الخَيْرِ) [خ¦7084] أي: أفعال البِرِّ مِن صلاةٍ وغيرها من / العِبادات.
          قوله: (عَنِ الشَّرِّ) أي: الفِتْنة، ووهن عُرا الإسلام، وفشوِّ الفِتْنة، واستيلاءِ الضَّلال.
          قولُه: (مَخَافَةَ أنْ يُدْرِكَنِي) علَّةٌ لقولِه: (وَكُنْتُ أسْألُ)، أي: لأجْل مَخافة أنْ يُدْرِكَني، وكلمة (أنْ) مصْدريَّةٌ.
          قوله: (وَشَرٍّ) أي: من كُفر، وقَتْلٍ، ونهبٍ، وإتْيان الفَواحش.
          قوله: (فَجَاءَنَا اللهُ بهذا الخَيْرِ) أي: أعطانا اللهُ هذا الخيْر وهو النُّبوَّة وما يتبعها من تشْييدِ مَباني الإسلامِ وهَدْم قواعِد الكُفر والضَّلالِ.
          قوله: (بَعْدَ هذا الخيْرِ) أي: الذي نحنُ فيه.
          قوله: (نَعَمْ) أي: بَعْدَه شرٌّ، وذلك إشارةٌ إلى وَقْعة عُثمان بن عفَّان ☺.
          قولُه: (قُلْتُ) هو مِن كلام حُذيفةَ.
          قوله: (قَالَ: نَعَمْ، وَفِيْهِ دَخَنٌ) إشارة إلى وِلاية عُمر بن عبد العزيز، فكان فيها الخيرُ، ولكن كان مشوباً بفِتَن، وتلك الفِتَنُ شبِيهةٌ بدُخَان النَّارِ، فهي فِتَنٌ قليلةٌ.
          أي: أنَّ الخيرَ الذي بعد الشَّرِّ ليس خَيْراً خالِصاً، بلْ فيه كُدُورةٌ بمَنزِلة الدُّخَانِ من النَّار.
          وقيل: المرادُ بالدَّخَنِ عدَمُ صَفْوة القُلُوبِ بعضها لبعضٍ.
          قالَ القاضي عِياضٌ(1): المرادُ بالشَّرِّ الأوَّلِ: الفِتَنُ التي وقعتْ بعد عُثمان، وبالخيْرِ الذي بعده: ما وقع في خلافة عُمر بنِ عبد العزيز، وبالذي (تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ): الأُمراءُ بَعْده، فكان فيهم مَن يتمسَّك بالسُّنَّة والعَدْل، وفيهم مَّن يدعو إلى البِدْعة ويعمل بالجَوْرِ.
          ويحتملُ أن يرادَ بالشَّرِّ: زمانُ قَتْلِ عُثمان، وبالخيْرِ بعْدَه: زمانُ خِلافةِ عليٍّ(2) ☺، والدَّخَنِ: الخوارِجُ ونحوُهم، والشِّرِّ بَعْده: زمانُ الذين يلْعنونه على المَنابِرِ.
          وقيل: ﻓ (تُنْكِرُ) خَبرٌ بمعنى الأمْرِ، أي: أنكر عليهم صُدور المنْكَر عنهم.
          قولهُ: (يَهْدُوْنَ بِغَيْرِ هَدْيٍ) أي: يدلّون النَّاس بغير هَدْيٍ، أي: استهداء ودليل، فتارةً يُصيبون وتارة يُخطئون، وكلُّ هذا بسبب عَدَم التَّمسُّك بالسُّنَّة مِن القوم الذين كانوا مَع عُمر ابن عبد العزيز.
          وقوله: (هَدْيٍ) بياءٍ واحدةٍ.
          وفي رِوايةٍ: (هَدْيِي) بزيادةِ ياءِ الإضافة بعد أُخرى، أي: بغَيْر طريقَتي.
          قوله: (تَعْرِفُ مِنْهُمْ) أي: الحقَّ تارةً.
          وقوله: (وَتُنْكِرُ) أي: تُنكِر الحقَّ تارةً أُخرى، بحيث لا تعرف أنَّه وقعَ منهم حقٌّ، بل لَّا يقولون إلَّا بالباطِل.
          قوله: (قُلْتُ) هو من كلام حُذَيفةَ.
          قوله: (دُعَاةٌ على أَبْوَابِ جَهَنَّمَ) بضمِّ الدَّالِ، جمعُ دَاعٍ، أي: جماعةٌ يدعون النَّاسَ إلى الضَّلالة ويصدُّونهم عن الهدْي بأنواعٍ من التَّلبُّس.
          وأطلقَ عليهم ذلك باعتبارِ ما يؤُولُ إليه حالُهم، كما يقال لمن أمرَ بفِعْلٍ مُحرَّمٍ: وقفَ على شَفير جهنَّم.
          وهذا إشارةٌ إلى الفِرَق الضَّالَّة، الذين كانوا في زمن الأئمَّة الأربعة المجتهدين، الحامِلين لهم على القَوْل بخَلْق القُرآنِ.
          وقوله: (على أَبْوَابِ جَهَنَّمَ) كِنايةٌ عن تمسُّكِهم بأسبابٍ مُوصِلةٍ إلى أبواب جهنَّم، فيدْخُلُون منْها.
          قوله: (مَنْ أَجَابَهُمْ إلَيْهَا) أي: مَن تبعهم في ضلالتِهم التي هي سبَبٌ في دُخُول جهنَّم.
          قولُه: (قَذَفُوْهُ فِيْهَا) أي: تسبَّبوا في قَذْفِه فيها.
          قوله: (جِلْدَتِنَا) بكسرِ الجيْم، وسكون اللَّامِ، أي: من أنفُسنا وعشيرتِنا، فهُم منْسوبُون إلينا لكونهم من العربِ.
          قوله: (وَيَتَكَلَّمُوْنَ بِألْسِنَتِنَا) أي: بلُغتِنا، وهُمْ في الظَّاهر على مِلَّتنا، وفي الباطِن مُخالفون.
          قوله: (جَمَاعَةَ المُسْلِمِيْنَ) وهُم أبو الحسنِ الأشْعَريُّ وجماعتُه / أهُلُ السُّنَّةِ.
          وقيل: أئمَّةُ العُلماءِ؛ لأنَّ اللهَ جعلَهم حُجَّةً على خَلْقِه وإليهم تفزع العامَّة في دِينها، وهمُ المعنيُّون بقولِه صلعم: «إنَّ اللهَ لَنْ يَجمَع أُمَّتي على ضَلَالَةٍ»(3).
          وقال آخَرون: همْ جماعةُ الصَّحابة، الذين قامُوا بالدِّين وقوَّموا عِمادَه، وثبَّتوا أوْتادَه.
          وقال آخَرونَ: جماعةُ أهْلِ الإسلامِ ما كانوا مُجتمِعين على أمْرٍ واجبٍ على أهْل المِلَل اتباعه، فإذا كان فيهم مُخالفٌ فلَيسوا مُجتمعين.
          قوله: (وَإمَامَهُمْ) أي: أمِيْرُهُم وإنْ جارَ.
          وعنْدَ مُسلمٍ[52/1847] مِن طرِيق أبي الأَسْوَدِ، عَن حُذيْفةَ: «تَسْمَعُ وتُطِيْعُ(4)، وإنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وأُخِذَ مالُكَ».
          وعنْدَ الطَّبَرانيِّ(5) في رِواية خالدِ بنِ سُبَيْعٍ: «فإنْ رأيتَ خَليْفةً فأكْرِمْهُ، وإنْ ضَرَبَ ظَهْرَكَ».
          قوله: (وَلَو أنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ) هو بفَتْح التَّاءِ الفَوقيَّة، والعين المهملة، والضَّاد المعجمة المشدَّدة، أي: تمسَّك بما يصبرك وتقوى به عَزائمك على اعْتِزالهم.
          وهذا كنايةٌ عن شدَّة المشقَّة، كقولهم: فُلانٌ يعضُّ على الحِجارة من شدَّة الألَم.
          أو المرادُ به اللزومُ، كقوله في الحديث الآخَر: «عَضُّوا عليها بالنَّواجِذ»[ت 2676، ـه 42_44، حم 17182].
          والمرادُ كما قال الطَّبريُّ(6): من الخير لزومُ الجماعة الذين في طاعةِ مَن اجتمعوا على تأميره، فمَن نكث بنيته خرجَ عن الجماعة، فإنْ لم يكن ثَمَّ إمامٌ وافترقَ النَّاسُ فِرَقاً فلْيعتزلِ الجميعَ إنِ استطاعَ خَشْية الوُقوع في الشَّرِّ.
          وهذا الحديثُ ذَكَره البخاريُّ في باب: كيف الأمْر إذا لم تكن جماعةٌ.


[1] إكمال المعلم 6/255.
[2] كذا في الأصل و«ز1» و«ز4» و«ز5» و«ف2» و«ف3»، وفي «ت» و«ز2» و«ز3» و«م»: عمر.
[3] لم أجده بهذا اللفظ وفي الطبراني 13623: «لم تجتمع أمتي على الضلالة أبداً...».
[4] بزيادة: «للأمير».
[5] لم أجده ونسبه في الفتح 13/36 للطبراني وبحثت في كتي الطبراني فلم أجده أيضاً.
[6] نقله عنه القسطلاني في الإرشاد 10/184.