حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: قال الله: يسب بنو آدم الدهر وأنا الدهر

          248-قوله: (يَسُبُّ ابْنُ آدَمَ الدَّهْرَ) [خ¦6181] بأنْ يقولَ: يا خَيْبة الدَّهْر، وهي الحرمانُ والخسْرانُ؛ وذلك لأنَّهم كانوا يزعمون أنَّ مُرُورَ الأيَّامِ واللَّيالي هو المُؤثِّر في هلاك الأنفُسِ، ويُنكرونَ مَلَكَ الموْتِ ويُنكرون قَبْضَه للأَرْواحِ بأمْرِ الله، ويُضيفون كلَّ حادِثةٍ تحدُث إلى الدَّهْر والزَّمانِ، وأشعارُهُم ناطِقةٌ بشكوى الزَّمانِ.
          وهذا مذْهَبُ الدَّهْريَّة من الكُفَّارِ الدُّهْريِّين(1) المُنْكِرين للصَّانع، المُعتقِدين أنَّ في كُلِّ ثلاثين ألْف سنةٍ يعودُ كلُّ شيءٍ إلى ما كانَ عليه، ويزعمون أنَّ هذا قد تكَرَّر مرَّاتٍ لا تَتناهى، فكابَرُوا المعْقُولَ وكذَّبوا المنقولَ، ووافَقَهُم مُشركُو العَرَبِ.
          وإليْه ذَهَبَ آخَرُونَ، ولكنَّهم مُعترِفُون بوُجودِ الصَّانعِ الإله الحقّ ╡، ولكنَّهم ينزِّهُون أنْ ينسب إليه المكاره، فيُضيفونها إلى الدَّهْر، فكانوا لذلك يَسُبُّون الدَّهْرَ.
          قوله: (وَأَنا الدَّهْرُ) أي: خالِقُه، ومُدبِّرُ الأُمور فيه، ومُقلِّبُه.
          قوله: (بِيَدِيْ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ) أي: بقُدْرَتي مَجيئهما وتعاقُبهما واختلافُ الأُمور فيهما.
          وعِنْد الإمامِ أحْمدَ[10442] مِن وَجْهٍ آخَرَ بسَنَدٍ صحيْحٍ، عَن أبي هُريرةَ: «لا تَسَبُّوا الدَّهْرَ، فإنَّ اللهَ قالَ: أنا الدَّهْرُ، الأيَّامُ واللَّيالي أُجَدِّدُها وأُبليها، وآتي بمَمْلُوْكٍ بعد مَملُوْكٍ».
          فإذا سبَّ ابنُ آدَمَ الدَّهْرَ على أنَّه فاعلُ هذه الأُمور، عادَ السَّبُّ إلى الله لأنَّه هُو الفاعلُ، والدَّهْرُ إنَّما هو ظَرْفٌ لمواقع هذه الأُموْرِ.
          قالَ المُحقِّقون: مَن نَسَبَ شيئاً من الأفْعالِ إلى الدَّهْر حقيقةً كَفَرَ.
          ومَن جَرى هذا اللَّفظُ على لِسانِه غير مُعتقِدٍ فليْسَ بكافرٍ، لكن يُكره له ذلك لتشبُّهِه بأهْل الكُفْر في الإطْلاقِ.
          وقال عِياضٌ(2): زَعَمَ مَن لا تحقيق لَه، أنَّ الدَّهْرَ مِن أَسماءِ الله، وهو غلَطٌ؛ فإنَّ الدَّهْرَ عِبارةٌ عن زمانِ الدُّنيا.
          وهذا الحديثُ ذكَره البخاريُّ في باب: «لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ».


[1] كذا في «ز2» و«ز3» و«م»، وليست في الأصل و«ز1» و«ز3» و«ز5».
[2] المشارق 1/262.