حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: جعل الله الرحمة مئة جزء فأمسك عنده تسعةً وتسعين...

          238- قوله: (جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِئَةَ جُزْءٍ) [خ¦6000] وفي حديْث سلْمانَ عند مُسلم[21/2753]: «إنَّ اللهَ خَلَقَ مِئَةَ رَحْمَةٍ يَوْم خَلَقَ السَّمواتِ والأرْضِ، كُلُّ رَحْمةٍ طِبَاقَ ما بَيْن السَّماءِ والأَرْضِ».
          قال القُرْطُبيُّ[المفهم 6/524]: يجوزُ أن يكونَ معنى (خَلَقَ): اخْتَرعَ وأَوْجَدَ.
          ويجوزُ أنْ يكونَ بمعنى: قَدَّر، في لُغة العربِ، فيكون المعنى: إنَّ اللهَ أظْهَرَ تقديرَه لذلك، يوم أظْهر تقدير السَّموات والأرضِ.
          وقوْلُه: «كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ / الأرضِ» المرادُ بها التَّعظيمُ والتَّكثيرُ، وقد وردَ التَّعظيمُ بهذا اللَّفظِ في اللُّغة والشَّرْعِ كثيراً.
          قوله: (مِئَةَ جُزْءٍ) ولأبي ذَرٍّ: «في مِئَةِ جُزْءٍ».
          قال في «الكَواكِب»[21/165]: هي ظَرْفيَّةٌ، يتمُّ المعنى بدُونها، أو مُتعلِّقةٌ بمَحذوفٍ، وفيه نوعُ مُبالغةٍ، حيثُ جَعَلَ الرَّحْمةَ مظْروفةً في مئة جُزْءٍ.
          فإن قلتَ: إنَّ رحمةَ الله تعالى عِبارةٌ عن تعلُّق قُدْرتِه، وهذا التَّعلُّق لا نهاية له، فليست رحمتُه محصورةً لا في مئةٍ ولا في مئتَين ولا في أكثر!؟
          أُجِيْبَ بأنَّ الحصْرَ في المئةِ على سبيْلِ التَّقْريبِ والتَّسْهيل للإفهام، فالمرادُ بالمئةِ التَّكْثيرُ لا الحقيقة.
          وقيل: المرادُ بها الحقيقةُ؛ وعَلَيه فيحتملُ أنْ تكون مُناسِبةً لعدد درجِ الجنَّةِ، والجنَّةُ محلُّ الرَّحْمةِ، فكانتْ كلُّ رحْمةٍ بإزاءِ دَرَجةٍ.
          وقد ثبَتَ أنَّه(1) «لا يَدْخُلُ أَحَدٌ الجنَّة إلَّا برَحْمةِ الله»، فمَن نالَتْه مِنْه رحْمةٌ واحِدةٌ كان أدنى أهْلِ الجنَّة منزلةً، وأعلاهُم مَن حصلتْ لَه جميعُ الأنواع مِن الرَّحْمةِ.
          قوله: (فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِيْنَ جُزْءاً).
          وفي رِواية عَطاءٍ: «وأَخَّرَ عِنْدَهُ تِسْعةً وتِسْعين رَحْمةٍ».
          وفي رِوايةِ العلاءِ بنِ عبد الرَّحمن، عَن أَبِيه، عن أبي هُريرةَ عِنْد مُسلمٍ[18/2752]: «وخَبَّأَ عِنْدَهُ مِئةً إلَّا واحِدةً».
          قوله: (وَأَنْزَلَ في الأَرْضِ جُزْءاً وَاحِداً) القِياسُ: وأنزلَ إلى الأرض، لكن حُروف الجرِّ يقومُ بعضُها مَقامَ بعضٍ.
          أو فيه تضمينُ فِعْلٍ، والغرضُ منْه المبالغةُ، يعني: أنزلَ رَحْمةً(2) واحدةً مُنتشرةً في جميع الأرض.
          وفي رِواية المقْبُريِّ: «وَأَنْزَلَ في خِلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً» [خ¦6469].
          وفي رِوايةِ عطَاءٍ(3): «أَنْزَلَ مِنْها رَحْمةً واحدةً بَيْنَ الجِنِّ والإنْسِ والبَهَائمِ».
          قوله: (فَمِنْ ذلِكَ الجُزْءِ).
          (مِنْ) للتَّعْليل، أي: مِن أجْل ذلك الجُزْءِ وهو الذي أنزلَه في الأرض.
          قوله: (يَتَرَاحَمُ الخَلْقُ) بالرَّاءِ والحاءِ المُهْملة، أي: يرحمُ بعضُهم بَعْضاً.
          قوله: (حَتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ).
          (حَتَّى) ابتدائيَّةٌ، فالفِعْلُ بعدها مرفوعٌ.
          وقوله: (حَافِرَهَا) هو كالظِّلفِ للشَّاة.
          قال ابنُ أبي جَمْرةَ: خَصَّ الفَرَسَ بالذِّكْر لأنَّها أشدُّ الحيوان المألوفِ الذي يُعاين المُخاطَبُون حَرَكَتَه مَع وَلَدِه، ولما في الفَرَس من الخفَّة والسُّرعةِ في التَّنقُّل، ومَع ذلك تتجنَّب أن يَصِلَ الضَّرَرُ منها لوَلَدِها.
          قوله: (خَشْيَةَ أنْ تُصِيْبَهُ) علَّةٌ ﻟ (تَرْفَعَ)، أيْ: خَشْية الإصابةِ.
          وفي رِواية عَطَاءٍ(4): «فَبِها يَتَعاطَفُون، وبِها يَتَراحَمُوْن، وبِها يَعْطِفُ الوَحْشُ على وَلَدِه».
          وفي حديث سلْمانَ(5): «فَبِهَا تَعْطِفُ الوالِدةُ على وَلَدِها، والوَحْشُ والطَّيْرُ بَعْضُها على بَعْضٍ»، وزادَ أنَّه يُكْملها يوم القيامةِ مِئة رَحْمةٍ بالرَّحْمة التي في الدُّنيا(6).
          قالَ ابنُ أبي جَمْرةَ: وفي هذا الحديث إدْخالُ السُّروْر على المؤمنين؛ لأنَّ العادَةَ أنَّ النَّفْسَ يكملُ فَرَحُها بما وُهِبَ لها إذا كان مَعلوماً.
          وفيه الحثُّ على الإيمان واتِّساع الرَّجاءِ في رحماتِ الله تعالى المُدَّخَرة.
          قال الحافظُ(7): قلتُ: وقد وقَعَ في آخرِ حديثِ سعيدٍ المَقْبُريِّ في الرّقاقِ [خ¦6469]: «فَلَو يَعْلَمُ الكافرُ بكُلِّ ما عِنْد الله منَ الرَّحْمةِ لم يَيْأَسْ منَ الجنَّة».
          وهذا الحديثُ ذكرَه البُخاريُّ في باب: «جَعَلَ اللهُ الرَّحْمةَ مئةَ جُزْءٍ».


[1] بلفظه نفسه حم 11504، 15273.
[2] كذا في الأصل و«ز1» وغيرهما، وسقطت من «م».
[3] مسلم 19/2752.
[4] مسلم 19/2752.
[5] مسلم 21/2753.
[6] ولفظ الزِّيادة في «صحيح مسلم»: «فإذا كان يَوْمُ القيامةِ أكْمَلَها اللهُ بهذه الرَّحْمةِ».
[7] الفتح 10/433.