حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه

          235- قولُه: (خَلَقَ الخَلْقَ) [خ¦5987].
          قال ابنُ أبي جَمْرةَ: يحتملُ أنْ يكونَ المرادُ ﺑ (الخَلْقَ) جَمِيعَ المَخلوقات، ويحتملُ أنْ يكونَ المُرادُ به المكلَّفين، أي: قَضاه وقَدَره.
          قوله: (إذا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ) ليس المرادُ بالفراغ ما كان ناشِئاً عن شُغل؛ لأنَّ المولى جَلَّ جلالُه لا يشغله شأْنٌ عن شأنٍ، بلِ المرادُ به أتمَّه وقَضاهُ.
          قوله: (قَالَتِ الرَّحِمُ) هذا القَوْلُ يحتملُ أنْ يكونَ بَعْد خَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ وإبرازِها في الوُجود.
          ويحتملُ أنْ يكونَ بَعْد خَلْقِها كتَبَها في اللَّوْح المَحْفوظِ، ولم يبرز بعد أي الآن إلَّا اللَّوْح والقَلَم.
          ويحتملُ أنْ يكونَ بعْدَ انتِهاءِ خَلْقِ أَرْواحِ بَني آدَمَ كالذَّرِّ عِنْد قولِه: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172] لما أخرجَهم مِن صُلْب آدَمَ كالذَّرِّ.
          وهذا القولُ يحتملُ أن يكونَ بلِسان الحالِ، ويحتملُ أنْ يكون بلسان المَقَالِ، قولانِ مشهورانِ، والثَّاني أرجحُ.
          وعلى الثَّاني، فهل تتكلَّم كما هي أو يخلق الله لها عِنْد كلامِها حياة وعقلاً؟
          قولان أيضاً مشهوران، والأوَّل أرجحُ لصَلاحية القُدْرة العامَّة التَّعلقِ لذلك، وَلِما في الأولَيْن مِن تخصيص عُمومِ لفظِ القرآن والحديْث بغير دليلٍ، ولما يلزم منْه من حصر قُدْرة القادِر التي لا يَحْصُرُها شيءٌ.
          ويجوزُ أن يكون الذي نسبَ إليه القولُ مَلَكٌ يتكلَّم على لسانِ الرَّحِمِ.
          قوله: (هذا) أي: قيامِي هذا بين يديكَ يا الله.
          قوله: (مَقَامُ العَائِذِ) أي: المستَجِيْر بك من القَطيْعة.
          قوله: (قَالَ) أي: اللهُ تعالى.
          وقوله: (نَعَمْ) هذا مقامُ العائذِ من القَطيعةِ.
          قوله: (أمَا) بتخفيفٍ كـ : ألَا، أداةُ استفتاحٍ.
          قوله: (أنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ) أي: أرْحَمَه وأحسنَ إليْه.
          قال ابنُ أبي جَمْرةَ: الوَصْلُ منَ الله كِنايةٌ عَن عَظِيْم إحسانِه، وإنَّما خاطبَ النَّاسَ بما يفهمونه، ولما كان أعظمَ ما يعطيه المحبوبُ لمُحَبِّه الوصالُ وهو القُربُ منْه، وإسعافُه بما يُرِيد، ومُساعَدَتُه على ما يُرضيه، وكانت حَقيقةُ ذلك مُستحيلةً في حَقِّ الله تعالى عُرِفَ أنَّ ذلك كِنايةٌ عن عظيم إحسانِه لعَبْدِه.
          قال: وكذا القولُ في القَطْع، هو كنايةٌ عن حرمانِه الإحسان.
          قال القُرْطُبيُّ(1): الرَّحِمُ التي تُوصَلُ عامَّةٌ وخاصَّةٌ.
          فالعامَّةُ رحمُ الدِّين، ويجبُ مواصلتُها بالتَّوادُدِ والتَّناصح والعَدْلِ والإنصاف والقِيام بالحقوق الواجِبة والمُستحبَّة.
          وأمَّا الرَّحِمُ الخاصَّة، فتزيدُ النَّفقَةَ على القَرِيْب، وتفقَّد أحْوالهم والتَّغافل عن زلَّاتهم، وتتفاوت مَراتب استحقاقِهم في ذلك.
          وقالَ ابنُ أبي جَمْرةَ: وتكونُ صِلَةُ الرَّحِم بالمالِ وبالعَوْن على الحاجة، وبدَفْع الضَّررِ، وبطلاقة الوَجْه، وبالدُّعاءِ، والمعنى الجامعُ إيصالُ ما أمكنَ من الخيْر ودفع ما أمكن من الشَّرِّ بحسَبِ الطَّاقة.
          وهذا إنَّما يستمرُّ إذا كان أهلُ الرَّحِم أهْلَ استقامةٍ.
          فإنْ كانُوا كُفَّاراً أو فُجَّاراً، فمُقاطعتهم في الله هي صِلَتهم بشرطِ بَذْلِ الجهدِ في وعظهم، ثمَّ إعْلامهم إذا / أصرُّوا أنَّ ذلك بسبب تخلُّفهم عنِ الحقِّ، ولا تسقط مَع ذلك صلتهم بالدُّعاءِ لهم بظهرِ الغَيْب أن يَعُودوا إلى الطَّرِيق المُثْلَى.
          وصِلَةُ الرَّحِمِ تزيدُ في العُمُرِ، وزيادةُ العُمر تحصلُ بأحدِ أُمورٍ أربعة:
          صِلَةُ الرَّحِمِ، والصَّدَقةُ، والسَّلامُ على مَن لقيتَ منَ الأُمَّة، وتسريحُ الرَّأسِ مَع اللِّحْيةِ.
          ومعنى زِيادة العُمر: البَرَكةُ فيه.
          أو: زيادةُ مُدَّةٍ فيه، بأنْ كانتْ مُعلَّقةً على فِعْلٍ واحدٍ مِن هذه الأفعالِ(2).
          فإنْ قلْتَ: المعلَّق من العُمُرِ على فِعْلٍ واحدٍ منْ هذه الأفْعالِ، إمَّا أنْ يتعلَّق علمُ الله بأنَّه يفعله، أو أنَّه لا يفعله، وحينئذ فلا فائدة للتَّعليقِ.
          قلتُ: فائدتُه الرَّغْبةُ في عَمَلِ هذه الأفْعال؛ لأنَّ مِن عَلِمَ أنَّ العُمر قد يكون منْه شيء معلَّقاً عليها، يرغبُ في فِعْلِها لئلَّا يفوته ما علق عليها.
          قوله: (قَالَتْ) أي: الرَّحِمُ: (بَلَى يَا رَبِّ).
          ولأبي ذَرٍّ: «بَلَى وَرَبِّ».
          وقَوله: (قَالَ) أي: اللهُ تعالى.
          وقوله: (هُوَ) أي: قوله (أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ...) إلى آخرِه.
          وقوله: (لَكِ) بكَسْرِ الكافِ، خطابٌ ﻟ (الرَّحِم)، وهو مُتعلِّقٌ بمحذوف خبرِ (هُوَ)، أي: مُوفًّى لكِ.
          وهذا الحديثُ ذَكَره البُخاريُّ في باب: «مَنْ وَصَلَ وَصَلَه اللهُ».


[1] المفهم 6/526.
[2] كذا في «ز1» و«ز2» و«ز3» و«ز5»، وليست في الأصل و«ت» و«م».