حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه

          234- قولُه: (إنَّ مِنْ أكْبَرِ الكَبَائِرِ) [خ¦5973] وللتِّرْمذيِّ[1902]: «إنَّ مِنَ الكَبَائِرِ».
          والأُوْلَى تَقْتضي أنَّ الكَبائرَ مُتفاوِتَةٌ بَعْضُها أكْبرُ مِن بعضٍ، وإليْه ذَهَبَ الجُمْهورُ، وإنَّما كانَ السَّبُّ مِن أكْبر الكبائرِ؛ لأنَّه نَوْعٌ مِنَ العُقُوقِ، وهو إساءةٌ في مُقابَلَةِ إحسانِ الوَالدَيْن وكُفْرانٌ لحقوقِهما.
          قوله: (وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ) هذا استبعادٌ من السَّائل؛ لأنَّ الطَّبْعَ المُسْتقيْمَ(1) يأبى ذلك، فَبيَّنَ في الجواب أنَّه وإنْ لم يتعاط السَّبّ بنفسِه في الأغلب الأكثرِ، لكن قد(2) يقَعُ منْه التَّسبُّبُ فيه، وهُو ما يمكن وُقوعه كثيراً.
          قوله: (قَالَ) أي: النَّبيُّ صلعم.
          قوله: (يَسُبُّ الرَّجُلُ) وفي رِوايةٍ للأَصِيْلِيِّ وأبي الوَقْتِ إسقاطُ لفظِ (الرَّجُلُ).
          قوله: (فَيَسُبُّ أَبَاهُ) يحتملُ أنْ يكونَ فاعِلُه ضَميراً راجعاً لفاعِل (يَسُبُّ) الأوَّل، ونِسْبةُ السَّبِّ إليه مَجازٌ لأنَّه تسَبَّبَ في سَبِّ أَبِيه وأُمِّه.
          ويحتملُ رُجوعُه ﻟ (الرَّجُلِ) المُضاف إليه فلا مَجاز، وإذا كان التَّسبُّبُ في سَبِّ الوالدَيْن من أكْبر الكَبائر، فأَولى سبّهما بالفِعْلِ.
          قالَ ابنُ بطَّالٍ(3): هذا الحديث أصلٌ في سدِّ الذَّرائع، ويُؤْخَذُ مِنْه أَنَّ مَن آلَ فِعْلُه إلى مُحرَّمٍ يَحرُمُ عليه ذلك الفِعْلُ، وإنْ لم يقصدْ إلى ما يحرم.
          والأصلُ في هذا الحديث قولُه تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ...} [الأنعام:108] الآيةَ.
          واستنبطَ منْه الماوَرْديُّ مَنْعَ بَيْعِ الثَّوْب الحرِيْر ممَّن يتحقَّق أنَّه يَلْبَسَهُ، والغُلامِ الأمْردِ ممَّن يتحقَّق أنَّه يُفْعَلُ به الفاحِشة، والعصيرِ ممَّن يتحقَّق أنَّه يتَّخذه خَمْراً.
          وقالَ الشَّيْخُ أبو محمَّدِ بنُ أبي جَمْرةَ: فيه دليلٌ على عِظَم حقِّ الوالدَيْن، وفيه العملُ بالغالبِ؛ لأنَّ الذي يَسُبُّ أبا الرَّجُلِ يجوزُ أنْ يَسُبَّ الآخرُ أباهُ ويجوزُ أنْ لا يفعل ذلك، لكنَّ الغالبَ أنَّه يُجيبه بنحوِ قولِه.
          وفيه مُراجَعَةُ الطَّالبِ لشَيْخه / فيما يقوله ممَّا يُشكل عليه.
          وفيه إثباتُ الكبائرِ.
          وفيه أنَّ الأصلَ يَفْضُلُ الفَرْعَ بأصلِ الوَضْعِ ولو فضله الفَرْع ببعضِ الصِّفاتِ.
          وهذا الحديثُ ذكَره البخاريُّ في باب: لا يَسُبُّ الرَّجُلُ والدَيْه.


[1] كذا في الأصل و«ز1» وغيرها، وفي «ت» و«م»: السليم.
[2] كذا في الأصل و«ز1» وغيرها، وسقطت من «ت» و«م».
[3] شرح البخاري 9/192 بلفظ (في قطع الذرائع).