حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام

          227- قولُه: (شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ) [خ¦5688] ليس المرادُ أنَّها تُستعمل صِرْفَةً في كُلِّ داءٍ، بلِ المرادُ أنَّها تارَةً تُستعمل مُفرَدةً وتَارة مُركَّبة، وَتارةً مَسْحُوقةً وتاْرةً غير مسحوْقَةٍ، وربَّما استُعملت أكْلاً وشُرْباً، وسَعُوْطاً وضِمَاداً، وغير ذلك.
          وقيل: إنَّ قولَه: (مِنْ كُلِّ دَاءٍ) عامٌّ مخصوصٌ بالدَّاءِ الذي يقبل العلاج بها، فإنَّها إنَّما تنفعُ من الأمْراض البارِدةِ، وأمَّا الحارَّةُ فلا.
          قال أهلُ العِلْم بالطِّبِّ: إنَّ طَبْعَ الحبَّة السَّوْداءِ حارٌّ يابِسٌ، وهي مُذهِبةٌ للنَّفخ نافِعةٌ من حُمَّى الرِّبْعِ والبَلْغَمِ، مُفتِّحةٌ للسُّدَدِ والرِّيْحِ، مجفِّفةٌ لِبِلَّةِ المَعِدةِ.
          وإذا دُقَّت وعُجنتْ بالعَسَلِ وشُرِبت بالماءِ الحارِّ أذابتِ الحصاةَ وأدرَّتِ البَوْلَ والطمث، وإذا دُقَّت ورُبطت بخِرْقَةٍ منْ كتَّانٍ وأدِيْم شَمُّها نفع من الزُّكام البارِد.
          وإذا نُقعَ منْها سبْعُ حَبَّاتٍ في لَبَنِ امرأةٍ وسعط بِه صاحبُ اليَرَقان أفادَه.
          وإذا شُرِبَ منْها وَزْنُ مِثْقالٍ بماءٍ أفادَ مِن ضِيْقِ النَّفَسِ، والضِّمادُ بها ينفعُ من الصُّداع البارِد، وإذا طُبخَت بخَلٍّ وتمضمضَ بها نفعتْ مِن وجَعِ الأسنانِ الكائن عنِ بَرْدٍ.
          وكان صلعم يصفُ الدَّواءَ بحسب ما يشاهِده من حالِ المريضِ، فلعلَّ قولَه: «في الحبَّةِ السَّوْداءِ» وافقَ مرض مَنْ مِزاجُه بارِدٌ، فيكونُ معنى قوله: «شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ»، أي: من هذا الجنْس الذي وقعَ القَوْلُ فيه.
          وقال الشَّيْخُ أبو محمَّدِ بنُ أبي جَمْرةَ: تكلَّم ناسٌ في هذا الحديْث، وخصوا عُمومَه، وردُّوه إلى قول أهْل الطِّبِّ والتَّجربة، ولا خفاء في غلطِ قائل ذلك؛ لأنَّا إذا صدَّقنا أهْلَ الطِّبِّ ومدار عِلْمِهم غالباً إنَّما هو على التَّجربة التي بناؤها على ظَنٍّ غالبٍ، فتصديقُ مَن لا يَنْطقُ عنِ الهوى أَولى بالقَبوْل مِن كلامِهم. انتهى.
          وقد تقدَّم في أوَّل القولة توجيهُ حملِه على عُمومه بأنْ يكونَ المرادُ بذلك ما هو أعمّ من الإفراد والتَّركيب، ولا محذور في ذلك ولا خروج عن ظاهرِ الحديث، واللهُ أَعلمُ.
          قوله: (إلَّا السَّامَ) أفادَ استثناؤُه أنَّه منَ الأدواءِ.
          قولُه: (قَالَ ابنُ شِهَابٍ) هو محمَّدُ بنُ مُسلمٍ، اشتهر بلَقَبِه / الذي هو الزُّهْرِيّ، وهو من مَشايخ الإمام مالكٍ ☺.
          قوله: (وَالحَبَّةُ السَّوْدَاءُ: الشُّوْنِيْزُ) كذا عطفه على تفسيْر ابنِ شِهابٍ ﻟ (السَّامَ)، فاقتضى ذلك أنَّ تفسيرَ(1) الحبَّة السَّوْداءِ أيضاً لهُ.
          والشُّوْنِيْزُ بضمِّ المُعجَمة، وسُكُونِ الواوِ، وكسرِ النُّون، وسكُون التَّحتانيَّة، بعدها زايٌ.
          قال القُرْطبيُّ(2): قيَّد بعضُ مشايخنا الشِّينَ بالفَتْح.
          و حكى عِياضٌ(3)، عنِ ابنِ الأعْرابيِّ أنَّه كَسَرَها، فأبدلَ الواوَ ياءً، فقال: «الشِّيْنِيْزُ».
          وتفسيرُ الحبَّة السَّوْداءِ بالشُّوْنيْزِ لشُهرة الشُّوْنيزِ عندهم إذ ذَّاك، وأمَّا الآن فالأمْرُ بالعكْس، والحبَّة السَّوْداءُ عِنْد أهْل العَصْرِ أشهرُ منَ الشُّوْنيزِ بكَثيرٍ.
          وتفسيرُها بالشُّونيْز هو الأكثرُ الأشهرُ، وهي الكَمُّوْنُ الأَسْوَدُ، ويقالُ لَه أيضاً: الكَمُّونُ الهِنْديُّ.
          ونقلَ إبراهيمُ الحرْبيُّ(4) في «غَرِيْب الحديْث» عنِ الحسنِ البَصْريِّ أنَّها الخَرْدَلُ.
          وحكى أبو عُبيدٍ الهَرَويُّ في «الغرِيبَين» أنَّها ثَمَرةُ البُطْمِ _بضَمِّ الموحَّدة، وسُكونِ المُهْمَلة_ واسمُ شَجَرَتِها الضِّرْوُ، بكَسْرِ المعْجَمةِ، وسكُونِ الرَّاءِ.
          قال الجوْهَريُّ: هُو صَمْغُ شَجَرةٍ تُدعى الكَمْكَامُ، تُجلَب مِن اليَمَنِ، ورائحتُها طَيِّبةٌ، وتُستعمل في البُخُورِ، وليست مُرادةً هُنا جَزْماً.
          وقالَ القُرْطُبيُّ(5): تفْسيرُها بالشُّوْنيْزِ أَولى من وَجْهَين:
          أحدهما: إنَّه قولُ الأكثرِ.
          والثَّاني: كثرةُ منافعِها بخلافِ الخرْدَلِ والبُطْمِ.
          وهذا الحديثُ ذكَره البخاريُّ في باب: الحبَّة السَّوْداء.


[1] كذا في الأصل، وسقطت من «م».
[2] المفهم 5/606.
[3] المشارق 2/260.
[4] لم أجده فيه.
[5] المفهم 5/605.