حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: نهى النبي عن الشرب من فم القربة أو السقاء

          224- قولُه: (نَهَى...) [خ¦5627] إلى آخرِه.
          اختلفَ في علَّة النَّهْيِ:
          فَقيل: عدمُ أمْن دُخولِ شيءٍ من الهوامِّ مَع الماءِ في جوْف السِّقاءِ، فيدخل فَمَ الشَّارِب وهو لا يشعُر؛ وهذا يقتضي أنَّه لو مَلأَ السِّقاءَ وهو يُشاهِد الماءَ الذي يدخل فيه ثمَّ ربطَه ربْطاً محكماً ثمَّ لمَّا أرادَ أن يَشْرَبَ حلَّه فشَرِب منْه لا يتناوَله النَّهْيُ.
          وقيل: «لأنَّ ذلك يُنْتِنُه»؛ وهذا يقتضي أنْ يكونَ النَّهْيُ خاصّاً بمَن يشربُ فيَتنفسُ داخلَ الإناءِ، أو باشَرَ بفَمِه باطنَ السِّقاءِ، أمَّا مَن صَبَّ منَ الفَمِ داخل فمه مِن غير مماسَّة فلَا.
          وقيْل: إنَّ الذي يشربُ مِن فَمِ السِّقاءِ قد يَغْلِبَه الماءُ فيَنْصَبُّ منْه أكْثرَ مِن حاجَتِه، فلا يأمَنُ مِن أنْ يَشْرَقَ به أو تبْتلَّ ثِيابُه.
          والنَّهْيُ للتَّنزِيه، قال ابنُ العَرَبيِّ(1): واحدةٌ ممَّا ذَكَر تكْفي في ثُبوْتِ الكراهةِ، وبمَجْمُوعِها تقوى الكراهة جدّاً.
          وقال ابنُ أبي جَمْرةَ: الذي يقتضيه الفِقْهُ أنَّه لا يبعد أن يكون النَّهْيُ بمجموعِ هذه الأُمور، وفيها ما يقتضي الكَراهة وما يقتضى التَّحْريم، والقاعدةُ في مِثْلِ ذلك ترْجيحُ القَولِ بالتَّحْريم. انتهى.
          وقال النَّوويُّ: اتَّفقوا على أنَّ النَّهْيَ هُنا للتَّنزِيه لا للتَّحْريمِ.
          كذا قالَ! وفي نقلِه الاتِّفاق نَظَرٌ، فقد نُقلَ عنْ مالكٍ أنَّه أجازَ الشُّرْبَ مِن أفْواه القِرَبِ، وقال: «لم يبلغني فيْه نهيٌ»، وبالغَ ابنُ بطَّالٍ في ردِّ هذا القَولِ، واعْتذرَ عَنْهُ ابنُ المنيرِ بأنَّه كان لا يحمل النَّهْي فيه على التَّحْرِيمِ.
          قال النَّوويُّ: ويُؤيِّد كون النَّهْي للتَّنزِيه أحاديث الرُّخصة في ذلك.
          قال الحافظُ مُتعقِّباً لهُ(2): لم أرَ في شيءٍ من الأحاديث المرْفُوعة ما يدلُّ على الجوازِ إلَّا مِن فِعْلِه صلعم، وأحاديثُ النَّهْيِ كلُّها مِن قولِه، فهي أرجحُ إذا نظرْنا لعِلَّة النَّهْي عن ذلك، فإنَّ جميعَ ما ذكرَهُ العُلماءُ في ذلك يقتضي أنَّه مأْمون منه صلعم:
          إمَّا أوَّلاً؛ فلِعصْمتِه وطيب نكهته.
          وإمَّا ثانياً؛ فلرفقه / في صَبِّ الماءِ.
          قال الحافظُ: قلتُ: ومن الأحاديثِ الواردةِ في الجواز، ما أخْرجَه التِّرْمذيُّ [1892] مِن حدِيثِ عبد الرَّحمن بنِ أبي عَمْرةَ، عَن جدَّتِه كَبْشةَ قالت: «دَخَلَ عليَّ رسولُ الله صلعم فَشَرِبَ مِنْ فِي قِرْبةٍ مُعلَّقةٍ».
          قالَ شيخُنا في «شَرْح التِّرْمذيِّ»(3): لو فُرِّقَ بين ما يكون لعُذْرٍ، كأنْ تكون القِرْبةُ مُعلَّقةً ولم يجِدِ المحتاجُ إلى الشُّرْبِ إناءً مُتيسّراً، أو لم يتمكَّن من التَّناول بكَفِّه، فلا كراهة حينئذٍ، وعلى ذلك تُحملُ الأحاديثُ المذْكُورة.
          وبينَ ما يكون لغَير عُذْر، فيحمل على أحاديث النَّهْيِ.
          قلتُ: ويُؤيِّده أنَّ أحاديثَ الجوازِ كُلَّها فيها أنَّ القِرْبةَ كانت مُعلَّقةً، والشُّرْبُ منَ القِرْبةِ المُعلَّقةِ أخصُّ من الشُّرْب منْ مُطْلَقِ القِرْبة، ولا دَلالة في أخْبار الجوازِ على الرُّخصة مطلقاً، بلْ على تلك الصُّورة وَحْدَها، وحملها على حالِ الضَّرورة جمْعاً بين الخبَرَيْن أَوْلى مِن حمْلها على النَّسخ، واللهُ أعلمُ.
          قوله: (السِّقَاءِ) قالَ في «القامُوْس»: كَكِسَاءٍ: جِلْدُ السَّخْلَةِ إذا أَجْذَعَتْ يكُونُ للماءِ واللَّبَنِ، والجمْعُ: أَسْقِيَةٌ، وأَسْقِيَاتٌ، وأَسَاقٍ.
          وقوله: (والقِرْبَةِ) عطْفُ تفسيرٍ.
          قوله: (وَأَنْ يَمْنَعَ الرَّجُلُ جَارَهُ) أيْ: ونَهى أنْ يَمْنعَ الشَّخْصُ رجُلًا أوِ امْرأةً.
          قولُه: (خَشَبَهُ) بالهاءِ على الجمْع، فهُو جَمْعُ خَشَبةٍ.
          ولأبي ذَرٍّ: «خَشَبَةٌ»، بالفَوقيَّة على الإفْرادِ.
          قوله: (في دَارِهِ) ولأبي ذَرٍّ: «في جِدَارِهِ»، والضَّميرُ عائدٌ على الشَّخْص المانِع، والنَّهْيُ محمولٌ على التَّنزِيه، فيحتسب له أنْ لا يمنعه.
          وهذا الحديثُ ذكَره البخاريُّ في باب: الشُّرْب مِن فَمِ السِّقاءِ.


[1] نقله الحافظ ابن حجر عنه في الفتح 10/91.
[2] الفتح 10/91.
[3] الزين العراقي وما يزال النقل من الفتح.