حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: إن ناسًا يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم

          223- قوله: (أَتَى) [خ¦5615] بفَتْح الهمْزة، مبْنياً للفاعِل.
          ولأبي ذَرٍّ: «أُتِيَ»، بضمِّها، وكسرِ ثانيه، والفاعِلُ أوْ نائِبُه ضَمِيرٌ مُستترٌ عائدٌ على (عَلَيٌّ).
          قوله: (الرَّحَبَةِ) أي: رَحَبةِ الكُوفةِ، وهي بفَتْح الرَّاءِ والمُهْملة والموحَّدة: المَكانُ المُتَّسعُ.
          قوله: (فَشَرِبَ) أي: عليٌّ.
          وقوله: (قَائِماً) حالٌ مِن فاعِل(1) (شَرِبَ).
          قوله: (أَنْ يَشْرَبَ) في تأويلِ مَصْدَر مفْعول (يَكْرَهُ)، أي: يكْرَهُ الشُّرْب.
          و قوله: (وَهُوَ قَائِمٌ) أي: في حالَةِ القِيامِ.
          قوله: (كَمَا رَأَيْتُمُوْنِي) أي: من الشُّرْب قائماً.
          ويؤخذُ منَ الحديث أنَّ على العالِم إذا رأى النَّاسَ اجْتنبوا شيئاً وهو يعلم جوازَه أنْ يُوضِّحَ لهم وَجْهَ الصَّوابِ فيه خشيةَ أنْ يطولَ الأمْرُ فيُظنُّ تَحرِيمُه، وأنَّه متى خشيَ ذلك، فعَلَيه أنْ يُبادِر للإعلام بالحُكْم ولو لم يُسْئل، فإنْ سُئل تأكد الأمْرُ به وأنَّه إذا كَرِهَ منْ أحَدٍ شيئاً لا يشهره باسمِه، بل يكنِّي عنْه كما كان صلعم يفعلُ في مِثْلِ ذلك.
          واستدلَّ بهذا الحديث على جوازِ الشُّرْبِ للقائم، وهو مذهبُ الجُمْهورِ.
          وكَرِهَه قَوْمٌ لحديث أَنسٍ عِنْد مُسلمٍ[112/2024]: «إنَّ النَّبيَّ صلعم زَجَرَ عنِ الشُّرْبِ قائماً»، وحديثِ أبي هُريرة في مُسلمٍ(2) أيضاً: «لا يَشْرَبَنَّ أَحَدُكُمْ قائماً، فمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ».
          وفي لفظٍ(3): «لَو يَعْلَمُ الذي يَشْرَبُ وهُو قائمٌ، لاسْتَقَاءَ».
          وعِنْد أحمدَ[7990] مِن حديثِه أنَّه صلعم رأى رجُلًا يَشْربُ قائماً فقال: «قِهْ»، قال: لِمهْ؟! قال: «أيَسُرُّكَ أنْ يَشْربَ مَعَكَ الهِرُّ؟»، قال: لا.
          قال: «قدْ شَرِبَ مَعَكَ مَنْ هُو شَرٌّ مِنْهُ، الشَّيْطَانُ».
          وأخرجَ مُسلمٌ(4) مِن طَرِيقِ قَتادةَ، عَن أَنسٍ: «إنَّ النَّبيَّ صلعم نَهى أنْ يَشْربَ الرَّجُلُ قائماً».
          قال قَتادةُ: فقُلْنا لِأنسٍ: فالأكْلُ؟ قال: ذاك أشرُّ وأخْبثُ.
          قيلَ: وإنَّما جعل الأكل (أَشَرُّ) لطُول زمنِه بالنِّسْبة لزَمَن الشُّرْبِ.
          والذي يظهر: إنَّ أحاديثَ شُربه قائماً لبَيان الجوازِ، وأحاديثَ النَّهْيِ على الكراهة التَّنزيهيَّة، فالأَولى والأكْملُ الشُّرْبُ مِن جُلُوسٍ؛ لأنَّ في الشُّرْب قائماً ضرراً مَّا، فكرِه مِن أجله، لأنَّه يحرك خِلْطاً يكون القيءُ دَواءَهُ.
          وقوله في الحديث: «فَمَنْ نَسِيَ»، لا مفْهوم له، بلْ يستحب ذلك للعامِد أيضاً بطرِيق الأَولى، وإنَّما خصَّ النَّاسي بالذِّكْر لكون المؤمن لا يقع ذلك منه بعد النَّهْي غالباً إلَّا نِسْياناً.
          قال الحافظُ(5): وقد يُطْلق النِّسْيان ويُراد به التَّرْكُ ليشمل السَّهو والعَمد، فكأنَّه قيلَ: مَن تركَ امْتثال الأمْر وشَرِبَ قائماً فَلْيَسْتَقِئْ.
          وقد أنشدَ الحافظُ(6):
إذا رُمتَ تَشْرُبُ فاقْعُدْ تَفُز                     بسُّنَّة صَفْوَةِ أهْلِ الحجازِ
وقد صحَّحُوا شُربه قائماً                     ولكنَّه لبَيانِ الجَوازِ
          ووقَعَ للنَّوويِّ(7) ما مُلخَّصه: هذه الأحاديثُ أشكلَ معناها على بعْضِ العُلماءِ، / حتَّى قالَ فيها أقوالاً باطلةً وتجاسرَ ورامَ أنْ يُضعِّفَ بعضها، ولا وَجْه لذلك، وليس في الأحاديث إشكالٌ ولا فيها ضَعْفٌ.
          بلِ الصَّوابُ: إنَّ النَّهْيَ فيها محمولٌ على التَّنْزيه، وشُربَه قائماً لبيان الجوازِ.
          وأمَّا مَن زعمَ نَسْخاً أو غيره فقد غلطَ، فإنَّ النَّسْخَ لا يُصار إليه مَع إمكانِ الجمْع لو ثبتَ التَّاريخ، وفعله صلعم لبيانِ الجوازِ لا يكون في حقِّه مكروهاً أصْلاً، فإنَّه كما يفعل الشَّيء للبيان مرَّة أو مرَّات ويواظب على الأفضل، والأمْرُ بالاستقاءِ محمولٌ على الاستحبابِ.
          وللشُّرْب قائماً آفات كثيرة:
          مِنها: عَدَمُ الرِّيِّ التَّامّ.
          ومنْها: عدمُ الاستقرارِ في المَعِدَة حتَّى يَقْسِمَه الكبد على الأعضاء.
          ومنهَا: نزوله بسُرعة إلى المَعِدة، فيخشى منْه أن يبرد حرارتها.
          ومِنْها: إسراعُه النُّفُوذ إلى أسافل البَدَن بغير تدريج.
          ومنْهَا غير ذلك.
          وكما نهى عن الشُّرْبِ قائماً نهى عن الشُّرْب من ثُلْمَةِ القدح _أي: كَسْرِه_، كالأكْل مِن مَوضعِه، وإنَّما نُهي عن ذلك لأنَّه ربَّما يصب الماء عليه.
          ونهى عن النَّفْخ في الشَّرابِ والطَّعامِ.
          وهذا الحديثُ ذَكَرهُ البُخاريُّ في باب: الشُّرْب قائِماً.


[1] كذا في الأصل، وفي «م»: ضمير.
[2] 116/2026 بلفظ «أحد منكم».
[3] البيهقي 15038، حبان 5324.
[4] 113/2024 بلفظ: (أو أخبث).
[5] الفتح 10/83.
[6] كذا قال وهي لابن القيمة في أعلم وقيل للسيوطي.
[7] شرح مسلم 13/195.