حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض

          222- قولُه: (عَنْ أَبِي بَكْرَةَ) [خ¦5550] كُنيةُ الرَّاوِي، واسمُه: نُفَيْعُ بنُ الحارِثِ، أو: ابنُ كَلَدَةَ.
          و(بَكْرَةَ) بفَتْح الكافِ وإسْكانِها، واحِدُ البَكَرِ، وكُنِّي بذلك لأنَّه تَدلَّى للنَّبيِّ صلعم مِن حصنِ الطَّائف بِبَكْرَةٍ.
          قوله: (الزَّمَانُ) / ولأَبي ذَرٍّ: «إنَّ الزَّمَانَ».
          والحاصِلُ: إنَّ أهلَ الجاهِليَّة كانوا يحجُّون في كُلِّ شَهْرٍ عامَيْن، فحجُّوا في ذِي الحِجَّة عامَيْن، ثُمَّ حَجُّوا في المُحرَّم عامَين، ثمَّ حَجُّوا في صَفَرِ عامَين... وهكذا.
          فَوافَقَتْ حجَّةُ أبي بكْرٍ وكانتْ في سنة تسْعٍ السَّنةَ الثَّانيةَ من حَجَّتَي ذِي القَعْدَةِ، ثمَّ حجَّ النَّبيُّ صلعم سنةَ عشرٍ فوافقَ شَهْرَ الحجِّ وهو ذُو الحجَّة، فَوَقَفَ بعَرَفَة اليومَ التَّاسعَ، وخطبَ بمِنًى اليومَ العاشِرَ، وأعْلَمَهُم «إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتِدَارَ...».
          وكانُوا أصْحابَ حَرْبٍ، فإذا جاءَ المُحرَّمُ وهم محاربون شقَّ عليهم تَرْكُ القِتالِ فيُحِلُّونَه ويُحرِّمُونَ صَفَراً، فإذا حصل القِتال في صَفَرٍ أحَلُّوه وحَرَّمُوا ما بَعْدَهُ... وهكذا.
          فكانوا يُحرِّمُون من السَّنة أربعةَ أشْهُرٍ مُطْلقاً ليُوافِقُوا العَدَدَ الذي جعَلَه اللهُ تعالى، ورُبَّما زادوا في السَّنة، فيجعلون الشَّهْرَ الذي أَخَّرُوا فيه الحجَّ مُلغًى، فتكونُ تلك السَّنةُ ثلاثة عشر شهراً.
          وهذه الأُمورُ الثَّلاثةُ هيَ النَّسِيْءُ المذْكُور في قولِه تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ...} [التوبة:37] الآيةَ.
          قولُه: (كَهَيْئَتِهِ) أي: مثلُ حالته، فحِسابُ السَّنةِ قدِ استقامَ ورجعَ إلى الأصْلِ الموضوعِ، فقد أبطَلَ المُصطفى صلعم أمْرَ النَّسِيء.
          قوله: (يَوْمَ خَلَقَ) مُتعلِّقٌ بقوله: «هَيْئَتِهِ»، أي: الهيْئةُ التي كان عليها يَوْم... إلى آخرِه.
          قوْله: (السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً) هذا تأكيدٌ لإبْطالِ أمْرِ النَّسِيءِ، فإنَّه معلومٌ من الهيْئةِ.
          وفيه إشارةٌ إلى أنَّ أحْكامَ الشَّرْع تُبْنى على الشُّهور القَمَريَّة المَحْسُوبة بالأَهِلَّةِ دُون الشَّمْسيَّة.
          قوله: (مِنْهَا) أي: الاثني عشر.
          وقوله: (أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) قيلَ لَها (حُرُمٌ) لعِظَم حُرْمَتِها.
          قوله: (ثَلَاثٌ) حُذفتِ التَّاءُ منَ العَدَدِ لحذف المعْدود.
          ولابنِ عَساكرَ: «ثَلَاثَةٌ».
          وقولُه: (مُتَوَالِيَاتٌ) فيه رَدٌّ على الجاهِليَّة.
          قوله: (ذُوْ القَعْدَةِ) بَدَلٌ مِن «ثَلَاثٌ»، وهُو بفَتْح القافِ أفْصَحُ مِن كَسْرها، وسمِّي بذلك لقعودِهم عنِ القِتالِ فيْه.
          قوله: (وَذُوْ الحِجَّةِ) بكَسْر الحاءِ أَفْصَحُ مِن فَتْحها، سمِّي بذلك لوُقوع الحجِّ فيهِ.
          قوله: (وَالمُحَرَّمُ) سمِّي بذلك لتَحْريم القِتالِ فيْه.
          قوله: (وَرَجَبُ مُضَرَ) بالإضافةِ، ﻓ (مُضَرَ) مُضافٌ إليْه ممنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ للعَلَميَّة والتَّأنيث، وأُضيفَ إليها لأنَّها كانتْ تُحافظ على تحريمِه أشدَّ مِن محافظة سائرِ العرب، ولم يكن يستحلَّه أحدٌ من العربِ، وسُمِّي رَجَباً لتَرْجِيْبِ العربِ إيَّاهُ، أي: تعظيمِهم لَه.
          قوله: (الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ) ذكَره تأكيداً وإزالةً لِلرَّيْب الحادِث فيه من النَّسِيءِ.
          و(جُمَادَى) بضمِّ الجيْمِ، وبألِفِ التَّأنيثِ المقْصُورةِ.
          قوله: (أَيُّ شَهْرٍ هذا) قالَ القاضي البَيْضاوِيُّ(1): يُريد تذكارهم حُرْمة الشَّهْرِ وتقريرَها في نُفُوسهم ليبني عليها ما أرادَ تقريره، وإلَّا فهو صلعم يعرفه.
          قولُه: (قُلْنَا: اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَمُ) قالوا ذلك مُراعاةً للأدبِ وتحرُّزاً عن التَّقدُّم بين يَدَيْه صلعم وتوقفاً فيما لا يعلم الغرض من السُّؤال عنه، وإلَّا فهُم عالِمون بذلك الشَّهْر وأنَّه ذُو الحِجَّةِ.
          قوله: (ألَيَسْ ذُوْ الحِجَّةِ) استفهامٌ تقْرِيريٌّ بما بَعْد النَّفْي.
          و(ذُوْ) بالرَّفْع اسمُ (لَيْسَ)، وخَبَرُها محذوفٌ تقديرُه: أليْس ذُو الحجَّة هذا الشَّهْر؛ وهذه / رِوايةُ ابنِ عَساكِرَ، عنِ الحَمُّوْييِّ والمُسْتَمْلِيِّ.
          وفي رِوايةٍ أُخْرى: «ذَا الحِجَّةِ» بالنَّصْب خَبَرُ (لَيْسَ)، واسمُها ضميرٌ مُستترٌ عائدٌ على الشَّهْرِ.
          قوله: (بَلَى) أي: هُو ذُو الحِجَّةِ.
          قوله: (أَيُّ بَلَدٍ هذا) أي: الذي نحنُ فيه، وهو مَكَّةُ.
          قوله: (ألَيْسَ البَلْدَةَ) أي: أليسَ هذا البَلَد البَلْدة، أي: مكَّة التي جعلَها اللهُ حَراماً على الأبدِ، ووَجْهُ تسميتِها ﺑ (البَلْدَةَ) مع أنَّها تقعُ على سائر البلادِ أنَّها الجامعةُ للخَيْر المتفرِّق في سائر البلادِ، فهي المستحقَّةُ لِأنْ تُسمَّى بهذا الاسم.
          قوله: (قُلْنَا: بَلَى) أي: هي البلْدةُ.
          قوله: (فَأَيُّ يَوْمٍ هذا) أي: الذي نحنُ فيه، وهو يومُ النَّحْرِ.
          قوله: (ألَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ) أي: الذى تُنحر فيه الأضاحي في سائرِ الأقطارِ والهدايا بمنًى.
          وتمسَّك بهذا الحديث مَن خصَّ النَّحْرَ بِيَوْمِ العِيْدِ.
          ووَجْهُ ذلك أنَّ المصطفى صلعم أضافَ اليوم إلى جِنْس النَّحْرِ؛ فكأنَّه قال: اليوم الذي فيه النَّحْر، فاللَّامُ جنسيَّة فتعمُّ فلا يبقى نَحْرٌ إلَّا وهو في ذلك اليوم.
          قال القُرطُبيُّ: التَّمسُّكُ بهذه الإضافةِ ضعيفٌ مَع قولِ الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج:28].
          وأجابَ الجُمْهورُ عنِ الحديث: بأنَّ المُرادَ بالنَّحْرِ النَّحْرُ الكامِلُ الفاضِلُ، والألفُ واللَّامُ كثيراً مَّا تُستعمل في الكَمالِ نحو: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} [البقرة:177].
          وقوله صلعم: «وإنَّما الشَّديْدُ _أي: الكاملُ_ الذي يَمْلكُ نَفْسَه عِنْدَ الغَضَبِ» [خ¦6114]؛ ولِذا قيل: اليوم الأوَّل _وهُو يَوْمُ العِيْدِ_ أفضلُ.
          وقال المالِكيَّة: أيَّام النَّحْرِ ثلاثةٌ، مَبْدؤُها يوم النَّحْر بعد صلاةِ الإمام وذبحه في المُصلَّى، أي: نَدْباً.
          والمرادُ بالإمام: السُّلْطان، أو نائبُه على قولٍ، والمعتمدُ أنَّه إمامُ الصَّلاة.
          وأمَّا عِنْدنا مَعْشر الشَّافعيَّة آخِرُ وَقْتِ الذَّبْح، غروبُ الشَّمْسِ من آخرِ أيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلاثة بَعْد يوم العِيْد، لما وردَ: «في كُلِّ أيَّامِ التَّشْرِيْقِ ذَبْحٌ».
          رَواهُ ابنُ حِبَّانَ[3854].
          وقال أبو حَنيفَةَ وأحمدُ: يومانِ بَعْد النَّحْرِ، كقولِ المالِكيَّة.
          قوله: (قَالَ) أي: النَّبيُّ صلعم.
          قوله: (قَالَ مُحمَّدٌ) أي: ابنُ سِيْرِيْنَ، أحدُ رُواةِ الحديْثِ.
          قوله: (وَأَحْسِبُهُ) أي: أظنُّ أبا بَكْرَةَ، وهو شيخُ ابنِ سِيْرينَ.
          وقوله: (قَالَ) أي: في حديثِه.
          قوله: (وَأَعْرَاضَكُمْ) أي: أعْراضَ بعضِكم، وهي جمعُ عِرْضٍ، وهو موضعُ المَدْح والذَّمِّ مِن الإنسان، وإطْلاقُ العِرْضِ على النَّفْسِ مِن إطلاقِ المحلِّ على الحالِ.
          كذا في «النِّهايةِ»[3/208_209].
          قوله: (يَوْمِكُمْ هذا) وهو يومُ النَّحْرِ.
          وقوله: (بَلَدِكُمْ هذا) وهو مكَّةُ.
          وقوله: (شَهْرِكُمْ هذا) هو ذُو الحِجَّةِ.
          وسقطَ لفظُ (هذا) لأبي ذَرٍّ وابنِ عساكرَ.
          قوله: (وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ) أي: يوم القِيامةِ.
          وقوله: (فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ) أي فيُجازيكُم علَيها.
          قوله: (ألَا) تَنْبِيهٌ للحاضِرين، أي: تنبَّهوا.
          وقوله: (فَلَا) نهْيٌ لهم.
          قوله: (ضُلَّالاً) بضَمِّ الضَّادِ المُعجمةِ، وتشديدِ اللَّام الأُولى، جمعُ ضَالٍّ.
          وقوله: (يَضْرِبْ) بالجزْمِ في جَوابِ النَّهْيِ.
          قوله: (الشَّاهِدُ) أي: الحاضِرُ.
          وقوله: (الغَائِبَ) أي: عنِ المَجْلِس.
          قوله: (يَبْلُغُهُ) بفَتْح التَّحْتيَّة، وسُكون الموحَّدة، وضمِّ اللَّامِ.
          قوله: (أَوْعَى) بالواوِ السَّاكنةِ بَعْد الهمْزةِ المفْتُوحةِ، أي: أشدُّ وَعياً وحفْظاً.
          ولأبي ذَرٍّ، عن الحَمُّوْييِّ والمُسْتَمْلِيِّ: «أَرْعَى»، بالرَّاءِ بَدَلَ الواوِ، / أي: أشدُّ رعياً وحِفظاً لَه.
          قوله: (ثُمَّ قَالَ) أي: النَّبيُّ صلعم.
          قولُه: (هَلْ بَلَّغْتُ) هو استفهامُ تقريرٍ لهم بأنَّه بلَّغهم ما ذَكَره لهم.
          قوله: (مَرَّتَيْنِ) كَذا في رِواية أبي ذَرٍّ، عنِ المُسْتَمْلِيِّ.
          وفي رِوايةِ غَيْره إسقاطُها.
          وهذا الحديثُ ذكَرَه البخاريُّ في باب: مَن قالَ الأضْحى يَوْمُ النَّحْرِ.


[1] في كتابه تحفة الأبرار شرح مصابيح الستة 2/174.