حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: نهى النبي يوم خيبر عن لحوم الحمر ورخص...

          216- قولُه: (نَهَى النَّبِيُّ صلعم) [خ¦5520] أي: نهْيُ تحريمٍ.
          و قوله: (يَوْمَ خَيْبَرَ) أيْ: يَوْمَ حِصَارِها.
          وقولُه: (عَنْ لُحُوْمِ الحُمُرِ) أي: الأهْليَّة كما صُرِّح بها في رِواية مُسلمٍ[36/1941].
          قوله: (وَرَخَّصَ في لُحُوْمِ الخَيْلِ) استَدلَّ بهذا مَن قالَ بتَحْريم تَناول الخيْلِ؛ لأنَّ الرخصةَ استباحةُ محظورٍ مَع قِيام المانعِ، فدلَّ على أنَّه رَخَّصَ لهم بسبب المخمصة التي أصابتهُم بخَيْبرَ، فلا يدل على الحلِّ المُطْلقِ.
          وأُجِيْبَ بأنَّ أكْثر الرِّواياتِ جاءتْ بلفظِ الإذْن، وبعضها بالأمْرِ، فدلَّ على أنَّ المرادَ بقوله (رَخَّصَ): أَذِنَ، وأنَّ الإذنَ للإباحة العامَّة، لا لخصوص الضّرورة.
          والمشْهورُ عنْدَ المالكيَّة التَّحْريمُ، صحَّحَه في «المُحيط» و«الهِداية» و«الذَّخيرة» عَن أبي حَنيفَةَ، وخالفَه صاحِباهُ.
          واستدلَّ المانِعُونَ بقولِه تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8]، وقَرَّرُوا ذلك بأوْجُه:
          أحدها: إنَّ اللَّامَ للتَّعليل، فدلَّ على أنَّها لم تُخلق لغير ذلك؛ لأنَّ العِلَّةَ المنْصوصةَ تُفيدُ الحصْرَ، فإباحَةُ أكْلِها يقتضي خلافَ ظاهرِ الآيةِ.
          ثانيها: عَطْفُ البِغال والحميْرِ عليها، فدلَّ على اشتراكِها معَها في حُكم التَّحْريم، فيحتاج مَن أَفْرَدَ حُكْمها عن حكْم ما عُطِفَت عَلَيه إلى دليلٍ.
          ثالثها: إنَّ الآيةَ سيقتْ مَسَاقَ الامْتِنان، فلو كانَتْ ينتَفعُ بها في الأكْل لكان الامْتِنانُ به أعظم؛ لأنَّه يتعلَّق به بقاءُ البنية بغير واسطةٍ، والحكيمُ لا يمتن بأدنى النِّعَم ويترك أعْلاها، ولاسِيَّما وقد وقعَ الامْتنانُ بالأكْل في المذْكُوراتِ قَبْلَها.
          رابعها: لو أُبيح أكْلُها لفاتتِ المنْفعة بها فيما وقَعَ به الامتنان من الرُّكوب والزِّينة.
          هذا مُلخَّص ما تمسَّكُوا به من هذه الآيةِ.
          والجوابُ على سبيل الإجْمال:
          إنَّ الآيةَ مكِّيَّةٌ اتِّفاقاً، والإذْنَ في أكْل الخيْلِ كان بعد الهِجْرة من مكَّة بأكثر منْ سِتِّ سنين، فلو فَهِمَ النَّبيُّ صلعم من الآيةِ المنْعَ لما أذِنَ / في الأكْل.
          وأيضاً؛ فآيةُ النَّحْلِ ليستْ نصَّاً في مَنْع الأكْلِ، والحديثُ صَرِيحٌ في جوازِه.
          وأيضاً؛ على سبيلِ التنزل، فإنَّما يدلُّ على ما ذَكَر على تركِ الأكْل، والتَّركُ أعمُّ مِن أن يكون للتَّحْريم أو للتَّنزيه أو خلاف الأَولى، وإذا لم يتعيَّن واحدٌ منها بقيَ التَّمسُّك بالأدلَّة المصرِّحة بالجوازِ.
          وعلى سبِيل التَّفْصيلِ:
          أمَّا أوَّلاً: فلو سلَّمنا أنَّ اللَّامَ للتَّعْليل، لم نسلِّم إفادةَ الحصْر في الرّكوب والزِّينة، فإنَّه ينتفع بالخيل في غيرهما، وفي غير الأكل اتِّفاقاً، وإنَّما ذكر الركوب والزِّينة لكونهما أغلب ما يطلب له الخيلُ، ونَظيرُهُ حديثُ البقَرةِ المذكورةِ في «الصَّحيحَين»(1)، حين خاطَبَتْ راكبَها فقالتْ: «إنَّا لم نُخْلَقْ لهذا، إنَّما خُلِقْنا للحَرْثِ».
          فإنَّه مَع كونه أصرحُ في الحصْرِ، لم يقصد به إلَّا الأغلب، وإلَّا فهي تُؤكَلُ ويُنتفعُ بها في أشياءَ غير الحرْثِ اتِّفاقاً.
          وأيضاً؛ فلو سلم الاستدلال، للزِمَ مَنْع حمل الأثقالِ على الخيْلِ والبِغالِ والحميْر، ولا قائل به.
          وأمَّا ثانياً: فدلالةُ العطْف إنَّما هي دِلالةُ اقْتران، وهي ضعيفةٌ.
          وأمَّا ثالثاً: فالامْتنانُ إنَّما قصدَ به غالِباً ما كان يقعُ به انتفاعهم بالخيلِ، فخُوطبوا بما أَلِفُوا وعَرَفُوا، ولم يكونوا يَعْرِفُونَ أكْلَ الخيْلِ لعزَّتها في بلادِهم، بخلاف الأنْعام فإنَّ أكثر انتفاعِهم به كان لحملِ الأثقالِ وللأكْلِ، فاقتصر في كلٍّ مِن الصِّنْفَين على الامْتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزمَ من ذلك الحصر في هذا الشقِّ للزِمَ مثلُه في الشقِّ الآخَر.
          وأما رابعاً: فلو لَزِمَ منَ الإذْن في أكْلِها أنْ تَفْنى لَلَزِمَ مثله في البَقَر وغيرهما ممَّا أُبيح أكْلُه ووقعَ الامتنان بمنفعةٍ له أُخرى، واللهُ تعالى أعلمُ.
          وهذا الحديثُ ذكَره البخاريُّ في باب: لُحُوم الخيْلِ.


[1] خ 3471، م 13/2388 واللفظ لـ خ.