حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق

          204- قوله: (وَأَنا أَخَافُ على نَفْسِي العَنَتَ) [خ¦5076] أي: الزِّنا، وأصْلُ العَنَتِ المَشقَّةُ، ثمَّ استُعمل في الزِّنا لأنَّه سببُها.
          قوله: (وَلَا أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ بِه النِّسَاءِ) زادَ في رِواية / حَرْمَلَةَ: «ائْذَنْ لي أخْتَصِي»(1)، أي: أقطعُ ذَكَري خَوْفاً مِن الزِّنا.
          و إذا كانَ هذا الجليلُ القَدْر يخافُ على نفسِه، فما بالُك بغَيْره!
          فاللهُ تعالى قدِ ابتلى النَّوعَ الإنسانيَّ ببليَّةٍ ما أعْظمها! فركَّب فيه الشَّهوةَ، وسلَّطَ عليه النَّفْسَ والشَّيْطان والهوى، فإنْ صَرَفَ الشَّهْوةَ في حلالٍ فجَزاؤُه الجنَّة، وإنْ صَرَفَها في حَرامٍ فلَه النَّارُ.
          قوله: (جَفَّ القَلَمُ) أي: نفذَ المقْدورُ بما كُتب في اللَّوْح المحْفوظِ.
          قوله: (فَاخْتَصِ) بكَسْرِ الصَّادِ المُهْملة المخفَّفة، أَمْرٌ منَ الاخْتِصاءِ.
          وقوله: (على ذلِكَ) مُتعلِّقٌ بمَحذوف حال، والتَّقدير: فاخْتصِ حال استعلائك على العِلْم بأنَّ كُلَّ شيءٍ بقضاءِ الله وقَدَرِه لا مَفرَّ منْه.
          و قوله: (أَوْ ذَرْ) أي: اترُكِ الخِصاءَ.
          وفي رِواية الطَّبريِّ: «فَاخْتَصِرْ»، بالرَّاءِ بعْدَ الصَّادِ.
          معناهُ كما في «شَرْح المشْكاة»(2): اقْتَصِرْ على الذي أمَرْتُك بِه، والمناسب أنْ يقولَ: اقْتصِرْ على القَول الذي قلْتُه لكَ؛ إذْ لم يتقدَّم لصيغةِ الأمْرِ ذِكْرٌ.
          وقوله: (أَوْ ذَرْ) أي: اتْرُك ما قُلْته لكَ مِن قَولي «جَفَّ القَلَمُ»، وافْعَلِ الخِصاءَ، وعلى كُلِّ حالٍ فالنَّبيُّ صلعم مُخيِّرٌ لَه بين الخصاءِ وعدَمِه، ولم يعلمه شيئاً يقطع الشَّهوةِ للإشارةِ إلى أنَّه لا يجوز.
          وعلى الرِّوايتَين ليس الأمْرُ فيه لطَلَب الفِعْل، بلْ هو للتَّهْديد والتَّخْويفِ، كقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29].
          فقولُه: {فَلْيَكْفُرْ} للتَّهْديدِ، وأمَّا قَولُه: {فَلْيُؤْمِنْ} فالأمْرُ فيه على حقيقتِه.
          وكقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40].
          و هذا الحديث ذكَره البخاريُّ في باب: ما يُكْره من التَّبتُّل والخِصاءِ، من كتابِ النِّكاح.
          والمُرادُ بالتَّبتُّلِ الانقطاعُ عن النِّساءِ، وتَرْكُ التَّزوُّج لأجْلِ العِبادةِ.


[1] حم 6612، هق 13847، طب 11304، وغيرهم بلفظ: (أن أختصي) ولفظ (لي أختصي) فهو في مسند أبي عوانة 4007.
[2] ينظر: «الكاشف عن حقائق السُّنن» لشرف الدِّيْن الطيبيِّ ░2/ 542 – باز▒.