حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي

          195- قوله: (لمَّا حُفِرَ الخَنْدَقُ) [خ¦4101] أي: بإشارةِ سلْمان الفارِسيِّ فقالَ: «يا رسولَ الله، إنَّا كُنَّا بفارِسَ إذا حُوصِرْنا خَنْدَقْنا عَلَينا».
          فأمَرَ ╕ بحَفْرِه، وعَمِل فيه بنَفْسِه ترْغيْباً للمُسْلمينَ، فتَسارَعُوا الى عمَلِه حتَّى فَرغوا منْه، وجاءَ المُشْرِكُون فحاصروهم.
          وكان ذلك الحفرُ حين أرادَ الأحْزابُ وطَوائفُ المشْرِكين مِنْ قُريشٍ وغَطَفانَ واليَهُود ومَن تبِعَهم أَخْذَ الصَّحابة عَن آخرهم.
          وهي بَليَّةٌ عَظيمةٌ، أعظمُ مِن بَليَّةِ إبراهيم حين أُلقيَ في النَّار، وأعْظمُ مِنْ بلِيَّة مُوسى حين زحمَه فِرْعونُ على البَحْرِ.
          وتجمعتْ سائرُ القبائلِ مَع اليَهُود، وأَتوا المديْنة مِن فَوْق ومن أسْفل، ومُدَّةُ حصارِهم خمسةٌ وعشرون يوماً.
          وقيل: كانتْ عشرين يوماً.
          وكانت النُّصرة للمُسلمين، وكانتْ عدَّة المُسلمين ثلاثة آلاف، وعدَّة الكفَّارِ عشرة آلاف.
          وقيل: كانَ المسلمونَ نحو الألف والمشركون أرْبعة آلاف، ولم يكُن بينهم قِتال إلَّا مراماة بالنَّبلِ والحِجارة، وأُصيب فيها سَعْدُ بنُ مُعاذٍ بسَهْمٍ فكانَ سببَ مَوْتِه.
          وذكر أهلُ المَغازي سببَ رَحِيْلِهم، وأنَّ نُعَيْمَ بنَ مَسْعُودٍ الأَشْجَعيَّ ألقى بينهم الفِتْنة، فاختَلَفوا، وذلك بأمْرِ النَّبيِّ صلعم له بذلك، ثمَّ أرسلَ اللهُ عليهم الرِّيْحَ، فنفروا، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25].
          وكانتْ تلْك الغَزْوةِ سنةَ أرْبعٍ.
          وقيل: سنةَ خمْسٍ.
          قوله: (الخَنْدَقُ) وهو حفرة دائرة حَوْل المديْنة، وهُو بالرَّفْع نائِب فاعِل (حُفِرَ) المبْنيِّ للمَفعول.
          قولُه: (خَمَصَاً) بفَتْح الخاءِ والميْمِ، وقد تُسكَّن الميْم، أيْ: مُطوَّي البَطْنِ مُنْخسفة، لعَدَم ما فيْه منَ الأكْلِ، يقالُ: خَمَصَهُ الجُوْعُ، مِنْ بابِ ضَرَبَ، إذا ضمر بَطْنه وكانَ عاصباً بَطْنه بحَجَرٍ منَ الجُوْع، «وَلَبِثُوا ثلاثةَ أيَّامٍ لا يَذُوقُون ذَوَاقاً».
          قوله: (فَانْكَفَيْتُ) بفَتْح الفاءِ، بَعْدَها تَحتانيَّةٌ ساكِنةٌ، وأصْلُه: انْكَفَأْتُ بهَمْزةٍ، وكأنَّه سهَّلَها، أيْ: انقلَبَتُ وذهبْتُ إليها.
          قوله: (إلى امْرَأَتِي) اسمُها سهيلَةُ.
          قوله: (فَأَخْرَجَتْ) أي: امْرأَتي.
          وقوله: (إلَيَّ) بتشديدِ الياءِ.
          قوله: (جِرَابَاً) بكسْرِ الجيْم، ومن اللَّطائف: لا تَفْتَحِ الخِزانَةَ والجِرابَ، ولا تكْسِرِ القَصعةَ.
          قوله: (بُهَيْمَةٌ) بضمِّ الباءِ الموحَّدة، وفَتْحِ الهاءِ، مُصَغَّرُ بَهْمَةٍ، وهيَ الصَّغيرةُ من أَولادِ الغَنَمِ.
          قوله: (دَاجِنٌ) بكَسْر الجيْمِ، هيَ ما يُربَّى منَ الغَنَم في البُيُوتِ، ولا يخرُجُ إلى المرعى من الدَّجَنِ وهُو الإقامةُ بالمَكَانِ، وشأنُ الدَّاجِنِ أنْ تكونَ سَمينةً.
          قوْله: (فَذَبَحْتُهَا) بسُكون الحاءِ، وضمِّ التَّاءِ.
          وقوله: (وَطَحَنَتِ) بفَتْح الحاءِ المُهْملة، وفتْح / النُّونِ، وسُكُون التَّاءِ، فالذي ذَبَحَ هُو جابرٌ، وامرأتُه هيَ التي طَحَنَتْ.
          وفي رِواية سعيدٍ عِنْد أحمدَ[15070]: «فأمَرْتُ امْرأَتي فَطَحَنَتْ لَنا الشَّعِيْر، وصَنعتْ لنَا منْه خُبْزاً».
          قوله: (الشَّعِيْرَ) سقطَ لأبي ذَرٍّ وابنِ عَساكرَ.
          قوله: (فَفَزِعْتُ) بكسرِ الزَّاي، مِن بابِ طَرِبَ، أي: ذهبْتُ.
          و قولهُ: (إلى عَنَاقِيْ) أي: إلى لَحمِها؛ لأنَّه كانَ ذَبحها.
          وقولُه: (وَقَطَّعْتُهَا) أي: العَنَاق: أي: لحمها.
          وقوله: (في بُرْمَتِهَا) أي: المرأَة، أوِ العَنَاق، بأنْ يكونَ عنْدَهم بُرْمَةٌ مُعدَّة لها، والبُرْمةُ بضمِّ الباءِ وسكُون الرَّاءِ، هي القِدْرُ، ويُجمع على بِرَامٍ، بكَسْر الباءِ.
          قوله: (ثُمَّ وَلَّيْتُ) أي: رجعتُ.
          قوله: (لا تَفْضَحْنِي) بفَتْح الفَوقيَّة والضَّادِ، بينهُما فاءٌ ساكِنةٌ، يقال: فَضَحَهُ فافْتَضَحَ، أي: كشَفَ مَساوِيَهُ، وبابُه قَطَعَ، والاسمُ الفَضِيْحةُ والفُضُوْحُ أيضاً.
          قوله: (بِرَسُوْلِ الله) أي: عِنْده.
          قوله: (وَبِمَنْ مَعَهُ، فَجِئْتُهُ) و لأبي ذَرٍّ، عنِ الكُشْميهَنيِّ: «وَمَنْ مَعَهُ، فَجِئْتُ»، بحذْف الموحَّدةِ مِن قولِه (وَبِمَنْ مَعَهُ) والضَّميرِ في (فَجِئْتُهُ).
          قوله: (فَسَارَرْتُهُ) أي: كلَّمتُه سِرّاً.
          وقَوله: (فَقُلْتُ) لَه، أي: سِرّاً.
          قوله: (فَطَحَنَّا) بتشديد النُّونِ.
          ولأبي ذَرٍّ وابنِ عَساكرَ: «فَطَحَنَتْ»، أي: امْرأتُه.
          قوله: (وَنَفَرٌ) عَطْفٌ على الضَّميْر المُستَتِر في (تَعَالَ)، والنَّفَرُ: ما دُون العَشْرة من الرِّجالِ.
          قال في «المخْتار»: والنَّفَرُ بفَتْحَتَيْنِ: عِدَّةُ رِجَالٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ إلى عَشَرَةٍ. [انتهى](1).
          وفي رِوايةٍ: «فَتَعَالَ أَنْتَ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلان».
          وفي رِواية يُونس: «وَرَجُلَان»، بالجزْمِ.
          وفي رواية سَعْدٍ بعد هذه: «فَقُمْ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ».
          وفي رواية أحمدَ[15070]: «وكُنْتُ أُرِيْدُ أنْ ينْصرِفَ رسولُ الله صلعم وَحْدَهُ».
          قوله: (سُؤْراً) بالهمْزِ وتَرْكِه، وهو الطَّعامُ الذي يُدعى إليه النَّاسُ.
          والمهْموزُ في الأصل بمعنى البقيَّة، فأتى به لقِلَّة الطَّعام، وهي لفظةٌ فارِسيَّةٌ.
          قالَ الطِّيْبيُّ[شرح المشكاة 12/3763]: وقد تظاهرتْ أحاديثُ كثيرةٌ أنَّ رسُولَ الله صلعم تكلَّمَ بالألْفاظِ الفارِسيَّة، أي: كقولِه للحَسَنِ: «كِخْ».
          قوله: (حَيَّ هَلًا بِكُمْ) بالحاءِ المُهملةِ المفْتُوحةِ، وبالياءِ التَّحتيَّة المفْتوحة المشدَّدة، والهاءِ المفْتُوحة، واللَّام المنوَّنة مخفَّفة، كلمةُ اسْتِدعاءٍ، فيْها حَثٌّ، أي: هَلمُّوا مُسْرِعِيْن.
          قوله: (لا تُنْزِلُنَّ) بضمِّ التَّاءِ، وكسر الزَّاي، وضمِّ اللَّام، مبْنياً للفاعِل، والفاعلُ الواوُ المحذوفةُ لدَفْع الْتقاءِ السَّاكنَين، و(بُرْمَتَكُمْ) نصبٌ على المفعوليَّة.
          ولأبي ذَرٍّ: «لا تُنْزَلَنَّ»، بفَتْح الزَّاي واللَّام، مبْنيّاً للمَجهول، و«بُرْمَتُكُمْ» بالرَّفْع نائبُ فاعلٍ.
          قوله: (وَلَا تَخْبِزُنَّ) بفَتْح المثنَّاة الفَوْقيَّة، وكسر الباءِ الموحَّدة، وضمِّ الزَّاي، وتشديد النُّون، مبْنياً للفاعِل، و(عَجِيْنَكُمْ) نصبٌ على المفْعُوليَّة.
          ولأبي ذَرٍّ: «ولا يُخْبَزَنَّ»، بضمِّ المثنَّاة التَّحتيَّة، وفَتْح الباءِ الموحَّدة، وفَتْح الزَّاي، مبْنياً للمَجهولِ، و«عَجِيْنُكُمْ»، بالرَّفْع نائبُ فاعلٍ.
          قولُه: (حَتَّى أَجِيْءَ) أي: إلى مَنْزِلِكُم.
          قوله: (فَجِئْتُ...) الى آخِرِه.
          هذا من قولِ جابرٍ ╩.
          قوله: (يَقْدُمُ النَّاسَ) بضمِّ الدَّالِ، أيْ: يتقدَّمهم، يقالُ: قَدَمَ يَقْدُمُ، كـ : نَصَرَ يَنْصُرُ، قُدْماً بِوَزْنِ قُفْلٍ(2)، أيْ: تَقَدَّمَ، قالَ اللهُ تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود:98].
          قوله: (فَقَالَتْ) أي: لمَّا رأتْ كَثرةَ النَّاسِ وقلَّةَ الطَّعامِ.
          وقوله: (بِكَ وَبِكَ) أي: فَعَلَ اللهُ بِكَ كذا، وفَعَلَ بِكَ كذا، فالباءُ مُتعلِّقةٌ بمَحْذوفٍ، وهذا كِنايةٌ عَن عِتابِها لَه لخشْيَتِها منَ النَّبيِّ صلعم لقِلَّة ما عِنْدها.
          قوله: (فَقُلْتُ) / أي: لامْرأَتِي.
          و قوله: (الَّذِي قُلْتُ) أي: مِن إخْبارِه صلعم بقِلَّةِ الطَّعامِ، وقولكِ: (لا تَفْضَحْنِي).
          وقوله: (فَأَخْرَجَتْ) أي: المرأةُ.
          وقوله: (لَهُ) أي: للنَّبيِّ صلعم.
          قوله: (فَبَصَقَ) بالصَّادِ والزَّاي والسِّين، مِن بابِ نَصَرَ، فالبُصَاقُ والبُسَاقُ والبُزَاقُ كغُرَابٍ بمَعْنًى واحد، وهو ماءُ الفَمِ إذا خَرَجَ مِنْهُ، وَمَا دَامَ فِيْهِ فَهُو رِيْقٌ.
          وقوله: (فِيْهِ) أي: العَجيْن.
          و قوله: (وَبَارَكَ) أي: في العَجين، بأنْ دَعَا بالبَرَكةِ فيْه، أيْ: قالَ: اللَّهمَّ بارِكْ فيه.
          قوله: (ثُمَّ عَمَدَ) بفتْح الميْم، أي: قَصَدَ، وهُو ضِدُّ الخطإ.
          قوله: (فِيْهِ) أي: الطَّعام، كذا في رِواية أبي ذَرٍّ، عنِ الحَمُّوْييِّ والمُسْتَمْلِيِّ.
          ولأبي ذَرٍّ، عَن الكُشْميهَنيِّ: «فِيْهَا»، أي: البُرْمة.
          وفي رِوايةٍ حذفهما.
          قوله: (ثُمَّ قَالَ) أي: النَّبيُّ صلعم.
          قوله: (ادْعِي) بوَصْل الهمْزةِ، مِن دَعَا.
          وفي رِواية: «اُدْعُ لَهُ».
          قوله: (فَلْتَخْبِزْهُ) بكَسْرِ الباءِ الموحَّدة، مِن بابِ ضَرَبَ، مأخوذٌ من الخَبْزِ، بالفَتْح.
          وأمَّا الخُبْزُ بالضَّمِّ، فهو المعروفُ، واسمُ الفاعل: خابِزٌ.
          واللَّامُ للأمْرِ وهيَ ساكِنةٌ، والفِعْلُ مجْزُومٌ بِها.
          قوله: (وَاقْدَحِي) بسكون القافِ، وفتْح الدَّال المهملة، وكسر الحاءِ المهملة أيضاً، أي: اغْرِفِي(3)، والمِقْدَحَةُ تُسمَّى المِغْرَفَةَ، وقَدَحَ مِنَ المَرَقِ: غَرَفَ مِنْه.
          قوله: (وَلَا تُنْزِلُوْهَا) بضمِّ التَّاءِ الفوقيَّة، وكسرِ الزَّاي، أي: البُرْمةَ مِن فَوْق الأَثَافِيِّ(4).
          قوله: (وَهُمْ ألْفٌ) أي: والحالُ أنَّ القَوْمَ الذين أكَلوا (ألْفٌ).
          وفي رِوايةِ أبي نُعيْمٍ في «المُسْتَخْرَج»: «فأخْبَرني أنَّهم كانُوا تِسْع مئة، أو ثمان مِئة».
          وفي رواية عبد الواحِد بنِ أَيْمن عِنْد الإسْماعيليِّ: «كانُوا ثمان مِئة، أو ثلاث مئة».
          وفي رِواية أبي الزُّبيْر: «كَانوا ثَلاث مئة».
          والحكْم للزَّائدِ لمزيدِ عِلْمِه؛ ولأنَّ القصَّة متَّحدةٌ.
          قوله: (فَأُقْسِمُ بِالله) بصيغةِ الفِعْل المُضارع، وفاعِلُه ضميرٌ يعُودُ على جابرٍ، فهُو مِن كلامِه.
          قوله: (لأَكَلُوا) أي: عشرة بعد عشرةٍ بإذْن النَّبيِّ صلعم وهو جالسٌ معَهم، حتَّى أكَلُوا جميعاً.
          قوله: (وَانْحَرَفُوا) أي: مالُوا عنِ الطَّعامِ، يقَالُ: انْحَرَفَ وتَحَرَّفَ واحْرَوْرَفَ، أيْ: مالَ وعَدَلَ.
          قوله: (لَتَغِطُّ) بكَسْرِ الغَين المُعْجَمةِ، وتشديدِ الطَّاءِ المُهْمَلَةِ، أي: تفورُ وتغلي، بحيث يُسمع لها غطيطٌ، وكانوا يذْهَبون بطعامٍ وخُبْز لمن لم يحضرْ إلى بُيُوتِهم فصارُوا جميع نهارِهم في هدايا.
          وكلُّ ذلك ببَركَتِه صلعم، فلمَّا قامَ ╕ مِن عِنْدهم فرغَ الطَّعامُ، فهذه معجزةٌ عظيمةٌ مِن مُعجزاتِه صلعم.
          قوله: (كَمَا هُوَ) أي: لم ينقصْ منْه شيءٌ، و(مَا) في (كَمَا) كافَّة، وهي مقحمةٌ، فهي زائدةٌ كافَّة للكافِ عنِ العَمَلِ لدُخُول الكافِ على الجُملة الاسميَّة، وهو مبتدأٌ، والخبَرُ محذوفٌ، والتَّقْديرُ كما هو قبل ذلك.
          و هذا الحديثُ ذَكَره البخاريُّ في باب: غَزْوة الخنْدَقِ.


[1] ما بين الحاصرتَين منِّي.
[2] كذا في الأصل، وفي «م»: قتلا.
[3] همزة وصل وهو ما في لسان العرب.
[4] بهامش الأصل: أي: الكانون.