حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: أن رجلًا رأى كلبًا يأكل الثّرى من العطش

18- قوله: (أنَّ رَجُلاً) [خ¦173] مِن بَني إسْرائيلَ.
          وقَوله: (رَأَى) أي: أبْصَرَ.
          وقوله: (كَلْباً) مفعولُ (رَأَى)، وجملةُ (يأْكُلُ الثَّرَى) نعْتُه.
          والثَّرَى بفَتْح الثَّاءِ المثلَّثة والرَّاءِ، مَقْصوراً: هُو التُّرابُ النَّدِيُّ؛ كما في «المُختار»، بخلافِ الثَّرَاءِ بالمَدِّ فهُو: كَثرةُ المالِ.
          وقوله: (مِنَ العَطَشِ) أي: مِن أجْلِ شِدَّة العَطَشِ القائم به.
          وفي رِوايةٍ: «يَلْهَثُ» بَدَلَ (يأْكُلُ)، يقال: لَهَثَ بفَتْح الهاءِ وكَسْرِها يَلْهَثُ بفَتْحها، والمصْدَرُ اللَّهْثُ / كالضَّرْبِ، ولُهاثٌ كرُعَاف، ويقالُ: رَجُلٌ لَهْثانٌ وامْرأةٌ لَهْثَى، كعَطْشان وعَطْشَى، واللَّهَثَانُ: الذي يُخرج لسانَه منْ شِدَّة العَطَشِ والحرِّ.
          كذا في الأُجْهُوريِّ.
          وقال في «المخْتار»: اللَّهَثَانُ بفَتْح الهاءِ: العَطَشُ، وبسُكُونِها: العَطْشانُ، والمرأةُ لَهْثَةٌ، وبابُه طَرِبَ، فلَهَاثاً أيضاً بالفَتْح، واللُّهَاثُ بالضَّمِّ: حَرُّ العَطَشِ، ولَهَثَ الكَلْبُ: أخْرجَ لسانَه مِن العَطَشِ أوِ التَّعَبِ، وكذا الرَّجُلُ إذا أَعْيَا، وبابُه قَطَعَ، ولُهاثاً أيضاً بالضَّمِّ. انتهى.
          قوله: (يَغْرِفُ) بفَتْح الياءِ، وكسرِ الرَّاءِ.
          قال في «المصْباحِ»: غَرَفْتُ الماءَ غَرْفاً، مِنْ بابِ ضَرَبَ. [انتهى](1).
          قولُه: (حَتَّى أَرْوَاهُ) أي: جعَلَه رَيَّاناً.
          وقد وردَ في بعْضِ الرِّواياتِ [خ¦2466] [خ¦6009] [م 153/224]: «بَيْنما رجُلٌ يَمْشي بطَريقٍ، فاشتدَّ عليه الحرُّ(2)، فوجَدَ بِئْراً، فنزَلَ فيها فشَرِبَ، فخرَجَ، فإذا كَلْبٌ يَلْهَثُ الثَّرى منَ العَطَشِ، فقالَ الرَّجُلُ: لقد بلَغَ هذا الكَلْب منَ العَطَشِ مِثْل الذي نزَلَ بي.
          فنزلَ البِئْرَ، فمَلَأ خُفَّه ماءً، ثمَّ أمْسَكَه بفِيْه حتَّى رَقِيَ منَ البِئْر».
          أي: طلعَ مِنْه فسقاهُ.
          قوله: (فَشَكَرَ اللهُ لَهُ) أي: فأثنى عليه، أو جازاهُ، فالمرادُ بشُكْرِ الله الثَّناءُ أوِ المجازاةُ.
          قوله: (فَأَدْخَلَه الجنَّةَ) منْ باب عطْف الخاصِّ على العامِّ.
          ويحتملُ أنْ يكوْنَ العطْفُ للتَّفسير؛ فالفاءُ تفْسيريَّة على حَدِّ قولِه تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:54]؛ فإنَّ القَتْلَ هُو نفسُ التَّوْبةِ.
          وفي الرِّوايةِ الأُخرى: «فَشَكَرَ اللهُ لَه فَغَفَرَ لَه»، قالوا: يا رسولَ الله، إنَّ لَنا في البَهائمِ أجْراً؟ فقالَ: «إنَّ في كُلِّ كَبِدٍ حَرَّى رَطْبةٌ أجْراً».
          وقدِ استدلَّ بعْضُ المالِكيَّة للقولِ بطهارة الكَلْبِ بإيرادِ المؤلِّفِ هذا الحديث مِنْ كون الرَّجُل سقى الكَلْب في خُفِّه واستباحَ لبْسَه في الصَّلاة دُون غَسْلِه؛ إذْ لم يذكرِ الغسل في الحديث؟!
          وأُجِيْبَ عَن ذلك باحتمالِ أنْ يكونَ صَبُّ الماءِ منَ الخفِّ في شيءٍ كإناءٍ فسقاهُ.
          ولئن سلَّمنا أنَّه سقاهُ في الخفِّ، فلا يلزمنا؛ لأنَّ شَرْعَ مَن قَبْلَنا ليسَ شَرْعاً لَنا، وإنْ وردَ في شَرْعِنا ما يُقرِّرُه سلَّمنا أنَّه شَرْعٌ لنا على القول الضَّعيف عِنْدنا، لكن محلُّ ذلك إذا لم يَرِدْ في شرعِنا ناسخٌ.
          وقد وردَ النَّاسخُ في «صَحيْح مُسلمٍ»[89/279]: «إذا وَلَغَ الكَلْبُ في إناءِ أحَدِكُمْ، فَلْيغْسِلْهُ سَبْعَ مرَّاتٍ، إحْداهُنَّ بالتُّرابِ».
          قالَ الشَّيْخُ الأُجْهُوريُّ: ودليلُ الإمام مالكٍ على طهارة الكَلْبِ، أنَّ الكلابَ كانتْ تُقبل وتُدبر في مَسجِد المصطفى صلعم، ومِنْ شأنها وضعُ أفواهِها بالأرض، ولم يأمُرْ ╕ بإخْراجِها ولا بغسلِ ما مسَّته منْ أرضِ المسجدِ. انتهى.
          ويمكن أنْ يقالَ: يحتملُ أنْ لا يكون / هُناك رطوبةٌ، والدَّليلُ إذا طَرقَه الاحتمالُ سقطَ به الاستدلالُ.
          قال: وممَّا يدلُّ على طهارة عَيْن الكَلْبِ ورِيْقِه قولُه تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4]، فأمَرَنا اللهُ بأكْلِ ما أمسكَه الكَلْبُ علينا من الصَّيْدِ ولم يشرط علينا الرَّبُّ غسلَه، فدلَّ على طهارة رِيْقِه. انتهى.
          ويمكن أنْ يُقالَ: إنَّ الآيةَ تُقيَّدُ بدليلٍ آخَر، كحديث مُسلِمٍ: «إذا وَلَغَ الكَلْبُ»؛ فإنَّ الإمساكَ أبلغُ منَ الولوغ، فقَولُه تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} أي: بعد تطْهيرِه وغسلِه سَبْعاً إحْداهُنَّ بتُرابٍ طهورٍ.
          قال: وممَّا يدلُّ على طهارتِه أنَّه حيوانٌ لا يكَفَّر مُسَتْجِيزُ أَكْلِه. انتهى.
          وقد يقال: عَدَمُ الكُفْر إنَّما جاءَ مِنْ كون هذا الحُكْم غَيْرَ مُجمَعٍ عليه، لا مِن كون الكَلْب طاهِراً.
          قال: وممَّا يستدلُّ به على طهارة الكَلْبِ أنَّ غسلَ الإناءِ مِن ولوغ الكَلْب لا يدلُّ على نجاستِه، بل هو تعبديٌّ، كما أنَّ الوضوءَ وسائرَ الاغْتِسالات الواجبة في طهارة الأعضاءِ لا تُوجب نجاسةَ الأعْضاءِ. انتهى.
          وقد يُجاب بأنَّ القاعِدةَ أنَّ وُجوبَ الغسلِ إمَّا لحدَثٍ أو خَبَثٍ أو تَكْرُمةٍ، ولا حدَث على الإناءِ ولا تَكْرُمة له، فتعيَّن غسلُه عنِ الخبَثِ الحاصِل فيه من وُلُوغِ الكَلْبِ.
          قال: ولو كان الكَلْبُ نَجِساً لاكتفى في غَسْلِه بمرَّةٍ من غير تحديدٍ بسَبْعٍ. انتهى.
          ويمكن أنْ يقَال: إنَّه لم يكتف بالمرَّةِ لغِلَظِ أمْرِ نجاستِه، على أنَّ تحديدَ السَّبْع يقوِّي نَجاسَتَه لا طهارتَهُ.
          قال: وممَّا يُسْتدلُّ بِه، إنَّه لو كان الغسلُ سَبْعاً لأجْل عَيْن النَّجاسةِ لكان الخنزيرُ بذلك أَوْلى، مَع أنَّه لا يغسل إلَّا مرَّةً. انتهى.
          وقد يقال: لا نُسلِّم أنَّ الخنْزيرَ يغسل مرَّةً فقطْ، بلْ هُو مِثْلُ الكَلْبِ في وُجُوب السَّبع بلْ أَوْلى؛ إذْ هُو أسوأُ حالاً من الكَلْبِ.
          قال: وممَّا يُستدلُّ به على طهارة الكَلْب: إنَّ النَّبيَّ صلعم سُئل عنِ الحياض التي بينَ مكَّةَ والمديْنةِ فقيلَ لَه: إنَّها تردُها السِّباع والكلاب فقال: «لَها ما حَمَلْتْ في بُطُونِها، ولَنا مَا بقيَ شَراباً وطَهُوْراً». انتهى.
          وأُجِيْبَ باحتمالِ أن يكون الماءُ كثيراً.
          واعلمْ أنَّ أوَّلَ مَن اتَّخذَ الكَلْبَ نُوْحٌ ╕ قال: يا رَبّ أَمَرْتَني أنْ أصنعَ الفُلْك وأنا في صَناعَتِه أصْنَعُ أيَّاماً فيجيئونَ _أي: قومي_ باللَّيلِ يُفْسدونَ ما صَنَعْتُ، فَما يَلْتَئِمُ، _أي: يتمَّ_ أمْري فطالَ عليَّ أَمْري.
          فأوْحى اللهُ إليْه: يا نُوح، اتَّخذْ كلْباً يَحْرُسْكَ.
          فاتَّخذَ كلْباً، فكانَ نُوْحٌ يعمل بالنَّهارِ وينامُ باللَّيل، فإذا جاءَ قومُه ليفسدوا ما عَمِلَهُ هَجَمَهُمُ الكَلْب، فيتنبَّه نُوْحٌ، فيأخُذ عَصاً ويَثِبُ نُوْحٌ عليهم فيَنْهزمونَ.
          وفي / الكَلْبِ خمسةُ خصالٍ حميدةٍ، منْها:
          التَّأدُّب والتَّعظيم والتَّلقين، حتَّى لو وُضعتْ على رأْسِه مَسْرجَةٌ وطرحتَ له مأْكُولاً لم يلتفتْ إلى المأكُولِ ما دامَ على تلْك الحالة، فإذا أخذتها عنْه ذهبَ مُسرعاً إلى الطَّعام.
          ومنها: إنَّه يحفَظُ صاحِبَهُ شاهِداً وغائباً، وذاكِراً وغافلاً، ونائماً ويقظاناً.
          ومِنْها: التَّودُّد والتَّآلف، بحيث لو طُلب بعد الطَّرْدِ والضَّرْبِ رَجعَ(3).
          ومنها: إنَّه إذا لَاعَبَه صاحبُه عَضَّه عضّاً غير مُؤلمٍ، وهو أيقظُ الحيوان عَيْناً في وَقْتِ حاجتِه إلى النَّوْم، وإنَّما يَنامُ في وَقْتِ راحَتِه منَ الحراسة، وهو في نَوْمِه أسمعُ من الفَرَسِ، وفي حال نوْمِه أحْذَرُ مِن العَقْعَقِ(4).
          وإذا نامَ الكَلْبُ لا يطبق أجْفان عَيْنَيه لخِفَّةِ نَوْمِه؛ وسببُ خِفَّته أنَّ دِماغَه بارِدٌ.
          وممَّا وقَعَ لسَيِّدي أحْمدَ الرِّفاعِيِّ نفعَنا اللهُ تعالى بِه، أنَّ كلْباً حصَلَ له جُذامٌ فاستقذرته نُفُوسُ أهلِ بَلَدِه، وصارَ كُلُّ واحدٍ يطرده عَن بابِه، فأخَذَه سيِّدي أحمدُ الرِّفاعيُّ وخرجَ به إلى البَرِّيَّةِ وضَرَبَ عليه مظلَّةً، وصارَ يأكُلُ هو وإيَّاه، ويسقيه ويدهنه حتَّى عافاهُ اللهُ من الجذامِ بعد أربعين يَوْماً، فسخنَ لهُ ماءً فغسَلَه ودخَلَ به البَلَدَ.
          فقيلَ له: أتَعْتَني بهذا الكَلْب هذا الاعتناءَ كُلَّه؟!
          فقالَ: نَعَمْ، خِفْتُ أن يُؤاخذني اللهُ به يَوْم القيامةِ ويقول: أمَا عِنْدك رحمة لهذا الكَلْب، أمَا تَخشى أن أبتليك بما ابتليتُ بِه هذا الكَلْبَ.
          فينبغي حينئذٍ الرَّحْمة بالنَّاسِ، قالَ صلعم: «مَنْ لا يَرْحَمِ النَّاسَ لا يَرْحَمْهُ اللهُ، ومَنْ لا يَغْفِرْ لا يُغْفَرْ لَهُ»(5).
          ولما ذكر سيِّدي عبد الوَهَّابِ الشَّعرانيُّ(6) هذا الحديثَ قال: وقَعَ لزَوْجتي مَرَضٌ أشرفَتْ منْه على الهلاكِ، فإذا هاتفٌ يقولُ لَه: خلِّصِ الذُّبابةَ مِن حَبْلِ العَنْكَبوتِ في السَّقف الفلانيِّ مِن البَيْت، ونحنُ نُخلِّص لك عيالك.
          قال: فقُمتُ، فأخذْتُ مِصْباحاً وفتَّشتُ على الذُّبابة في ذلك السَّقْف، فوجدْتُها مُتكَعْبِلَةً في حَبْل العَنْكبوتِ، فخلَّصْتُها، فخلصت امْرأتي في الحالِ مِن ذلك المرضِ، كأنْ لم يكُن بها مَرَضٌ.
          وهذا الحديثُ ذكَرهُ البخاريُّ في باب(7): «إذا وَلَغَ الكَلْبُ في إناءِ أَحَدِكُم فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعاً».


[1] ما بين الحاصرتَين منِّي.
[2] إلى هنا ينتهي السَّقط في الأصل.
[3] قوله: «ومنها: التودد .... رجع» زيادة من الأصل و«ز1» و«ز5»، وسقطت من «م».
[4] في هامش «ز1»: أي: الغُراب.
[5] أخرجه أحمد بلفظ: «من لا يرحم لا يرحم ومن لا يغفر لا يغفر» 19264.
[6] نقله عنه تلميذه المناوي في فيض القدير 4/406.
[7] في نسختي: باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان. ولم أكد باباً بالإسم المذكور.