حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء

          188- قوله: (تَسُوْسُهُمُ الأنْبِيَاءُ) [خ¦3455] معناه: إنَّهم كانوا إذا ظهرَ فيهم فَسادٌ، بعثَ اللهُ لهم نبِيّاً يقيمُ لهم أمْرَهم، ويُزيلُ ما غيَّروا من أحْكام التَّوراةِ.
          وفيه إشارةٌ إلى أنَّه لابُدَّ للرَّعيَّة من قائم بأُمُورها، يحملها على الطَّرِيق الحسنةِ ويَنْصِف المظْلوم من الظَّالم، فمعنى (تَسُوْسُهُمُ): تتَولَّى أُمُورَهُم كما تفعلُ الوُلاةُ بالرَّعايا.
          قوله: (كُلَّمَا هَلَكَ) أي: ماتَ.
          قوله: (خَلَفَهُ) بفَتْح الخاءِ المعجمة، واللَّام المخفَّفة، أي: قامَ مَقَامَه.
          قوله: (وَإنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي) أي: لا نبيَّ يجيء بعْدي يفعلُ ما كانوا يفعلونَ.
          قوله: (فَيَكْثُرُوْنَ) بفَتْح الياءِ التَّحتيَّة، وضمِّ المثلَّثة.
          وحكى عِياضٌ(1) أنَّ منهم مَّن ضبطَه بالموحَّدةِ، وهو تصْحيفٌ.
          قوله: (فَمَا تَأْمُرُنَا) الفاءُ واقعةٌ في جواب شَرْطٍ محذوفٍ، التَّقْديرُ: إذا كثُر بعدَك الخلَفاءُ ووقَعَ التَّشاجر والتَّخالف بينهم فما تأْمُرُنا.
          قوله: (فُوا) بضمِّ الفاءِ، أَمْرٌ مِنَ الوَفَاءِ، ضِدُّ الغَدْرِ، يُقالُ: وَفَى بِعَهْدِهِ وَفَاءً وَأَوْفَى بمَعْنًى.
          وقوله: (بَيْعَةَ الأَوَّلِ) أي: الخليفة الأوَّل.
          وقوله: (فَالأَوَّلِ) الفاءُ للتَّعْقيب والتَّكْريرِ والاسْتمرارِ، ولم يُرِدْ به زَمانٌ واحِدٌ، بلِ الحكْم هذا عِنْد تجدُّد كُلِّ زَمانٍ؛ قالَه الطِّيْبِيُّ(2).
          وقال في «الفَتْحِ»: إذا بُويعَ الخليْفةُ بعْد الخليفةِ(3)، فبَيْعةُ الأوَّل صَحيحةٌ يجِبُ الوَفاءُ بها، وبيعةُ الثَّاني باطِلَةٌ.
          قالَ النَّوويُّ(4): سَواءٌ عقدوا للثَّاني عالِمِيْن بعَقْدِ الأوَّل أَمْ لا، سواءٌ كانوا في بلَدٍ واحدٍ أو أكْثر، وسواءٌ كانوا في بَلَدِ الإمامِ المنْفَصِل أَمْ لا؛ هذا هو الصَّوابُ الذي عليْه الجُمْهورُ.
          وقيل: تكونُ لمن عُقدت لَه في بلَدِ الإمامِ دُوْن غَيْره.
          وقيل: يقرع بينهما.
          قال: وهُما قَولانِ فاسِدانِ.
          وقال القُرْطُبيُّ ☺(5): في هذا الحديث حُكمُ بَيْعةِ الأوَّل، وأنَّه يَجبُ الوَفاء بها، وسكتَ عن بَيْعة الثَّاني، وقد نصَّ عليه في حديث عَرْفَجَةَ في «صحيحِ مُسلمٍ»[46/1844] حيثُ قال: «فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ».
          قوله: (أَعْطُوْهُمْ) بفَتْح الهمْزةِ.
          وقوله: (حَقَّهُمْ) أي: من السَّمْع والطَّاعة؛ فإنَّ في ذلك إعلاءُ كلِمةِ الدِّيْن وكفُّ الفِتَن والشَّرِّ.
          وهو كالبَدَلِ مِن قولِه: (فُوا بَيْعَةَ الأَوَّلِ)، والمعنى: أطِيْعوا، أو عاشروهم بالسَّمْع / والطَّاعة، فإنَّ اللهَ تعالى يحاسِبهم على ما يفعلونَه بكُم.
          قوله: (فإنَّ اللهَ) الفاءُ واقِعةٌ في جوابِ شَرْطٍ مُقدَّرٍ، التَّقْديرُ: فإنْ لم يعطوكُم حقَّكم فإنَّ اللهَ سائلهم، أي: يوم القِيامة، فيثيبكم في هذا اليوم بما لكُم عليهم منَ الحقُوقِ.
          وفي الحديثِ تقديمُ أمْرِ الدِّيْن على أمْر الدُّنيا؛ لأنَّ النَّبيَّ(6) صلعم أمَرَ بتَوْفيةِ خُلفاءِ السُّلْطان، لما فيه من إعلاءِ كلمةِ الله وكفِّ الفِتْنةِ والشَّرِّ.
          وتأخير المَرْءِ المُطالَبة بحَقِّه لا يسقطه، وقد وعدَه أن يخلصَه ويوفيه إيَّاه ولو في الدَّارِ الآخِرة.
          وهذا الحديث ذَكَرهُ البُخاريُّ في الباب السَّابِقِ.


[1] إكمال المعلم 6/250.
[2] شرح المشكاة 8/2564_2565.
[3] عبارة الفتح 6/497: الخليفة بعد خليفة.
[4] شرح مسلم 12/231.
[5] المفهم لما أشكل من مسلم 4/49.
[6] قوله: «لأن النبي» زيادة من الأصل، وفي «م»: لأنه.