حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: إن الملائكة تنزل في العنان فتذكر الأمر قضي في السماء

          161- قوله: (المَلَائِكَةَ) [خ¦3210] اختَلفَ في حقيقتِهم، فذهبُ أكْثرُ المسلمين إلى أنَّها أجسامٌ لطيْفةٌ، قادِرةٌ على التَّشكَّل بأشكالٍ مُختلفةٍ.
          قوله: (تَنْزِلُ في العَنَانِ) بفَتْح العين المهملةِ والنُّونِ المخفَّفة.
          قوله: (وَهُوَ السَّحَابُ) أي: وَزْناً ومعنًى، فهو تفسيرٌ من الرَّاوي ﻟ (العَنَانِ) أدْرَجَه في الحديْث، فالسَّحابُ مَجازٌ عن السَّماءِ، كما أنَّ السَّماءَ مجَازٌ عنِ السَّحاب، كما في قولِه تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} في وَجْهٍ.
          قوله: (فَتَذْكُرُ): أي: الملائكةُ.
          وقوله: (الأَمْرَ قُضِيَ) أي: الذي قُضي، ﻓ(قُضِيَ) صلةٌ لموْصولٍ محذوفٍ.
          والحاصِلُ: إنَّ الملائكةَ تسمعُ في السَّماء ما قُضي كلَّ يَوْمٍ من الحوادِث، فيُحدِّث بعضُهم بعضاً، وهذا يدلُّ على أنَّ (السَّحَابُ) في كلام الرَّاوي مجازٌ عَن السَّماءِ، فقولُه: (وَهُوَ السَّحَابُ)، أيْ: السَّماءُ.
          قوله: (فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِيْنُ السَّمْعَ) أي: تختلسُه، / فتسمعُ بخُفْيةٍ.
          قالَ في «المختار»: اسْتَرَقَ السَّمْعَ، أي: سَمِعَهُ مُسْتَخْفِياً. [انتهى](1).
          وقوله: (فَتَسْمَعُ) أي: ما تذكره الملائكةُ، والاستماعُ المذْكُور كان في ابتداءِ الوَحْي كما يدلُّ عليه ما عِنْد الإمامِ أحمدَ[2482، 2979]:
          «كانَ الجِنُّ يسْمعونَ الوَحْي، فيسمعون الكَلِمة فيَزِيدون عليها عَشْراً، فيكونُ ما يسمعونه حقّاً وما زادُوه باطِلاً، وكانتِ النُّجومُ لا يُرمى بها قبلَ ذلك، فلمَّا بُعث صلعم كان أحدُهم لا يأْتي مَقْعَدَه إلَّا رُميَ بشِهابٍ يُحْرِقُ ما أصابَ منه.
          فشَكَوا ذلك لإبليْسَ لعَنَه اللهُ فقال: ما هذا إلَّا لأمْرٌ عظيمٌ قد حدَثَ، فبثَّ جُنودَه فإذا بالنَّبيِّ صلعم يُصلِّي ببَطْنِ نَخْلَةٍ _وهي قَرْيةٌ على ليلةٍ من مكَّة_ فأخْبَرُوه، قال: هذا الحدَثُ الذي حَدَثَ».
          وجاءَ عنِ ابنِ عبَّاس أيضاً: «إنَّ الشَّياطين كانوا لا يُحجَبون عنِ السَّموات، وكانوا يدخُلُونَها ويأْتونَ بأخْبارِها فيلقونه على الكَهنةِ.
          فلمَّا وُلد عيْسى مُنعوا من ثلاثِ سمواتٍ.
          فلمَّا وُلد محمَّد صلعم مُنعوا منَ السَّمواتِ كُلِّها، فما أحدٌ منهم يُريد اسْتَراقَ السَّمْعِ إلَّا رُمي بشِهابٍ _وهو الشُّعْلة منَ النَّار_ فلا يُخطئ أَحَداً(2).
          فمِنهم مَّن يقتلُه، ومنهم مَّن يُحرِق وجْهُه، ومنهم مَّن يُخبِّلُه فيصير غُولاً يُضل النَّاسَ في البَراري».
          قوله: (فَتُوْحِيْهِ إلى الكُهَّانِ) أي: فتُلقيه الشَّياطين إلى الكُهَّان _بضمِّ الكافِ، وتشديدِ الهاءِ_ جمعُ كاهِنٍ. قالَ ابنُ مالكٍ:
          ومِثْلُه الفُعَّالُ فيْما ذُكِّرا...
          أي: مِثْلُ: فُعَّل هو:فُعَّال، في وَصْف المُذكَّر، والكاهِنُ مَن يُخبر بالمغيَّبات المستقبلة.
          قوله: (فَيَكْذِبُوْنَ) أي: الكُهَّان.
          قالَ في «المختار»: كَذَبَ يَكْذِبُ _بالكَسْرِ_ كِذْباً وَكَذِباً، بِوَزْنِ عِلْمٍ وكَتِفٍ. انْتهى.
          وقال في «المِصْباح»: الكَذِبُ هُو الإخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ ما هُو، سَوَاءٌ فيْهِ العَمْدُ والخطَأُ، إذْ لا واسِطَةَ بَيْنَ الصِّدْقِ والكَذِبِ على مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، والإثْمُ يَتْبَعُ العَمْدَ. [انتهى](3).
          قولُه: (مَعَهَا) أي: مع الأشياءِ المسْموعة من الشَّياطين.
          وقوله: (مِئةَ كَذْبَةٍ) بفَتْح الكاف، وسُكون المُعْجَمةِ.
          وفي «اليُونينيَّة» بكَسْرها.
          والكَذْبةُ اسمٌ للمَرَّة مِن الكَذْبِ على الأوَّلِ، وعلى الثَّاني(4) اسمٌ لهيئةِ الكَذِبِ.
          قالَ في «الخلاصة»:
وفَعْلَةٌ لِمَرَّةٍ كجَلْسَهْ                     وفِعْلَةٌ لِهَيْئةٍ كَجِلْسَهْ
          وهذا الحديثُ ذَكَره البُخاريُّ في باب: ذِكْر الملائكة أَيضاً.


[1] ما بين الحاصرتين منِّي.
[2] كذا في «ز2» و«ز4»، وفي الأصل وباقي النُّسخ: أبدًا.
[3] ما بين الحاصرتين منِّي.
[4] قوله: «والكَذْبةُ اسمٌ للمَرَّة مِن الكَذْبِ على الأوَّلِ، وعلى الثَّاني» زيادة من الأصل وغيرها، وسقطت من «م».