حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا

          160- قولُه: (عَنِ ابنِ مَسْعُوْدٍ) [خ¦3208] هو عبدُ الله بنُ مسعودِ بنِ غَافِلٍ _بغَينٍ معجمةٍ_ بشَّره النَّبيُّ صلعم بالجنَّة وقال: «رَضِيْتُ لأُمَّتي ما رَضِيَ لَها ابنُ أُمِّ عَبْدٍ(1)، وسَخِطْتُ لها ما سَخِطَ لها(2) ابنُ أُمِّ عَبْدٍ».
          وكانَ يُشْبه رسول الله صلعم في سَمْتِه وهدْيِه _أي: طريقتِه وسِيرتِه_، وكانَ خفيفَ اللَّحم، شديدَ الأُدمة، نحيفاً، قصِيراً جدّاً نحو ذِراعٍ، يكاد طويلُ الرِّجال إذا جلسَ يُوازيه قائماً، وكان صاحبَ سِرِّ رسول الله صلعم ونعْلِه وطهورِه في سَفَرِه.
          وكان يقول: «ليس العِلْم بكَثرة الرِّواية، ولكن العِلْم الخشيةُ، فإذا علمتم فاعْمَلوا».
          وكان يقولُ: «وَيْلٌ لمن يعلم ولا يعملُ»، سَبْع مَرَّاتٍ.
          قالَ الشَّعْبيُّ: ذُكر أنَّ عُمر ╩ لقيَ ركْباً فيهم ابن مسعودٍ، ولم يعلمْ به، فأمَرَ رجُلاً يُنادي فيهم: مِن أينَ القَوم؟ فناداهم، فأجابَه ابنُ مسعودٍ: أقبلْنا من الفجِّ العميقِ، فقال: أينَ تريدون؟ فقال: البَيْتُ العَتيْق.
          فقال عُمر: إنَّ فيهم رجُلاً عالِماً. فأَمَرَ رجُلاً فناداهُم: أيُّ القُرآن أفضل؟ فأجابَه ابنُ مَسعُودٍ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ...} [البقرة:255] الآيةَ(3).
          فقال عُمر: فنادِهم: أيُّ القُرآن أحْكَم؟
          فقال ابنُ مسعُودٍ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل:90].
          فقال: فناداهم: أيُّ القرآن أجمعُ؟
          فقالَ ابنُ مَسْعُودٍ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:7-8].
          فقال عُمر: فنادِهم: أيُّ القرآن أخوف؟
          فقال ابنُ مسعودٍ: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ...} [النساء:123] الآيةَ.
          فقال عُمر: فنادِهم: أيُّ القرآن أرْجى؟
          فقالَ ابنُ مَسْعودٍ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ...} [الزمر:53] الآيةَ.
          فقالَ عُمر: أفيكُم عبد الله / بن مَسعودٍ؟!
          فقالُوا لَه: نَعَمْ. انتهى.
          وإنَّما كانَ أخوف القُرآن: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ...} [النساء:123] الآيةَ. لأنَّ قولَه فيها: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] يشملُ الصَّغيرةَ والكبيرةَ منْ مُؤمنٍ أوْ كافرٍ.
          ولمَّا نزلتْ هذه الآيةُ، قالَ أبو بكْرٍ ╩: جاءتْ قاصِمَةُ(4) الظَّهْرِ، فقال رسولُ الله صلعم: «إنَّما هيَ المَصائبُ في الدُّنيا»(5).
          رُوي له عنِ النَّبيِّ صلعم ثمان مئة حديثٍ وثمانيةٌ وأربعون، روى عنه: الخلَفاءُ الأربعةُ.
          قولُه: (حَدَّثَنَا) أي: أنشأَ لنا خَبَراً حادثاً.
          قوله: (وَهُوَ الصَّادِقُ) جملةٌ اعتراضيَّةٌ، وهو أَولى من جعلها حاليَّةً لتفيد اتِّصافه بذلك في جميع الأحْوال، بخلافِ جعلِها حالاً، فتفيد اتِّصافه بذلك في حالة التَّحديث فقطْ، والمرادُ: ﺑ (الصَّادِقُ): مَن كان قولُه مُطابقاً للواقِع.
          وقوله: (هُوَ المَصْدُوْقُ) أي: الذي يصدقه الرَّبُّ فيما وعدَه به، أوِ الذي يصدقه الغَير.
          قوله: (إنَّ أَحَدَكُمْ) أي: إنَّ الواحدَ منكم يا معشر بني آدَمَ.
          و(إنَّ) بكسرِ الهمْزَة، على حكاية لفظِه صلعم، و(أَحَدَ) هُنا بمعنى: واحد، لا بمعنى: أحد، التي للعُموم؛ لأنَّ تلك لا تُستعمل إلَّا في النَّفي، نحو: لا أَحَدٌ في الدَّارِ، فأصلُه: وَحَدٌ، قُلبت واوُه المفْتوحة همْزةً.
          قوله: (يُجْمَعُ) بالبِناءِ للمَجْهول، أي: يضمُّ بعضُه إلى بعضٍ بعد الانتشارِ ليتخمر في المدَّة المذْكورة حتَّى يُهيَّأ للخلق.
          وفسِّر الجمْعُ في بعض طُرُق هذا الحديثِ عنِ ابنِ مسعودٍ بأنَّ النُّطْفة إذا وقعتْ في الرَّحِم، فأرادَ اللهُ تعالى أنْ يخلقَ منها بَشَراً طارتْ في بشرة المرأة تحت كلِّ ظُفرٍ وشَعَرٍ، ثمَّ تمكُث أربعين ليلةً، ثمَّ تصير دَماً في الرَّحِم، فذلك جمعُها في الرَّحم، وذلك وقتُ كونها عَلَقةً.
          ورُجِّح هذا التَّفْسير، بأنَّ الصَّحابةَ أعلمُ النَّاسِ بتفسير ما سَمِعُوه، وأحقُّهم بتأْوِيلِه، وأولاهُم بالصِّدْق فيما يتحدَّثون به، وأكثرَهُمُ احْتياطاً للتَّوقِّي عن خلافِه، فليس لمن بعدهم أن يَرُدَّ عليهم.
          قال في «الفَتْح»[11/480]: وقد وقع في حديث مالكِ بنِ الحُوَيْرِثِ رفعَه ما ظاهره يُخالفُ ذلك، ولفظُه: «إذا أرادَ اللهُ خَلْقَ عَبْدٍ، فجامعَ الرَّجُلُ المرأةَ، طارَ ماؤُه في كُلِّ عِرْقٍ وعُضوٍ منها، فإذا كانَ يومُ السَّابع جمعَه اللهُ تعالى ثمَّ أحضرَهُ كلَّ عِرْقٍ لَه دُون آدَمَ، {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ} رَكَّبَهُ». انتهى.
          وذكَر النَّوويُّ في «شَرْحِه على الأربعين» ما نصّه:
          وقولُه صلعم: «يُجْمَعُ في بَطْنِ أُمِّهِ»، يحتملُ: إنَّه يُجمع ماءُ الرَّجُلِ والمرأةِ، فيُخلق منها الوَلَدُ، كما قالَ اللهُ تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ...} [الطارق:6] الآيةَ.
          ويحتملُ أنَّ المرادَ: إنَّه يُجمع من البَدَن كُلِّه، وذلك أنَّه قيل: إنَّ النُّطفةَ في الطَّور الأوَّل تَسْري في جَسَدِ المرأةِ أربعين يَوْماً وهي أيَّام الوَحَمِ(6)، ثمَّ بعد ذلك يُجمع ويذر عليها من تُربة المولُود فيصير عَلَقةً.
          ثمَّ يستمر في الطَّور الثَّاني، فتأخذ في الكبر حتَّى تصير مُضغةً.
          ثم في الطَّوْر الثَّالثِ، يُصوِّر اللهُ تعالى تِلْك المُضغةَ / ويشق فيها السَّمع والبَصَر والفَمَ، ويصوِّر في داخل جوفِها الحوايا والأمعاءَ، ثمَّ إذا تمَّ الطَّور الثَّالث وهو أربعون يوماً صارَ للمولود أربعة أشْهرٍ، فنُفخت فيه الرُّوْح.
          وعنِ ابنِ مسعودٍ: يقالُ: «إنَّ النُّطفةَ إذا استقرَّت في الرَّحِم، أخذَها ملَكٌ بكَفِّه وقال: ربِّ مُخلَّقةً أمْ غير مخلَّقَةٍ؟ فإنْ قال: غير مُخلَّقةٍ، قذفَها في الرَّحِم دَماً ولم تكُن نَسَمَةً، وإنْ قال: مُخلَّقةً، قال الملَكُ: أيْ رَبِّ أذَكرٌ أمْ أُنثى؟ أشَقيٌّ أَمْ سَعيدٌ؟ ما الرِّزْق؟ ما الأجَل؟ وبأيِّ أرْضٍ تموت؟ فيقالُ لَه: اذْهَبْ إلى أُمِّ الكتاب؛ فإنَّك تجدُ فيها كلَّ ذلك.
          فيذهبُ، فيجدها في أُمِّ الكتابِ فيَنْسخُها، فلا تزال معَه حتَّى يأتي على آخِر صفتِه».
          ولهذا قيلَ: السَّعادةُ قَبل الوِلادة. انتهى كلامُ النَّوويِّ باخْتصارٍ.
          قولُه: (خَلْقُهُ) الخلْقُ عِبارةٌ عنِ الإيْجادِ، والإيجادُ لا يُجمع، فالمرادُ مادَّةُ خَلْقِه، أو أنَّ الخلْقَ مَصْدَرٌ بمعنى اسمِ المفعولِ، كـ : هذا ضَرْبُ الأَميْرِ، أي: مَضْرُوْبُه.
          قوله: (في بَطْنِ أُمِّهِ) أي: مجاور بطْنها وهو الرَّحِم؛ لأنَّ جمْعَ الخلْقِ إنَّما هو في الرَّحِمِ.
          قوله: (ثُمَّ يَكُوْنُ عَلَقَةً) أي: دَماً غَليظاً جامِداً.
          قوله: (مِثْلَ ذلِكَ) أي: مثلَ الزَّمان المتقدِّم، وهُو أربعون يوماً.
          قوله: (مُضْغَةً) أي: قطعةَ لحْمٍ بقَدْر ما يمضغ.
          قوله: (مِثْلَ ذلِكَ): أي: مثلَ الزَّمان المتقدِّم.
          واعلمْ أنَّه اختلفَ في أوَّل ما يتشكَّل من الجنين:
          فقيل: قَلْبُه؛ لأنَّه الأساسُ ومعدنُ الحرَكَة الغريزيَّة.
          وقيل: الدِّماغُ؛ لأنَّه مجمعُ الحواس.
          وقيل: الكَبد؛ لأنَّ فيه النُّمو والاغْتِذاء الذي هو قوام البَدَن، ورجَّحه بعضُهم بأنَّه مقتضى النِّظام الطَّبيعي؛ لأنَّ النُّموَّ هو المطْلوبُ أوَّلاً، ولا حاجة له حينئذٍ إلى حسٍّ ولا حركةٍ إرَادِيَّةٍ، وإنَّما يكون له قوَّة الحسِّ والإرادة عند تعلُّق النَّفس به بتقديم الكبد، ثمَّ القَلْب، ثمَّ الدماغ.
          قوله: (ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكَاً) أي: في الطَّور الرَّابع حين يتكامَل بُنيانُه وتتشكَّل أعضاؤُه، وظاهرُ الحديث أنَّ بعثَ الملَك إنَّما يكون بعد الأربعين الثَّالثة.
          وصحَّ في حديثٍ آخرٍ أنَّ نفخَ الرُّوْح يكون بعد الأربعين، أوِ اثنَين وأربعين يوماً، وأشبهُ ما يجمع به بينهما حَمْلُه على أنَّ بعض الأجِنَّة يُنفخ فيه الرُّوْح بعد مئةٍ وعشرين يوْماً، وبعضهم بعد اثنَين وأربعين يوْماً.
          وهذا يخالفُ الحديثَ المذْكُورَ؛ لأنَّه يقتضي نفخَ الرُّوح فيه وهو عَلَقَة، وليس كذلك؛ قالَ اللهُ تعالى: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون:14]، أي: بنفخ الرُّوح فيْه.
          قولُه: (فَيُؤْمَرُ) مبْنياً للمفْعول.
          وفي رِوايةِ أبي ذَرٍّ: «وَيُؤْمَرُ»، بالواوِ.
          قوله: (بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ) أي: بكتبها.
          قوله: (اُكْتُبْ عَمَلَهُ) أي: منْ خَيْرٍ أوْ شَرٍّ.
          قوله: (وَرِزْقَهُ) أي: ما يُنتفع به حلالاً أو حَراماً، قليْلاً أو كثيراً، فالرِّزْقُ: كلُّ ما ساقَه اللهُ للحَيوان فانتفعَ به، ومنه العِلْم.
          قوله: (وَأَجَلَهُ) أي: مدَّة عُمره طوِيلةً أو قَصيرةً.
          قولُه: (وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ) بالرَّفْع خَبَرُ مُبتدإ / محذوفٍ، وتاليه عطْفٌ عليه.
          فإنْ قلتَ: حقُّ الكلام المناسِب لما قبله أن يقول: وسعادته أو شقاوَته!؟
          أُجِيْبَ عن ذلك بأنَّ نكتةَ العدولِ حكايةُ صُوْرةِ ما يُكتب، فالمكتوبُ (شَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ)، والظَّاهرُ أنَّ الكتابةَ هي الكتابةُ المعهودةُ في صحيفتِه، وقد جاءَ ذلك مصرحاً به في رِوايةٍ لمسْلمٍ[2/2644] في حديث حُذيفةَ بنِ أَسِيْدٍ: «ثُمَّ تُطْوَى الصَّحِيْفةُ، فَلَا يُزادُ علَيْها ولا يُنْقَصُ مِنْها».
          ووقعَ في حديْثِ أَبي ذَرٍّ: «فيَقْضي اللهُ ما هُو قاضٍ، فَيكْتُبُ ما هُو لَاقٍ بَيْنَ عَيْنَيْهِ»(7).
          وهذه الكتابةُ غيرُ كتابة المَقادِير السَّابقة على خَلْق السَّموات والأرض بخَمْسين ألف سنةٍ، كما في حديث مُسْلمٍ[16/2653].
          فالمرادُ بأَمْرِ الملَك بكتابةِ ذلك: إظهارُ ذلك لَه لإنفاذه وكتابتِه.
          وظاهرُ الحديث الأمْرُ بكتابة هذه الأرْبع ابتداءً وليس مُراداً، وإنَّما المرادُ كما دلَّت عليه الأحاديثُ الصَّحِيحةُ أنَّه يُؤْمَرُ بذلك بعد أن يَسألَ عنها فيقول: يا رَبِّ ما الرِّزْق، ما الأجَل، ما العَمل، وهلْ هو شقيٌّ أو سعيدٌ؟
          قولُه: (ثُمَّ يُنْفَخُ فِيْهِ الرُّوْحُ) أي: بَعْد تمام صُورتِه وبعْدَ كتابة الملَك هذه الأربعة.
          واعلمْ أنَّ حِكْمةَ تحوُّلِ الإنسان في بَطْن أُمِّه حالةً بعد حالةٍ إلى أن نُفخت فيه الرُّوحُ مَع أنَّ اللهَ قادِرٌ على أن يخلقَه في أقلَّ مِن لمحةٍ، أنَّ في التَّحويلِ فوائدُ، منها:
          إنَّه لو خلَقَه دفعةً واحدةً لشقَّ على الأُمِّ، فجعله أوَّلاً نُطفةً لتعتاد بها مدَّةً، ثمَّ عَلَقةً كذلك وهلمَّ جَرّاً.
          ومنها: إظهارُ قُدرتِه تعالى، حيثُ قَلَبه من تلْك الأطْوار إلى كونه إنْساناً حَسَنَ الصُّورة مُتحلِّياً بالعقلِ.
          ومنها: التَّنبِيه والإرشادُ على كمال قُدرتِه على الحشر والنَّشر؛ لأنَّ مَن قَدَرَ على خَلْق الإنسانِ مِن ماءٍ مَّهينٍ ثمَّ من مُضْغةٍ قادِرٌ على إعادتِه وحشرِه للحِساب.
          قوله: (لَيَعْمَلُ) أي: بعمل أهْل الجنَّةِ.
          قوله: (حَتَّى مَا يَكُوْنَ) بنَصْب (يَكُوْنَ) بأنْ المُضْمَرة، و(مَا) نافيةٌ غيرُ كافَّةٍ عن العَمَلِ؛ لأنَّ شَرْطَ الكافَّةِ أن تكون زائدةً خِلافاً للشَّيْخ ابنِ حَجَرٍ في «شَرْحِه على الأرْبعين» حيثُ قال: إنَّ (مَا) كافَّةٌ، والفِعْلُ مَرفُوعٌ(8).
          قوله: (وَبَيْنَ الجنَّةِ) أي: الوُصول إلى الجنَّةِ.
          قوله: (إلَّا ذِرَاعٌ) فيه تشْبِيهُ الشَّخْص القَرِيب حاله منَ الموتِ بمَن بقيَ بَيْنه وبين مقصدِه موضعُ ذِراعٍ منَ الأرض.
          وقالَ النَّوويُّ في «شَرْح أربعينِه»: هو تمثيلٌ وتقْرِيبٌ.
          والمرادُ: قطعةٌ من الزَّمان مِن آخرِ عُمره، وليس المرادُ حقيقةَ الذِّراع وتحديدَه من الزَّمان، فإنَّ الكافرَ لو قال: لا إله إلَّا الله محمَّدٌ رسولُ الله، ثمَّ ماتَ دخلَ الجنَّةَ، والمسلمَ إذا تكلَّم في آخِر عُمره بكلمةِ كُفْرٍ، ثمَّ ماتَ دخلَ النَّارَ. انتهى.
          قوله: (فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ) بضميْرٍ متَّصلٍ ﺑ (كِتَابُ).
          وفي رِواية «الأرْبعين»: «الكِتَابُ» بالتَّعرِيف، أي: الذي كَتبَه الملَكُ وهو / في بَطْنِ أُمِّه.
          قوله: (فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ) وفي رِواية أبي ذَرٍّ، عنِ الكُشْميهَنيِّ: «يَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ»، أي: بحكم القَدَرِ الجاري عليه في هذا وما بعده، المستنِد إلى خلْقِ الدَّواعي في قَلْبِه، فمَن سبقت له السَّعادة صرفَ اللهُ قَلْبَه إلى الخيْر فيَخْتم لهُ بِه، وعكسُه بعَكْسِه.
          وفي بعضِ رِواياتِ الأحاديْثِ: «وإنَّما الأعْمالُ بالخوَاتِيْمِ» [خ¦6607]، و«الأَعْمالُ بخَواتِيْمِهَا» [خ¦4693]، وفي حديثٍ صحِيحٍ: «اعْمَلُوا، فكُلٌّ مُيسَّرٌ لِما خُلِقَ لَه» [خ¦4949]، أي: فذُو السَّعادة مُيسَّرٌ لعملِ أهلِها، وذُو الشَّقَاوَةِ مُيسَّرٌ لِعَمَل أَهْلها.
          فإنْ قيلَ: قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30]، ظاهرُ الآيةِ أنَّ العَمَلَ الخالِصَ مِن المُخْلِص يُقْبل، وإذا حصل القَبولُ بوعدِ الكريم حصلَ مع ذلك الأمْنُ من سُوءِ الخاتِمة!؟
          فالجوابُ أنَّ ذلك معلَّقٌ على وُجود القَبولِ وحُسن الخاتمة.
          ويحتمل أنْ يقال: إنَّ مَن أخْلَص العملَ لا يُختم لَه إلَّا بخيرٍ دائماً، وإنَّ خاتمةَ السوءِ إنَّما تكون في حقِّ مَن أساءَ العملَ أو خلط العمل الصَّالح بنَوعٍ من الرِّياءِ والسُّمْعة.
          ويدلُّ له الحديثُ: «إنَّ أحدَكُمْ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجنَّة فيما يَبْدُو للنَّاسِ» [خ¦2898]، أي: فيما يظهر لهم مِن صلاحِ ظاهرِه مع فَساد سَريرتِه وخبثِها.
          وحاصلُ هذا الاحتمالِ: إنَّ قولَه: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} محْمولٌ على مَن أخْلَصَ العَمَلَ، ومَن أخلصَ العملَ لا يُختم له بالسوءِ أصْلاً.
          قوله: (وَيَعْمَلُ) أي: بعملِ أهْل النَّار.
          وقوله: (حَتَّى مَا يَكُوْنَ...) إلى آخرِه، فيه ما تقدَّمَ.
          وقوله: (الكِتَابُ) بلام التَّعريف هُنا.
          قوله: (فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجنَّةِ) أي: فيدخلها.
          وقال القاضي وغيرُهُ: وهذا القسمُ الثَّاني كثيرٌ جدّاً لخبَر: «إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي» [خ¦7422]. وفي رِوايةٍ: «تَغْلِبُ غَضَبِي» [خ¦7404] بخلافِ ما قَبْله فإنَّه نادِرٌ، ولله الحمْدُ والمنَّة على ذلك.
          وفي الحديث دِلالةٌ على أنَّ مَصيرَ الأُمور في العاقِبة إلى القضاءِ والقَدَرِ.
          وهذا الحديثُ ذَكَره البخاريُّ في باب: ذِكْر الملائكة.


[1] الجزء الأول من الحديث في المستدرك 5387، 5388، وفي ابن أبي شيبة 32896، وفي المعجم الكبير للطبراني 8458.
[2] وهو في البزار تاماً برقم 1986.
[3] يعني: آية الكُرسي، وهي الآية ░255▒ من سُورة البقرة.
[4] كذا في «ز2» و«ز3» و«م»، وفي الأصل و«ت» و«ز1» و«4» و«ز5»: قاسمة.
[5] لم أجده.
[6] كذا في «ت» و«ز1» و«ز3» و«ز5»، وفي الأصل و«ز2» و«ز4»: الرحم.
[7] الإبانة لابن بطة 1403.
[8] ينظر: «الفَتْح المُبين بشرح الأربعين» لابن حجر الهيْتَمي (ص: 211 - منهاج).