حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله

          15- قولُه: (عَنْ أَبي مُوْسَى) [خ¦123] كُنيةُ الرَّاوي، واسمُه عبدُ الله بنُ قَيْسٍ الأَشْعَريُّ صاحِبُ الهجرات الثَّلاث؛ هاجَرَ منَ اليَمَنِ إلى رسولِ الله بمكَّة، ومِن مكَّةَ إلى الحبَشَةِ، ومنَ الحبشةِ إلى المديْنة، وهو جَدُّ أبي الحسَنِ الأَشْعَرِيِّ إمامِ أهْلِ السُّنَّةِ.
          قوله: (جَاءَ رَجُلٌ) أيْ: وهو لَاحِقُ بنُ حَمْزةَ، وقولُه (إلى النَّبِيِّ) مُتعلِّقٌ ﺑ(جَاءَ).
          فإنْ قلتَ: إنَّه مُتعدٍّ بنَفْسه فلِم عدَّاه ﺑ (إلى)؟!
          أُجِيْبَ بأنَّه عدَّاهُ بذلك لأجْل بَيانِ انْتهاءِ المجيءِ، وهو النَّبيُّ صلعم الذي هو المقْصُودُ.
          قوله: (يَا رَسُوْلَ الله) فيه دليلٌ على أنَّ مِن الأدَب والسُّنَّةِ تَقْدِمةُ مُناداة المسؤولِ بأعْلى أسمائِه، وعلى أنَّ مُناداةَ المفضولِ للفاضِل جائزةٌ للحاجةِ.
          قوله: (مَا القِتَالُ) أي: ما حقيقَتُه وماهيَّته، ﻓ (مَا) اسمُ استفْهامٍ مُبتدأٌ، و(القِتَالُ) خبرٌ، والجملةُ منَ المبتدإ والخبرِ مَقُول القَوْلِ.
          قوله: (فَإنَّ أَحَدَنَا) أي: الواحدَ مِنَّا.
          وقولُه: (يُقَاتِلُ غَضَباً) أي: لأجْل الغَضَبِ، لكون المُقاتل له عدوّاً، والغَضَبُ: حالةٌ تحصلُ عِنْد غَلَيانِ دَمِ القَلْبِ لإرادة الانتِقام.
          وقولُه: (وَحِمْيةً) بكَسْرِ الحاءِ وسُكونِ الميمِ.
          وقيل: «وَحَمِيَّةً» بفَتْح الحاءِ، وكَسْرِ الميْم، وفَتْحِ الياءِ مشدَّدَة، ومَعناهُما واحِدٌ، أيْ: مُحافظةً على الحُرُمِ.
          وقيلَ: هي الأَنَفَةُ والغَيْرةُ والمحاماةُ عنِ العَشِيْرة، والعَشيرةُ: الجماعةُ والأصْحابُ، والأوَّلُ إشارةٌ إلى مقتضى القوَّة الغَضَبيَّة، والثَّاني إلى مقتضى القوَّةِ الشَّهوانيَّة.
          أوِ: الأوَّلُ لأجْلِ دَفْعِ المضرَّةِ، والثَّاني لأجْلِ جَلْبِ المَنْفَعةِ.
          وفي هذا دليلٌ على إبْداءِ العِلَل الواردة للعارِف بها ليبين فيها الفاسد منَ الصَّالح؛ لأنَّ هذا الأعْرابيَّ قال أوَّلاً: (مَا القِتَالُ في سَبِيْلِ الله)، ثمَّ بيَّن بعد ذلك وُجُوهَ القتالِ التي كانتْ عادَةُ العربِ يُقاتِلُونَ عليْها.
          قولُه: (فَرَفَعَ) أيْ: النَّبيُّ صلعم.
          وقوْله: (إلَيْهِ) أي: إلى هذا الرَّجُل السَّائل.
          وقولُه: (إلَّا أنَّهُ كَانَ قَائِماً) هذا استعذارٌ عن رَفْع رَأْسِه؛ لأنَّ السُّنَّة أن يُواجِهَ المسؤولُ السَّائلَ بوَجْهِه عِنْد الجواب.
          وهذا استثناءٌ مفرَّغ، و(أنَّ) واسمُها وخَبَرُها في تأْويل مَصْدَرٍ، والتَّقدير: ما رفعَ إليه صلعم رأْسَه لأمْرٍ منَ الأُموْر إلَّا لأجْلِ كون الرَّجُل قائماً، أي: فينظرُ إليه حينئذٍ ويجيبُه.
          قَوله: (مَنْ قَاتَلَ...) إلى آخرِه.
          فإنْ قلْتَ: إنَّ السُّؤالَ عنْ ماهيَّة القِتالِ وحقيقتِه، والجوابَ لم يُطابِقِ / السُّؤالَ؛ فإنَّ الجوابَ ليسَ عنِ الماهِيَّة، بلْ عَن نَفْسِ المقاتل؟!
          أُجِيْبَ بأنَّ فيه الجواب مَع زيادةٍ؛ لأنَّ المقاتلَ مُشتقٌّ من القِتَالِ، والمُشتقَّ مُتضمِّنٌ للمُشتقِّ منْه وهو الحدَث الذي هو القِتالُ، وزيادةٌ وهي ذاتُ المُقاتِل.
          أو يقالُ: إنَّ القِتالَ في قولِه: (مَا القِتَالُ) بمعنى اسمِ الفاعِل، أي: ما المُقاتل؛ بدليل قولِه: (فَإنَّ أَحَدَنَا).
          فإنْ قلْتَ: إنَّ في هذا الجواب إيقاعُ (مَا) على العاقِل، مَع أنَّها موضوعة لغَيْره؟!
          أُجِيْبَ بأنَّا لا نُسلِّمُ أنَّها مَوضوعةٌ لغَير العاقِل بخُصوصه، بلْ للعاقِل وغيره، ولكن استعمالها في غيره أكثرُ.
          قوله: (كَلِمَةُ الله) المرادُ بها: لا إله إلَّا الله، وإنَّما أُضيفتْ ﻟ (الله) لأنَّه تعالى كلَّفنا بالتَّصْديقِ بمَدْلُولِها و بالتَّلفُّظِ بها.
          قوله: (هِيَ العُلْيَا) أي: الأظهرُ، أي: الظَّاهِرةُ، وكَلِمةُ الكُفْرِ هي الخفِيَّةُ.
          قوله: (فَهُوَ في سَبِيْلِ الله) الضَّميرُ عائدٌ على (القِتَال) المفهوم من (قَاتَلَ)، و(في سَبِيْلِ الله) خَبَرٌ (هُوَ)، والتَّقديرُ: فالقِتالُ لِتكُون كَلِمةُ الله هيَ العُلْيا قِتالٌ في سَبِيلِ الله.
          أَوِ الضَّميرُ عائدٌ على المقاتل، والتَّقدير: المُقاتِلُ لِتكُون كلِمةُ الله هي العُلْيا مُقاتلٌ في سبِيْل الله.
          وهذا الحديْثُ ذَكَره البخاريُّ في باب: مَنْ يسأل وهو قائم عالماً جالِساً.