حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: لما قضى الله الخلق كتب في كتابه

          158- قَوله: (لمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ) [خ¦3194] أي: أَوْجدَ الخلْقَ، أي: جِنْس الخلْق؛ لأنَّ هذا الكتابَ كان قبل خَلْقِ جميعِ المخْلوقاتِ.
          قوله: (كَتَبَ) أي: أمَرَ اللهُ القَلَمَ أن يكتُبَ.
          قوله: (في كِتَابِهِ) أي: كتابِ الرَّبِّ، أي: الكتاب المنْسوب له تعالى مِن حيثُ كونه خلقه، وهو اللَّوْح المحْفوظُ.
          وفي نُسخةٍ: «في كِتَابٍ»، بدون ضَميرٍ.
          قوله: (فَهُوَ عِنْدَهُ) هذه العنْديَّة ليستْ عِنْديةَ مَكانٍ؛ لأنَّه مُستحيلٌ في حَقِّه تعالى، فالمرادُ: عِنْديَّةُ عِلْمٍ، فهو إشارةٌ إلى أنَّ هذا الكتابَ مَكْنُونٌ ومُستتِرٌ عن سائر الخلائقِ، مرفوعٌ عن حيِّز الإدراكِ.
          قوله: (فَوْقَ العَرْشِ) أي: دُونه، أي: أقلُّ جرماً منه، فَفيه إشارةٌ إلى أنَّه لا شيء أعظمُ من العَرْشِ، ونظيرُ هذا قولُه تعالى: {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] أي: فما هو أصغرُ منها.
          فالمراد: {فَوْقَهَا} في القِلَّة، فلله تعالى ضَرْبُ المَثَلِ بالأصْغرِ والأكْبرِ، وليس المرادُ بالفَوْقِ ما قابَلَ التَّحت؛ لأنَّ اللَّوْح / المحفوظَ تحت العَرْشِ، لا فَوْقه.
          وفي الحديْث دِلالةٌ على تقدُّم خَلْقِ العَرْشِ على القَلَم الذي كَتَبَ المقاديرَ، وهو مذهبُ الجُمْهور.
          ويُؤيِّدُه قولُ أهْلِ اليَمَنِ لرسولِ الله صلعم: جِئْنا نسألُك عَن هذا الأمْرِ؟ فقال: «كانَ اللهُ ولَم يكُنْ شيءٌ غَيْرُهُ، وكانَ عَرْشُه على الماءِ» [خ¦3191].
          وقد رَوى الطَّبرانيُّ(1) في صِفةِ اللَّوْحِ، منْ حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعاً:
          «إنَّ اللهَ خَلَقَ لَوْحاً مَحْفُوظاً مِنْ دُرَّةٍ بيْضاءَ، صَفَحاتُها من ياقُوتةٍ حَمْراءَ، قَلَمُه نُورٌ، وكِتابتُه نُورٌ، لله فيْه كُل يومٍ سِتُّون وثلاثُ مئة لَحظَةٍ، يخلُقُ، ويَرْزُقُ، ويُميْتُ ويُحْيي، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويَفْعَلُ ما يَشاءُ».
          وعِنْد ابنِ إسْحاقَ(2)، عنِ ابنِ عبَّاسٍ أَيضاً قال: «إنَّ في صَدْرِ اللَّوْح المحْفُوظ: لا إله إلَّا الله وَحْدَه، دِيْنُه الإسلامُ، ومحمَّدٌ عَبْدُه ورَسولُه، فمَن آمَنَ به وصدَّقَ بوَعْدِه واتَّبع رُسُلَه، أدْخَلَه الجنَّةَ».
          قال: «واللَّوْحُ من دُرَّةٍ بيْضاء، طولُه ما بين السَّماءِ والأرضِ، وعرضُه ما بين المشْرِق والمغْرِب، وحافَّتاهُ الدُّرُّ والياقُوْتُ، ودفَّتاه ياقُوتةٌ حمْراءُ، وقَلَمُه نُورٌ، وكلامُه مَعْقُودٌ بالعَرْش، وأصْلُه في حِجْر مَلَكٍ».
          وقال أَنسُ بنُ مالكٍ وغيرُهُ منَ السَّلَف: «اللَّوْحُ المحْفوظُ في جَبْهةِ إسْرافيْلَ».
          وقال مُقاتلٌ: «هو عَن يَميْن العَرْشِ». انتهى.
          قولُه: (إِنَّ رَحْمَتِي) بكَسْر الهمْزةِ، وهو حكايةٌ لما في الكتاب لمضمونِ الكتاب، ومضمونُه هو المكْتوب.
          ويصحُّ فَتْحُ الهمْزة على أنَّه معمولٌ ﻟ (كَتَبَ).
          قوله: (غَلَبَتْ غَضَبِي).
          حاصلُ ذلك: إنَّ الرَّحْمةَ في حَقِّه تعالى: عِبارةٌ عن إرادة الإنْعامِ والإحْسان، أَوِ الإنعام نفسه، والغَضَبُ: عبارةٌ عن إرادة الانْتقامِ والعقاب، أوِ الانتقام والعِقاب؛ فهُما صِفَتَا ذاتٍ أو فِعْلٍ.
          فمَعْنى غَلَبة رَحْمتِه على غَضَبِه باعتبار كَونهما صِفةٌ ذات كثْرة تعلُّقات الرَّحْمة بالنِّسْبة لتعلقات الغضب، أي: إنَّ تعلُّقات رَحْمتي كثيرةٌ، بخلاف تعلُّقات الغَضَب فهي قليلةٌ بالنِّسْبة لتعلُّقات الرَّحْمة.
          ومعنى غلبتها عليه باعتبار كونهما صفة فِعْل كثرة ذات الرَّحمة، فإحسانُ الله أكثرُ من انتقامِه، فلا يقال على الأوَّل: إنَّ الإرادة واحدةٌ، فكيف يقال: إنَّها غالبةٌ.
          فقوله: (غَلَبَتْ) أي: كثرت على الغَضَب باعْتبار ذاتها أو تعلُّقها، فيقال: غلب على فُلانٍ الكَرم، بمعنى أنَّه أكثر أفعالِه، فقسطُ الخلْقِ منها أكثر من قسطهم منه؛ لأنَّها تنالَهم من غير تقدُّمٍ مُوجبٍ لها، بخلاف الغَضَبِ فلا يَنالهم إلَّا بتقدُّم مُوجبه، ألَا ترى أنَّ الرَّحْمةَ تشمل الإنسان جنيناً ورَضيعاً، وفطيماً وناشئاً، منْ غير أنْ يصدر مِنْه شيءٌ من الطَّاعة، ولا يلْحقه الغَضَب إلَّا بعد أنْ يصدر مِنْه شيءٌ مِن المُخالَفاتِ.
          وفي رِواية شُعيْبٍ، عَن أبي الزِّنادِ في التَّوحيدِ [خ¦7553]: «سَبَقَتْ» بَدَلَ (غَلَبَتْ)، وسبقها عليه باعتبارِ ذاتها أو تعلُّقِها.
          وإنَّما كانتْ سابقةً عليه لأنَّها مقتضى ذاته المقدَّسة، ولأنَّها لا تتوقَّف على سابقة عَمَلٍ كما تقدَّم من أنَّها شاملةٌ للإنسان قبل أنْ يصدرَ منه شيءٌ من المخالفاتِ، بخلافِه فإنَّه متوقِّفٌ على سابقةِ عَمَلٍ من العَبْد المكلّف.
          وهذا الحديثُ ذكَره البخاريُّ في كتاب: بدء الخلْقِ. /


[1] في الكبير 12511.
[2] نقله القسطلاني في الإرشاد 5/252.