حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: الرجل تكون له الأمة فيعلمها

          148- قوله: (عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) [خ¦3011] وفي نُسخةٍ: «عَنْ بُرْدَةَ، أنَّه سَمِعَ أَبَاهُ».
          والنُّسخةُ التي فيها: «عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنِ النَّبيِّ صلعم»، هي المُوافقةُ لما جرى عليه المصنِّف مِن أنَّه لا يذكُر إلَّا الصَّحابي الآخِذ عنِ النَّبيِّ صلعم فقطْ.
          وعلى النُّسخة / التي فيها: «عَنْ بُرْدَةَ، أنَّه سَمِعَ أَباهُ»، يكون قولُه: «عَنِ النَّبيِّ» متعلِّقاً بمحذوف حال منَ الأَبِ، والتَّقدير: حالة كوْن الأَب قائلاً عَن النَّبيِّ، أوْ ناقِلاً عنْه.
          قوله: (ثَلَاثَةٌ) مبتدأٌ، والمُسوِّغُ للابْتداءِ بالنَّكِرةِ الوَصْفُ المقدَّرُ، والتَّقديرُ: ثلاثةٌ من الرِّجال.
          وقوله: (يُؤْتَوْنَ) خبَرُ المبتدإ.
          قوله: (الرَّجُلُ) هو بالرَّفْع بَدَلٌ من (ثَلَاثَةٌ) تفصيل، أو بدَلُ كُلٍّ بالنَّظَرِ إلى المجموع، أو خبرُ مبتدإ محذوفٍ، تقديرُه: أوَّلُهم، أو: الأوَّلُ الرَّجُلُ.
          قوله: (فَيُعَلِّمُهَا) أي: ما يجبُ تعليمه مِن الدِّين.
          قوله: (فَيُحْسِنُ) بفاءِ العَطْفِ.
          ولأبي ذَرٍّ: «وَيُحْسِنُ».
          قوله: (وَيُؤَدِّبُهَا) أي: يعلِّمُها الأخلاقَ الحمِيْدة.
          قوله: (فَيُحْسِنُ أَدَبَهَا) بأنْ يكون برِفْقٍ من غير عنْفٍ وضَرْبٍ، وإنَّما غايَرَ بين الأدبِ والتَّعْليمِ _وهو داخِلٌ فيه_ لتعلُّقِه بالمُروآتِ والتَّعليمِ بالشَّرعيَّات، أي: الأوَّلُ عرفيٌّ، والثَّاني شَرْعيٌّ، أوِ الأوَّل دُنْيويٌّ، والثَّاني دِيْنيٌّ.
          قوله: (فَيَتَزَوَّجُهَا) أي: بعد أن يُصْدِقَها.
          قوله: (فَلَهُ أَجْرَانِ) هُما أجْرُ العتْق وأجْرُ التَّزْويج، وإنَّما اعتبرَهُما لأنَّهما الخاصَّان بالإماءِ دون السَّابقَين من التَّعليْم والتَّأديْبِ.
          قولُه: (أَهْلِ الكِتَابِ) همُ اليهوْدُ والنَّصارى.
          قوله: (الَّذِي كَانَ مُؤْمِناً) أي: بنبِيِّه مُوسى أَو عِيْسى، سواءٌ كان إيمانُه بنَبيِّه مُعتبَراً، بأنْ آمَنَ به قبل نسخِ كتابِه بأنْ آمنَ بعِيْسى قبل إرْسالِ النَّبيِّ صلعم وبقيَ مُؤْمناً بعيْسى إلى أنْ أُرسلَ سيِّدُنا محمَّدٌ صلعم فآمَنَ به.
          أو كان غير مُعْتبَرٍ، بأنْ آمنَ بمُوسى بَعْدَ بعْثةِ عيْسى.
          وعلى هذا القَول جَرى البلْقينيُّ، وتبِعَه الحافظُ ابنُ حَجَرٍ عمَلاً بظاهرِ اللَّفْظِ.
          وفيه نَظَرٌ، لأنَّا إذا قلْنا: إنَّ بعْثتَه ╕ قاطِعةٌ لدعوى عيْسى، فلا نبيَّ للمُؤمن منْ أهْل الكتابِ إلَّا محمَّد صلعم، وحيْنئذٍ؛ فالإيمانُ إنَّما هو بمُحمَّدٍ صلعم فقطْ، فكيف ترتَّب الأجْر مرتَّين!؟
          أُجِيْبَ بأنَّ مُؤمنَ أهْلِ الكتابِ لابُدَّ أن يكون مَع إيمانِه بنَبيِّه مُؤمناً بمُحمَّدٍ صلعم للعَهْد المتقدِّم والميثاقِ في قولِه تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ...} [آل عمران:81] الآيةَ؛ المفسَّر بأخذ الميثاقِ من النَّبيِّين وأُممِهم مَع وَصْفِه تعالى له في التَّوراة والإنْجيلِ، فإذا بعث صلعم فالإيمانُ به مُستمرٌ.
          فإنْ قلتَ: فإذا كان الأمْر كما ذكرتَ، فكيف تعدَّد إيمانه حتَّى تعدَّد أجرُه!؟
          أُجِيْبَ بأنَّ إيمانه أوَّلاً تعلَّق بأنَّ الموصوفَ بكَذا رَسولٌ، وإيمانَه ثانياً تعلَّق بأنَّ محمَّداً صلعم هو الموصوفُ بتلك الصِّفاتِ، فهُما معلومانِ متباينانِ، فجاء التَّعدُّد.
          واستُشكلَ دُخولُ اليهودِ في ذلك؛ لأنَّ شَرْعَهم نُسخ بعيْسى ╕، والمنسوخُ لا أجْر في العَمل بِه فيختص الأجْر بالنَّصرانيِّ!؟
          وأُجِيْبَ بأنَّا لا نُسلِّم أنَّ النَّصْرانيَّة ناسخةٌ لليهوديَّة، نَعَمْ؛ لو ثبت ذلك لكان كذلك، كذا قرَّرَه الكِرْمانيُّ(1)، وتبِعَه البِرْماويُّ(2) وغيرُهُ.
          لكن قالَ في «الفَتْح»[1/190]: لا خلاف أنَّ عيْسى ╕ أُرسلَ إلى بني إسْرائيلَ، فمَن أجابَ منهم نُسب إليه، ومَن كذب منهم واستمرَّ على / يهوديَّته لم يكن مُؤمناً فلا يتناوله الخبرُ؛ لأنَّ شرطَه أن يكون مؤمناً بنبيِّه.
          نَعَمْ؛ مَنْ دخَلَ في اليهوديَّة مِن غير بني إسرائيلَ، أو لم يكن بحضرة عِيسى فلم تبلغه دعوته يصدق عليه أنَّه يهوديٌّ مؤمنٌ، إذْ هو مؤمنٌ بنبِيِّه مُوسى ولم يكذب نبياً آخر بعْدَه، فمَن أدْركَ بعثةَ محمَّدٍ صلعم ممَّن كان بهذه المثابة وآمنَ به لم يشكل أنَّه يدخل في الخبَر المذكور.
          نعَم؛ الإشكالُ في اليهودِ الذين كانوا بحَضْرتِه صلعم، وقد ثبتَ أنَّ الآيةَ الموافقة لهذا الحديث وهي قولُه تعالى في سُورة القصص: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص:54] نزلتْ في طائفةٍ آمنوا منهم كعَبْدِ الله بنِ سَلَامٍ وغيره.
          فَفي الطَّبرانيِّ(3)، من حديث رِفاعَةَ القُرَظِيِّ قال: «نزلتْ هذه الآيات فِيَّ وفي مَنْ آمَنَ مَعي».
          ورَوى الطَّبرانيُّ(4) بإسنادٍ صحيْحٍ، عَن عليِّ بنِ رِفاعَةَ القُرَظيِّ قال: «خرَجَ عشرةٌ منْ أهْل الكتابِ، منهُم أَبو رِفاعَةَ إلى النَّبيِّ صلعم فآمنوا، فأُوذوا، فنزلتْ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ...} [القصص:52]» الآياتِ.
          فهؤلاء مِنْ بني إسرائيلَ ولم يُؤمنوا بعيْسى، بلِ استمَرُّوا على اليهودِيَّة إلى أن آمنوا بمحمَّدٍ صلعم، وقد ثبتَ أنَّهم «يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ».
          قالَ الطِّيْبيُّ(5): فيُحمل أجْرُ الحديثِ على عُمومه، إذْ لا يبعد أن يكونَ طَرَيَانُ الإيمانِ بمحمَّدٍ صلعم سبباً لقَبول تلك الأديان وإنْ كانتْ مَنسوخةً. انتهى.
          ويمكن أنْ يقال: إنَّ الذين كانوا بالمديْنة لم تبلغْهُم دعْوة عِيسى ╕؛ لأنَّها لم تنتشرْ في أكثر البِلاد، فاستمرُّوا على يَهوديَّتهم، مُؤمنين بنَبِيِّهم مُوسى إلى أنْ جاءَ الإسلامُ فآمنوا بمحمَّدٍ صلعم(6)، فبهذا يرتفعُ الإشْكالُ.
          واشترطَ بعضُهم في الكتاب بقاءَه على ما بعث به نبِيّه، مِن غيرِ تبْديلٍ ولا تَحريفٍ، وعُورِضَ بأنَّه صلعم كتبَ إلى هِرَقْلَ: «أَسْلِمْ تَسْلَمَ، يُؤتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ» [خ¦7].
          وهرقلُ كان ممَّن دخلَ في النَّصْرانيَّة بعْدَ التَّبديلِ والتَّغْيير.
          وقد يُقال: إنَّ دُخولَه بعد التَّغيير والتَّبديلِ لا يقتضي تمسُّكَه بالمغير والمبدل؛ لأنَّ التَّغييرَ والتَّبديلَ لم يكونا عامَّين في سائرِ ما وجد من الإنْجيل.
          واعلمْ أنَّ حُكْم الكتابيَّات كحكمِ الكِتابيِّين؛ لأنَّ «النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ»[د 236، ت 113، حم 26238] في الأحْكام(7).
          وجرى الحاكمُ والعَيْنيُّ على أنَّه لابُدَّ أن يكون إيمانُه بنبِيِّه مُعتبَراً.
          قوله: (فَلَهُ أَجْرَانِ) أَجرٌ بإيمانه بنَبيِّه، وأجْرٌ بإيمانه بِنبيِّنا محمَّدٍ صلعم.
          قوله: (يُؤَدِّي حَقَّ الله) بأنِ امتثلَ أمْرَه واجتنب نهْيَه.
          قولُه: (وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ) أي: في الخدمة بأَلَّا يتهاوَن ولا يتكاسَل.
          قوله: (فَلَهُ أَجْرَانِ) أَجرٌ على أدائه (حَقَّ الله)، وأجْرٌ على نصيحة سيِّده.
          وهذا الحديثُ ذكَره البخاريُّ / في باب: فَضْل مَن أسْلَم من أهْل الكتابَين.


[1] اللامع 2/18.
[2] الكواكب 2/88.
[3] الكبير 4563.
[4] لم أجد فيه وهو في التاريخ الكبير للبخاري 2388، 6/103.
[5] شرح المشكاة 2/450.
[6] قوله: «وقد ثبتَ أنَّهم يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ... بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» زيادة من «ت»، وسقطت من الأصل.
[7] قوله: «في الأحكام» زيادة من الأصل و«ز5»، وسقطت من «ت» و«م».