حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

باب العلم قبل القول والعمل

          9- قولُه: (البُخَارِيُّ) [خ¦2/10-123] مبتدأٌ، وجملةُ (قَالَ...) إلى آخِرِه خَبَرٌ، وجملةُ (قَالَ رَسُوْلُ الله...) إلى آخرِه مَقُولُ القَوْلِ، وإنَّما لم يصِلِ المصنِّفُ هذا الحديثَ؛ لأنَّ البُخاريَّ علَّقَه في هذا الموضع، أي: حذَفَ سَنَدَه كُلَّه فقال: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم).
          والحقُّ أنَّه مَوصولٌ؛ فقد وصَلَه البُخاريُّ في بابٍ آخَرَ(1)، وكذلك الحديثُ الذي بَعْدَهُ.
          قوله: (مَنْ يُرِدُ اللهُ بِه خَيْراً) هو نَكِرَةٌ في سياقِ الشَّرْطِ فتَعُمُّ كُلَّ خيرٍ، وتنْوِينُه للتَّعظيم، فهو الخيرُ الكاملُ، فلا يدلُّ على عدم الخيْريَّة لغيره.
          وفيه بُشرى عظيمةٌ للمُتفقِّه؛ لأنَّ إرادةَ الخيْر منَ الله للعَبْدِ مُعيْنةٌ لَه على التَّفقُّه في الدِّيْن، ويستدلُّ عليها بالعلاماتِ، منها هذا القول الصَّادِر منَ الرَّسوْلِ صلعم؛ وهُو أقواها.
          وعَنِ ابنِ عُمَرَ(2): إنَّ النَّبيَّ صلعم قال: «مَجْلِسُ فِقْهٍ خَيْرٌ منْ عِبادةِ سِتِّين سَنَة».
          وقالَ الحسنُ البَصْريُّ: «الفَقيْهُ: هُو الزَّاهدُ في الدُّنيا، الرَّاغبُ في الآخِرة، البَصيرُ بأمْرِ دِيْنِه، المُداومُ على عِبادةِ رَبِّه».
          قوله: (يُفَقِّهْهُ) كذا في رِوايةِ الأكْثرِ.
          وفي رِواية المُسْتَمْلِيِّ: «يُفهِّمْه»، بالهاءِ المشدَّدة المكسورة، بعدها ميمٌ، والتَّفقُّه: التَّفهُّمُ.
          قوْله: (في الدِّيْنِ) أي: أُصولُه وفُروعُه، فشملَ عِلْم العقائدِ وعِلْمَ الفِقْه.
          قوله: (وإنَّما العِلْمُ بالتَّعلُّمِ) أي: بكَون الإنسان يتعلَّم العِلْم منْ غيره مِنَ العارِفين، وليس العِلْمُ بالمطالَعة في الكُتُبِ.
          والمعنى: ليس العِلْمُ المُعتَبَر إلَّا المأخوذَ منَ الأنبِياء ووَرَثَتِهم على سبيْل التَّعلُّم.
          وليسَ قولُه (وإنَّما العِلْمُ بالتَّعَلُّم) مِن كلام البُخاريِّ، بلْ هو حديثٌ مَرْفوعٌ أوردَه ابنُ أبي عاصِمٍ والطَّبرانيُّ مِن حديثِ مُعاوِيةَ، وأبو نُعيمٍ الأصْفهانيُّ في «رِياض المتعلمين» منْ حديثِ أبي الدَّرْداءِ / مرفُوْعاً:
          «إنَّما العِلْمُ بالتَّعلُّمِ، وإنَّما الحِلْمُ بالتَّحلُّم، ومَنْ يَتَحَرَّ الخيْر يُعْطَه، ومَن يتَّقِ الشَّرَّ يُوَقَّه».
          قولُه: (البُخَارِيُّ قَالَ: قَالَ...) إلى آخرِه.
          كذا في نُسخةٍ، وفيه ما تقدَّمَ من الإعْراب.
          وفي نسْخةٍ: (البُخَارِيُّ: «مَنْ سَلَكَ»)؛ وعليها ﻓ (البُخَارِيُّ) مُبتدأٌ خبَرُه محذوفٌ، والتَّقديرُ: البخاريُّ قالَ.
          ويصحُّ أنْ يكونَ فاعِلاً بفعْلٍ محْذوفٍ، والتَّقديرُ: قالَ البُخاريُّ.
          ويدلُّ للأوَّل ما قدَّمَه المؤلِّفُ.
          وقولُه: (مَنْ سَلَكَ) مَقُولٌ لقَوْلٍ محْذوفٍ، التَّقدير: قالَ رسوْلُ الله صلعم «مَنْ سَلَكَ...» إلى آخِرِه.
          قوله: (مَنْ سَلَكَ) هذه قطعةٌ منْ حديثٍ(3) أوَّلُه: «إنَّ العُلماءَ وَرَثَةُ الأنبِياءِ، وَرَّثُوا العِلْمَ، مَنْ أخَذَه أَخذَ بحَظٍّ وافرٍ، ومَنْ سَلَكَ طَرِيقاً...» إلى آخرِه.
          أي: مَن دخلَ طرِيقاً _أي: مِن طرِيقٍ_ وتَلبَّس بها، سواءٌ كانتِ الطَّريقُ حِسِّيَّةً كالطَّرِيق المُوصلة للمَسجدِ الذي فيه العِلْم أوْ لبَلْدة أُخرى فيها العِلْم، أو مَعْنَويَّةً كالصَّنعة التي يحصلُ بها المؤونة فتُعيْنُه على طَلَبِ العِلْم.
          قوله: (يَطْلُبُ بِه) أي: يطْلُبُ السَّالِكُ بسبَبٍ الوصولَ منْ تلْك الطَّريق.
          وقوله: (عِلْماً) نكَّرةُ ﻛ (طَرِيْقاً) ليندرِجَ فيه القليلُ والكَثيرُ، وليتناول أنواعَ الطُّرُق المُوصلة إلى تحصيل العُلومِ الدِّينيَّة.
          قوله: (سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيْقاً) أي: في الآخِرة، فالمرادُ بها: الطَّريْقُ الحِسِّيَّة وهيَ الصِّراطُ المُوصلُ للجَنَّة.
          أَو في الدُّنيا، وهي الطَّرِيق المعْنَويَّة، بأنْ يُوفِّقَه للأعْمال الصَّالحةِ الموصلة إلى الجنَّة.
          وهذه بشارةٌ بتسهيل العِلْم على طالبِه؛ لأنَّ طلَبَه منَ الطُّرُق الموصلة إلى الجنَّة.
          وهذا الحديثُ والذي قبله ذكَرَهُما البخاريُّ في باب: العِلْم قبل القوْلِ والعَمَلِ.


[1] باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين [خ¦71].
[2] قال السيوطي في جامع الأحاديث الدارقطني في الأفراد والديلمي 7879 وهو ضعيف.
[3] [د 3641، ت2682، ه 223، 88].