حياة البخاري

مقدمة الكتاب

          ♫
          مقدِّمة الكتاب
          مِن المعلوم أنَّ أعظمَ أثرٍ محى من الكون دَياجِير الظُّلم، وأنار للأُمم السَّبيل الأَمَم، وأنام في أمانه الأنام، هو أثر دعوة نبينا محمَّدٍ ╕، فقد ظهرَ له في الكون ما ظهر، وأدهشَ العالم بأياته الكُبر، وكيف لا؟ وقد بذلَ مِن القوَّة والجهاد لإخراج النَّاس من الظُّلماتِ إلى النُّور، ما عرفته الأُمم في أنحاء المعمور، فلم يدعْ صلوات الله عليه أمرًا ممَّا فيه سعادة الدَّارين إلَّا وبَلَّغَهُ، وصَدَع به، وقاوم محاديِّه، وأرشد إلى التمسك بسببه، حتَّى ظهر الحقُّ وعلا سلطانُه، وشمختْ مكانتُه ورسخ مكانه، ولذا كان من أعظم معجزات هذا النَّبِيِّ المعظم صلعم أنْ أصبح في مدَّة يسيرة أهلُ الجزيرة العربية _بعد أنْ طال أَمَدُ تقاليدهم العمياء وضلالاتهم الجاهلية_ علماء حُنَفَاءَ، عُقَلاَءَ حُكَمَاءَ، أُولي علم وكِيَاسة، وتقوى وسِياسَة.
          فنهضت أنفسُهم إلى نشرِ لواءِ الدِّين، والدَّعوة إلى سبيل الحقِّ المُبينِ، وكَسْرِ قيودِ الجَبَابرةِ وتقاليدِ الأحْبَار، وإطلاقِ العَنَان للعقل في النَّظر والاعتبار، فساسوا بتلك الحكمةِ الباهرةِ والعلمِ الجمِّ الأُممَ المُتباينة، وبلغ نورُ عدلهم وعرفانِهم الأطرافَ المتنائيةَ.
          ولمَّا كان ركنُ الهَدي النَّبَوي الدَّعوةَ إلى العلم والتَّنْويه بأُولي الألباب والعلم، والسَّعيُ إلى الحِكْمَة والعِلم، وأخذ الحكمة من أيِّ قائلٍ للزيادة من العلم، نزعتْ بالسَّلف الهِمَّةُ إلى اّْقتناص العلم، وضرب أكباد الإبل للعلم، واّْرتكابِ الصِّعَاب وامتطاءِ القُنَنِ(1) والهِضَاب للعلم، وجَوْبِ الفَيَافي والقِفَار، واستسهالِ اقتحام لُجَجِ البحار للعلم، حتَّى صاروا أئمة الدُّنيا في العلم، واعترفتْ من تَزْعُمُ الآن أنَّها أرقى الأُمم مَدَنيَّة بأنها مدينةً للعرب وحضارة الإسلام في العلم.
          يظنُّ كثيرٌ أنَّ العلمَ في الصَّدر الأوَّل كان في الصُّدور لا في السُّطور، ولعلَّ قائلَ ذلك أراد عنايةَ أولئك بحفظه ووعيه عن ظهر قلبٍ؛ لقلَّة الاتكال على الخطِ والمحفوظ / وهو حقٌّ، إلَّا أنَّ العِنَايَةَ على التحقيق كانت بالصُّدور والسُّطور، يَدُلُّك على هذا أمرُ النَّبيِّ صلعم بكتابة القرآن الكريم، وإِذْنُهُ لعبد الله بن عمرو بن العاص بكتابة أحاديثه في الرِّضا والغضب(2)، وكتابة غيره مِن أصحابه الكرام لكثيرٍ من سنته في نُصُبِ الصَّدقات(3) وأَرْش الدِّيَّات(4)، وإِذْنِه لأَبي شاهٍ بكتابة خطبة الوداع في عرفات(5)، إلى غير ذلك ممَّا هو معلوم ومشهور، نعم كان ما كُتب من السُّنَّة المُطَهَّرة وجُمع هو نزرٌ بالنسبة إلى المحفوظ، ولم يكن ما كتب على تنسيق الترتيب المعهود الآن، وإنَّما نُظم الترتيب في عهد التَّابعين، لمَّا انتشر العلماء في الأمصار، وظهرت أهلُ الأهواء والبدع، فكان أوَّل مجموع في العلم هو سُنَّة النَّبيِّ صلعم وهديه، وأقواله، وأفعاله، وأقضيته، وأحكامه، بأمرٍ من عمر بن عبد العزيز، وسُمِّي ذلك بـــ«الحديث»؛ تمييزًا له عن القرآن القديم، وسُمِّي حُفَّاظه: «المُحدِّثين».
          قال السيوطي في التدريب: أمَّا ابتداء تدوين الحديث فإنَّه وقع على رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز بأمره، ففي «صحيح البخاريِّ » في أبواب العلم [خ¦3/34-179] : وكَتَب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلعم فاكْتُبْهُ؛ فإني خِفتُ دُروسَ العلم وذَهابَ العُلَماءِ.
          قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»: يُستفاد من هذا ابتداء تدوين الحديث النَّبَوي، أفاد أنَّ أوَّل من دَوَّنه بأمر عمر بن عبد العزيز الإمام ابنُ شِهَاب الزُّهْرِي، ثمَّ دوِّنت السُّنَنُ ممزوجةً بأقوالِ الصَّحَابة وفتاوى التَّابعين وغيرهم، وأوَّل مَن جمع ذلك ابن جُرَيْج بمكة، وابن إسْحَاق أو مالِك بالمدينة، والرَّبِيع بن صَبِيح أو سعيد بن أَبي عَرُوبَة أو حَمَّاد بن سَلَمة بالبصرة، وسُفْيان الثَّوري بالكوفة، والأَوْزاعي بالشام، وهُشَيْم بواسِط، ومَعْمَر باليمن، وجَرير بن عبد الحميد بالرَّيِّ، وابن المُبَارَك بخُراسَان، وكان هؤلاء في عصر واحدٍ فلا يُدرىَ أيُّهم سبق، وهؤلاء كانوا في أثناء المئة الثانية، ثمَّ تلا المذكورين كثير من أهل عصرهم.
          وبالجملة فقد استفحل أمرُ التأليف في السُّنَّة وتفنَّن الحفَّاظ في جمعها، فمنهم مَن رتَّب الحديثَ على أسماء الصحابة فخرَّج المسندات والمرفوعات إلى النَّبيِّ صلعم. /
          ومنهم مَن ضمَّ إليها الموقوفات على الصَّحابة وروى فتاويهم وفتاوى التَّابعين معهم.
          ومنهم مَن رتَّب الحديث على أبواب الفقه.
          ومنهم مَن بوَّبه ورتَّبَه ورأى أنْ لا يُسند إلَّا الصحيح، وأن يؤيِّده بما ينزل عنه معلِّقًا له، وأنْ يُنبِّه على ضعف الضعيف وخطأ الرأي المُنابذ للسُّنَّة.
          ومنهم مَن بوَّبه ورتَّبَه وأسند جميع ما رُوي في الباب صحيحًا.
          ومنهم مَن بوَّبه ورتَّبَه وأخرج كل ما رُوي في الباب صحيحًا أو غيره.
          ومنهم مَن بوَّبه ورتَّبَه واقتصر على أصحِّ ما روي في الباب، وأشار إلى بقيَّة مَن رواه عن الصَّحب من طرف آخر، وضمَّ إليه فقه الأئمَّة فيه.
          ومنهم من رتَّبَه على معاجم الشيوخ.
          إلى غير ذلك من التَّفنن في التأليف، الذي يقضيه ناموسُ العناية به والتَّسابق إليه، لا سيما وفي الصَّدر الأوَّل كانت دولة العلم للحديث والآثار، ودولة الفخر والمجد لحملته وحفظته والمُكثرين من تلقيه، وتطواف البلاد لسماعه، حتَّى كان يُصبح الحافظ رِحْلَةَ النَّاس من الآفاق، وكعبةَ الطُّلاب والآخذين من أقاصي المعمور، ولذا عُنيت الحُفَّاظ بجمع الحديث، وكثرت التآليف فيه كثرة مدهشة، ما بين مجلدات إلى أجزاء صغيرة في ورقات، وتنوَّعت مع ذلك وجهة تحمل الحديث وجمعه.
          فمنهم مَن كان يتحمل عن كلِّ راوٍ ولا يبالي بما غمز فيه أو رُمي به حِرصًا على العلم في الوقوف على طرائف الأخبار وغرائب النوادر والآثار.
          ومنهم مَن كان يتحرى التلقي عن العدل الثِّقة، ويطرح غيره.
          ومنهم من كان يتوسط في الرجال فلا يغلو في التَّشديد فيهم ولا في الترخيص، فيأخذ عن كلِّ مَن لم يجمعوا على تركه.
          ثم جروا في مسنداتهم بعد ذلك على مشاربهم، فمنهم من جمع بين الصحيح والحسن والضعيف والمنكر، وأحال تمييز ذلك على طبقات الرجال المعروفة عند أهلها وما صُنف في تعديلها وجرحها.
          ومنهم من اقتصر على الصحيح وجانب غيرَه.
          وهؤلاء منهم مَن تساهل في الإسناد والمعنعن فجعل له حكم الاتصال؛ إذا تعاصر المعنعن ومن عَنعن عنه وإن لم يثبت اجتماعهما، إلَّا إنْ كان المعنعن مدلِّسًا، وهو ما جرى عليه الإمام مسلم.
          ومنهم [مَن] تشدَّد فلم يحمل ذلك على الاتصال إلَّا إذا أثبت اجتماعهما ولو مرَّة واحدة، وهذا ما نحاه الإمام البخاريُّ، وجرى عليه في «صحيحه» وصرَّح به في «تاريخه»(6)، وبه يُعلم أنَّ الإمام البخاريَّ أشد المحدِّثين مذهبًا في قبول الحديث، فلا غرو أن لُقِّب بأمير المؤمنين في الحديث، وكان كتابه أصح كتب / الحديث وأرقاها، فإذًا لزم التعريف بالبخاريِّ والتنويه بترجمة حياته وفلسفته في الحديث، واجتهاده في الفقه، وسيرته الجليلة.


[1] القُنَنِ: أعالي الجبال. قال في لسان العرب مادة: «قنن»: قُنَّةُ الجبل وقُلَّتُه أَعلاه والجمع القُنَنُ.اهـ. (ل).
[2] أخرج أبو داود في سننه [3646] عن عن عبدِ الله بن عمرو، قال: كنتُ أكتبُ كلَّ شيءٍ أسمعُه من رسولِ الله صلعم أُريدُ حفْظَه، فنهتْني قريشٌ، وقالوا: أتكْتبُ كلَّ شيءٍ تَسمَعُه من رسول الله صلعم، ورسولُ الله صلعم بَشَرٌ يتكلَّمُ في الغضَبِ والرِّضا، فأمسَكتُ عن الكتاب، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلعم، فأومأ بإصبَعِه إلى فيه، فقال: «اكتُبْ، فوالذي نفسي بيدِه، ما يَخرُجُ منه إلَّا حقٌّ». (ل).
[3] أخرج أبو داود في سننه [1567] عن حماد، قال: أخذتُ مِن ثُمامة بن عبد الله بن أنسٍ كتاباً زعم أنَّ أبا بكر كَتَبه لأنس، وعليه خاتِم رسولِ الله صلعم، حين بعثه مُصدِّقاً وكتبه له، فإذا فيه: «هذه فريضةُ الصَّدَقةِ التي فَرَضَها رسولُ الله صلعم على المسلِمين»... (ل)
[4] أخرج الإمام مالك في الموطأ [1547] عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، أنَّ في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلعم لعمرو بن حزم في العقول أنَّ في النفس مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعى جدعًا مائة من الإبل...... (ل)
[5] أخرج الإمام البخاري في صحيحه [112] الحديث في خطبة حجة الوداع، وفي آخره: «اكْتُبُوا لأبي فلانٍ». وجاء مصرَّحًا باسمه في حديث [2434] . (ل)
[6] قلنا (ل): قال الزركلي في الأعلام [6/34] : في مجلة (العرب) الباكستانية (رمضان 1379) أنَّ قبر البخاريِّ اندثر، وبني مكانه قبر آخر، وهو في قرية تعرف الآن بقرية (خواجه صاحب) على 30 كيلومترا من سمرقند، في طريق بخارى.