هدى الساري لمقدمة فتح الباري

مقدمة المؤلف

          ♫
          وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
          [رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَّدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدَاً]
          قالَ الشَّيخُ الإمامُ العالمُ العلَّامة الرَّباني حُجَّةُ الإسلامِ، رِحلةُ الطَّالبينَ، عُمدةُ المحدِّثينَ، زينُ المجالِسِ، فريدُ عصرِهِ، ووحيدُ دهرِهِ مُحْيي السُّنَّةِ الغرَّاءِ، قامعُ أهلِ البِدَعِ [والأهواءِ](1)، الشِّهابُ الثَّاقبُ أَبُوْ الفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنُ مُحَمَّد(2) بن مُحَمَّدِ بن عَلِيٍّ العَسْقَلَانِيُّ الشَّهيرُ بابنِ حَجَرٍ، أثابهُ اللهُ الجنَّةَ بمنِّهِ وكَرَمِهِ، آمينَ [يا ربَّ العَالمين](3)(4) :
          الحمدُ للهِ الذي شَرَحَ صُدُوْرَ أهلِ الإسلامِ [بالسُّنَّةِ](5) فانْقَادَتْ لاتِّبَاعِهَا، وارتاحَتْ لسماعِهَا، وأَمَاتَ نفوسَ أُولِي الطُّغيانِ بالبِدعةِ بعدَ أنْ تمادَتْ في نِزاعِهَا، [إذْ تَغَالَتْ](6) في ابْتِدَاعِهَا.
          وأشهدُ أنَّ لا إلهَ إلَّا الله وحدَه لا شريكَ لهُ، العالِمُ بانقيادِ الأفئدةِ وامتناعِهَا، المُطَّلعُ على ضَمائرِ القُلوبِ [في](7) حَالَتَي افْتِرَاقِهَا وَاجْتِمَاعِهَا، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عَبدهُ ورسولُهُ، الذي انْخفضَتْ بِحَقِّهِ كلمةُ الباطلِ بعد ارتفاعِهَا، واتَّصلَتْ بإرسالهِ أنوارُ الهُدى، فظهرَتْ حُجَّتُها بعدَ انقطاعَهَا، صلعم ما دَامَتِ السَّماءُ والأرضُ هذهِ في سُمُوِّهَا، وهذه في اتِّسَاعِهَا، وعلى آله وصحبهِ الذينَ كَسَروا جيوشَ المردَةِ وفَتَحُوْا حصونَ قِلاعِهَا، وهَجَرُوْا في مَحَبَّةِ دَاعِيْهِمْ إلى اللهِ الأقطارَ، والأَوطانَ، فلم يُعَاوِدُوْهَا بعدَ ودَاعِهَا، وحَفِظُوْا على اتِّباعِهِم أَقوالَهُ وأفعالَهُ وأحوالَهُ، حتى أُمِّنَتْ بهم السُّننُ الشَّريفةُ من ضَيَاعِهَا.
          أما بعدُ:
          فإنَّ أَوْلَى ما صُرِفَتْ فيهِ نَفَائِسُ الأيامِ، وأَعلى مَا خُصَّ بمزيدِ الاهتمامِ، الاشتغالُ بالعُلومِ الشَّرعيةِ المتلقَّاةِ عَنْ خيرِ البريَّةَ، ولا يرتابُ عَاقلٌ في أنَّ مَدَارَهَا على كتابِ اللهِ المُقتفى، وسُنَّةِ نَبِيِّهِ المُصطفَى، وأنَّ باقِي العُلومِ إمَّا آلاتٌ لِفَهْمِهِمَا، وهي الضَّالةُ المَطلوبةُ، أو أَجنبيةٌ عنهما، وهي الضَّارةُ المَغلوبةُ، وقد رأيتُ الإمامَ أَبَا عبدِ اللهِ البخاريَّ في جامِعِهِ الصَّحيحِ قد تَصَدَّى للاقتباسِ من أَنْوَارِهِمَا البهيَّةِ تَقريْرَاً واستنباطَاً، وكَرَعَ من مَنَاهِلِهِمَا الرويِّةِ انتزاعَاً و [انتشاطاً](8)، ورُزِقَ بحُسْنِ نيَّتِهِ السَّعادةَ فيما جَمَعَ، حَتَّى أَذْعَنَ له المُخالفُ والمُوافِقُ، وتلقى كلامَهُ في التَّصحيحِ بالتَّسليمِ المُطاوِعُ والمُفَارِقُ، وقد اسْتَخَرْتُ اللهَ تعالى في أنْ أَضُمَّ إليهِ نُبَذَاً شَارِحَةً لفوائدِهِ، موضِّحةً لمقاصِدِهِ، كاشفةً عن مَغْزَاهُ في تقييدِ أَوَابِدِهِ، واقْتِنَاصِ شَوارِدِهِ، وأقدِّمُ بينَ يدي ذلِكَ مقدمةً في تَبْيِينِ قواعِدِهِ، وتزيينِ فَرَائِدِهِ، جامعةً وجيزةً دونَ الإسهابِ، وفوقَ القُصُوْرِ، سهلةَ المأخذِ، تفتحُ المُسْتَغْلَقَ، وتذلِّلُ الصِّعابَ، وتَشْرَحُ الصدورَ، ويَنحصرُ القولُ فيها إن شاءَ اللهُ تعالى في عشرةِ فُصولٍ:
          الأوَّلُ: في بيانِ السَّبَبِ البَاعِثِ له على تصنيفِ هذا الكتابِ.
          الثَّاني: في بيانِ مَوْضُوْعهِ، والكشفِ عن مَغْزَاهُ فيهِ، و الكلامِ على تحقيقِ شُروطِهِ، وتقريرِ كونِهِ [أصحَّ](9) الكتبِ المصنَّفَةِ في الحديثِ النَّبويِّ، ويلتحقُ بِهِ الكلامُ على تراجِمِهِ [البديعةِ المِثالِ، المنيعةِ المنالِ](10) الَّتي انفردَ بِتَدْقِيْقِهِ فيها عن نُظَرَائِهِ، واشتهرَ بِتَحْقِيْقِهِ لها عن قُرَنَائِهِ.
          الثَّالثُ: في بيانِ الحكمةِ في تقطيعهِ للحديثِ، واختصارِهِ، وفائدةِ إعادَتِهِ للحديثِ، وتكرارِهِ.
          الرَّابعُ: في بيانِ السببِ في إيرادِهِ [للأحاديثِ](11) المُعلَّقَةِ، والآثارِ الموقوفَةِ، مع أنَّهَا تُباينُ أصلَ موضوعِ الكتابِ، وألحقتُ فيهِ سِيَاقَ الأحاديثِ المرفوعَةِ المُعلَّقَةِ، والإشارةَ لمن وَصَلَهَا على سبيلِ الاختصارِ.
          الخامِسُ: في ضبطِ الغَريبِ الواقعِ في متونِهِ، مُرتِّباً لهُ عَلَى [2/أ] حُروفِ المعجمِ، بأَلخصِ عِبارةٍ، وأخلصِ إِشارَةٍ؛ [ليَسْهلَ](12) مُراجَعَتُهُ، ويخفَّ تِكرارُهُ.
          السَّادسُ: في ضبطِ الأسماءِ المُشْكِلَةِ الَّتي فيهِ، وكذا الكُنى والأنسابِ، وهيَ على قِسْمَيْنِ: الأوَّل: [المُؤتَلِفَةِ، والمُختلِفَةِ](13) الواقعةُ فيهِ، حيثُ تدخلُ تحتَ ضَابِطٍ كُلِّيٍّ [لِيَسْهُلَ](14) مراجعَتُهَا، ويخفَّ تكرارُها، وما عدا ذلكَ فَيُذْكَرُ في الأصلِ. والثَّاني: المفرداتِ مِنْ ذلكَ.
          السَّابعُ: في التَّعْرِيْفِ بِشُيُوْخِهِ الذين أهملَ [نِسْبَتَهُمْ](15) إذا كَانَتْ يكثرُ اشْتِرَاكُهَا: كمحمَّدٍ، لا من يقلُّ اشتراكُهُ: كمُسَدَّدٍ، وفيهِ الكلامُ على جميعِ ما فيهِ من مُهْمَلٍ ومُبْهَمٍ على سياقِ الكتابِ مُخْتَصَرَاً.
          الثَّامنُ: في سياقِ الأَحَاديثِ الَّتي انْتَقَدَهَا عليهِ حافظُ عَصْرِهِ أَبُوْ الحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وغيرُهُ من النُّقَادِ، والجوابِ عنها حَدِيْثَاً حديثاً، وإيضاحِ أنَّه ليسَ فيها ما يُخِلُّ بشرطِهِ الَّذي حَقَّقْنَاهُ.
          التَّاسعُ: في سياقِ أسماءِ جميعِ من طُعِنَ فيهِ من رِجَالِهِ على ترتيبِ الحُروفِ، والجوابِ عن ذلكَ الطَّعنِ بطريقِ الإنْصَافِ والعدلِ، والاعْتذارِ عن المصنِّفِ في التَّخريجِ لِبَعْضِهِمْ مِمَّنْ يُقَوى جانبُ القَدحِ فيه؛ إمَّا لكونه تَجَنَّبَ ما طُعِنَ فيهِ بِسَبَبِهِ، وإما لكونِهِ أخرجَ ما وافَقَهُ عليهِ من هو أقوى منهُ، وإما لغيرِ ذلك من الأسبابِ.
          العاشِرُ: في سياقِ فَهرسَةِ كِتابِهِ المذكورِ باباً باباً، وعدَّةِ ما في كلِّ بابٍ من الحديثِ، ومنهُ /
          تظهرُ عدَّةُ أحادِيْثِهِ بالمكرَّرِ، أَوْرَدْتُهُ تِبَعَاً لشيخِ الإسلامِ أبي زكريَّا النَّوَوِيِّ ☺ تبرُّكاً بهِ، ثمَّ أضفتُ إليهِ مناسبةَ ذلكَ ممَّا استفَدْتُهُ من شَيخِ الإسلامِ أبي حفصٍ عمر البُلْقِيْنِيِّ ☺، ثمَّ أَرْدَفْتُهُ بسياقِ أسماءِ الصَّحابةِ الذينَ اشتملَ عليهم كتابُهُ مُرتِّباً لهم على الحروفِ، [وعدِّ](16) مَا لكلِّ واحدٍ [منهم عندَهُ من الحديثِ](17)، ومنه يظهرُ تحريرُ ما اشتملَ عليهِ كتابُهُ من غيرِ تكريرٍ.
          ثمَّ ختمتُ هذهِ المقدِّمةَ بترجمةٍ كاشفةٍ عن خَصَائصِهِ، ومناقبِهِ، جامعةٍ لمآثِرِهِ ومناقِبِهِ، ليكونَ ذِكْرُهُ واسطةَ عقدِ نِظامِهَا، وسُرَّةَ مِسْكِ خِتَامُهُا.
          فإذَا تحرَّرَتْ هذهِ الفصولُ، وتقررَّتْ هذهِ الأصولُ؛ افتتحتُ شرحَ الكتابِ مُستعيناً بالفَتَّاحِ الوهَّابِ، فأسوقُ إنْ شاءَ الله تعالى البابَ وحَدِيثَهُ أولاً، ثم أذكرُ وجهَ المُناسبةِ بينهُمَا إن كانتْ خَفِيَّةً.
          ثُم أستخرجُ ثانياً ما يتعلقُ بهِ غرضٌ صحيحٌ في ذلكَ الحديثِ من الفوائدِ المَتنيَّةِ والإِسناديَّةِ من تَتِمَّاتٍ، وزياداتٍ، وكشفِ غامضٍ، وتصريحِ مُدَلِّسٍ بسماعٍ، ومتابعةِ سامعٍ من شيخٍ اختلطَ قبلَ ذلك، مُنتزعاً كلَّ ذلك من أمَّهاتِ المسانيدِ والجوامعِ والمُستخرجاتِ والأجزاءِ والفوائدِ، بشرطِ الصِّحَّةِ أو الحُسنِ فيما أوردَهُ من ذَلِكَ.
          وثالثاً: أصلُ ما انقطعَ من مُعَلَّقَاتِهِ ومَوْقُوْفَاتِهِ وهناكَ تلتئمُ زوائدُ الفوائدِ [وتنتظمُ](18) شواردُ الفَرائدِ.
          ورابعاً: أضبطُ ما يُشْكِلُ من جميعِ ما تقدَّمَ أسماءً وأوصافَاً، مع إيضاحِ مَعَانِي الألفاظِ اللغويَةِ، والتَّنبيهِ على النُّكَتِ البَيَانِيَّةِ ونحوِ ذلك.
          وخامساً: أُوْرِدُ ما استفدتُهُ من كلامِ الأئمَّة ممَّا اسْتَنْبَطُوهُ من ذلكَ الخبرِ من الأحكامِ الفقهيةِ، والمواعظِ الزُّهديَةِ، والآدابِ المرعيَّةِ، مُقْتَصِرَاً على الرَّاجحِ من ذلكَ، مُتَحَرِّيَاً للواضحِ دونَ المُستغلقِ في تلكَ المَسَالِكِ، مع الاعتناءِ بالجمعِ بينَ ما ظاهرُهُ التَّعارضُ مع غيرِهِ، [2/ب] والتَّنصيصِ على المنسوخُ بناسخِهِ، والعامِّ بمُخَصَّصِهِ، والمُطلقِ بمقيِّدِهِ، والمُجملِ بمبيِّنِهِ، والظاهرِ بمؤوَّلِهِ، والإشارةِ إلى نُكتٍ من القواعدِ الأصوليةِ، ونُبَذٍ من فوائدِ العربيةِ، ونُخَبٍ من [الخلافياتِ](19) المذهبيَّةِ بحسبِ ما اتَّصلَ بي من كلامِ الأئمَّةِ، واتسعَّ لهُ فهمي من المقاصِدِ المُهمَةِ.
          وأُراعِي هذا الأسلوبَ إن شاءَ الله تعالى في كلِّ بَابٍ؛ فإنْ تكرَّرَ المتنُ [في بابٍ غير بابٍ](20) تقدَّمَ نَبَّهْتُ على حكمةِ التكرارِ من غيرِ إعادةٍ لهُ إلَّا أن يتغايرَ لفظُهُ أو معناهُ، فأنبِّهُ على الموضعِ المُغاير خاصة، فإنْ تكرَّرَ في بابٍ آخر اقتصرت فيما بعد الأوَّل على المناسبة شارحاً لما لم يتقدم له ذِكرٌ مُنبهاً على الموضعِ الذي تقدَّمَ بسطُ القولِ فيهِ، فإن كانَتْ الدلالةُ لا تظهرُ في البابِ المقدَّمِ إلَّا على بُعْدٍ غيَّرتُ هذا الاصطلاحَ بالاقتصارِ في الأوَّل على المناسبةِ، وفي الثَّاني على سِيَاقِ الأساليبِ المتعاقبةِ مُرَاعِيَاً في جميعها مصلحَةَ الاختصارِ دونَ الهَذْرِ والإكثارِ.
          والله أسألُ أن يمنَّ عليَّ بالعونِ على إكمالِهِ بكرمِهِ ومنِّهِ، وأن يَهديني لما اختُلفَ فيه من الحقِّ بإذنِهِ، وأنْ يُجْزِلَ لي على الاشتغالِ بآثارِ نبيهِ الثوابَ في الدَّارِ الأخرى، وأن يُسْبِغَ عليَّ وعلى من طَالَعَهُ أو [قَرَأهُ](21) أو كتبه النِّعم الوَافِرَةَ تَتْرَى، إنَّه سَمِيْعٌ مُجِيْبٌ. /


[1] في ت: والحوادث.
[2] في ت: أحمد بن علي بن أحمد العسقلاني، وكلاهما صواب إذ نسب في ت إلى جده الأعلى، فهو: أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد بن حجر. انظر: توضيح المشتبه: (3/128).
[3] زيادة من ت.
[4] سقط هذا المقطع من د ويظهر من سياقه بأنه ليس من قول المؤلف بل ممن بعده، فيجب عزو هذا الكلام لقائله.
[5] في ط: للسنة.
[6] في (م) و ط: وتغالت.
[7] في ت: على حالتي.
[8] في د استنباطاً، وقد ذكرت قبل جملة وهي خطأ، وقد أثبت ما في غير د.
[9] في (م) و (س) و ط: من أصح.
[10] في (م) و (س) و ط: البديعة المنال، المنيعة المثال.
[11] في (م) و (س) و ط: الأحاديث.
[12] في (م) و (س) و ط: لتسهل.
[13] في ت: المختلفة والمؤتلفة.
[14] في (م) و ط: لتسهل.
[15] في ت: تسميتهم.
[16] في ط: وعدة.
[17] في ت: منهم من الحديث عنده.
[18] في ت: وينتظم.
[19] في ت: الخلافات.
[20] في (م) و ط: في باب بعينه غير باب...
[21] في ت: وقرأه.