إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل

          6416- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ) المدينيُّ قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو المُنْذِرِ الطُّفَاوِيُّ) بضم الطاء المهملة بعدها فاء فألف فواو فتحتية، نسبة إلى بني طفاوة أو موضع بالبصرة (عَنْ سُلَيْمَانَ الأَعْمَشِ) سقط «سليمان» لأبي ذرٍّ، أنَّه (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (مُجَاهِدٌ) هو ابنُ جبرٍ المفسِّر (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ☻ ) سقط «عبد الله» لأبي ذرٍّ، أنَّه (قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلعم بِمَنْكِبِي) بكسر الكاف والموحدة وتخفيف التَّحتية، مجمعُ العضد والكتف. قال في «الفتح»: وضُبِطَ في بعض الأصول: ”بمنكبَيَّ“ بلفظ التَّثنية (فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ) قَدِمَ بلدًا لا مسكنَ له فيها يؤويه، ولا سكنَ يسلِّيه، خالٍ عن الأهلِ والعيال والعلائق الَّتي هي سبب الاشتغال عن الخالق، ولمَّا شبَّه النَّاسك السَّالك بالغريب الَّذي ليس له مسكنٌ ترقَّى وأضربَ عنه بقوله: (أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) لأنَّ الغريب قد يسكنُ في بلاد الغربةِ ويقيم فيها، بخلاف عابر السَّبيل القاصد للبلد الشَّاسع، وبينه وبينها أوديةٌ مُرْدِيةٌ ومفاوز مهلكةٌ، وهو بمرصدٍ من قطَّاع الطَّريق، فهل له أن يُقيم لحظةً أو يسكن لمحةً، ومن ثمَّ عقَّبه بقوله: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ) ☻ (يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ) أي: سِرْ دائمًا ولا تفتر عن السَّير ساعةً، فإنَّك إن قصَّرت في السَّير انقطعتَ عن المقصودِ، وهلكتَ في تلك الأودية هذا معنى المُشبَّه به، وأمَّا المُشبَّه فهو قوله: (وَخُذْ مِنْ) زمن (صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ) وفي رواية ليثِ بن أبي سُلَيمٍ عن مجاهدٍ _عند أحمد والتِّرمذيِّ_: «لسَقَمِك» أي: سِر سيرك القصد في حال صحَّتك بل لا تقنعْ به، وزدْ عليه بقدر قوَّتك ما دامتْ فيك قوَّةٌ بحيث يكون ما بك(1) من تلك الزِّيادة قائمًا مقام ما لعلَّه يفوت حالَ المرض والضَّعف، أو اشتغل في الصِّحَّة بالطَّاعة بحيث لو حصلَ تقصيرٌ في المرضِ لانجبر بذلك، وفي قوله: (وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ) إشارةٌ إلى أخذِ نصيب الموت، وما يحصل فيه من الفتورِ من السَّقم، يعني: لا تقعد في المرض عن السَّير كلَّ القعود بل ما أمكنك منه، فاجتهدْ فيه حتَّى تنتهي إلى لقاءِ الله وما عندَه من الفلاح والنَّجاح، وإلَّا خِبتَ وخسرت، وزاد ليث: «فإنَّك لا تدرِي يا عبد الله ما اسمُك غدًا». أي: هل يُقال لك: شقيٌّ أم سعيدٌ؟ أو هل يُقال لك: حيٌّ أو ميِّتٌ؟ وفي حديث ابن عبَّاسٍ عند الحاكمِ أنَّ النَّبيَّ صلعم قال لرجلٍ وهو يعظه: «اغتنِم خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَكَ قبلَ هرمِكَ، وصحَّتكَ قبلَ سقمِكَ، وغناكَ قبلَ فقركَ، وفراغكَ‼ قبلَ شُغلكَ، وحياتَكَ قبلَ موتِكَ» فالعاقلُ إذا أمسىَ لا ينتظر الصَّباح، وإذا أصبح لا ينتظر المساء، بل يظنُّ أنَّ أجلهُ يدركهُ قبل ذلك، فيعملُ ما يَلْقَى نفعَه بعد موته، ويبادرُ أيَّام صحَّته بالعملِ الصَّالح، فإنَّ المرض قد يطرأُ فيمنعُ من العملِ فيخشى على من فرَّط في ذلك أن يصلَ إلى المعاد بغير زادٍ، فمَن لم ينتهزِ الفرصة يندمْ، وما أحسن قول من قال:
إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا                     فَإِنِّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونُ
وَلَا تَغْفُلْ عَنْ الإِحْسَانِ فِيْهَا                     فَمَا تَدْرِي السُّكُونُ مَتَى يَكُونُ
إِذَا ظَفِرَتْ يَدَاكَ فَلَا تُقَصِّـر                     فَإِنَّ الدَّهْرَ عَادَتُهُ يَخُوْنُ(2)
والحديثُ أخرجه التِّرمذيُّ.


[1] في (د): «دابك».
[2] في (ع): «عارية تخون».