إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً

          6389- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ) هو ابنُ مسرهَدٍ قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ) بن سعيدٍ البصريُّ (عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ) بن صهيبٍ (عَنْ أَنَسٍ) ☺ ، أنَّه (قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلعم : اللَّهُمَّ آتِنَا) وللكُشميهنيِّ: ”اللَّهمَّ ربَّنا آتنا“ (فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً) الجارّ في قوله: «في الدُّنيا» يتعلَّق(1) بـ «آتنا» أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من «حسنةٍ» لأنَّه كان في الأصلِ صفة لها، فلمَّا قُدِّمَ عليها انتصبَ حالًا، والواو في قوله: «وفي الآخرةِ» عاطفةٌ شيئين على شيئين متقدِّمين، فـ «في الآخرةِ» عطفٌ على «في الدُّنيا» بإعادة العامل، و«حسنةٌ» عطف على «حسنةٍ» والواو تعطفُ شيئين فأكثر على شيئين فأكثر، تقول‼: أعلمَ اللهُ زيدًا عَمْرًا فاضِلًا وبَكرًا خالدًا صالحًا، اللَّهمَّ إلَّا أن ينوبَ عن عاملين ففيها خلافٌ وتفصيلٌ مذكورٌ في محلِّه، واختلف في الحسنتين؛ فعن الحسن ممَّا أخرجه ابنُ أبي حاتمٍ بسندٍ صحيحٍ: العلمُ والعبادة في الدُّنيا. وعنه _عند عبد الرَّزَّاق_: الرِّزق الطَّيِّب والعلم النَّافع، وفي الآخرة الجنَّة. وعن قتادة: العافية في الدُّنيا والآخرة. وعن محمَّد بن كعبٍ القرظيِّ: الزَّوجة(2) الصَّالحة من الحسنات، وعن عطيَّة: حسنة الدُّنيا العلم والعمل به، وحسنة الآخرة تيسير الحسابِ ودخول الجنَّة، وعن عوفٍ قال: مَن آتاهُ الله الإسلامَ والقرآن، والأهل والمال والولد، فقد آتاه الله في الدُّنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً. وقيل: الحسنة في الدُّنيا الصِّحة والأمن والكفاية والولد الصَّالح والزَّوجة الصَّالحة والنُّصرة على الأعداء، وفي الآخرة الفوز بالثَّواب والخلاص من العقاب، ومنشأ الخلاف كما قال الإمام فخر الدِّين: أنَّه لو قيل: آتنا في الدُّنيا الحسنة وفي الآخرة الحسنة؛ لكان ذلك متناولًا لكلِّ الحسنات، لكنَّه نُكِّر في محلِّ الإثبات فلا يتناول إلَّا حسنةً واحدةً، فلذلك اختلف المفسِّرون فكلُّ واحدٍ منهم حمل اللَّفظ على ما رآه أحسن أنواع الحسنة، وهذا بناءً منه / على أنَّ المفرد المعرَّف بالألف واللَّام يعمُّ، وقد اختار في «المحصول» خلافه.
          ثمَّ قال: فإن قيل: أليس لو قيل: آتنا الحسنة في الدُّنيا، والحسنة في الآخرة، لكان متناولًا لكلِّ الأقسام فَلِمَ ترك ذلك وذكره منكَّرًا؟ وأجاب بأن قال: إنَّا بيَّنَّا أنَّه ليس للدَّاعي أن يقول: اللَّهمَّ أعطني كذا وكذا، بل يجب أن يقول: اللَّهمَّ(3) إن كان كذا وكذا مصلحةً لي وموافقة(4) لقضائكَ وقدركَ، فأعطني ذلك، فلو قال: اللَّهمَّ أعطني الحسنة(5) في الدُّنيا لكان ذلك جزمًا، وقد بيَّنَّا أنَّ ذلك غير جائزٍ، فلمَّا ذكره على سبيل التَّنكير كان المراد(6) منه: حسنةً واحدةً هي الَّتي توافق قضاءهُ وقدرهُ، فكان ذلك أقرب إلى رعايةِ الأدب.
          (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) «قنا» ممَّا حذفت منه فاؤه ولامه؛ لأنَّه مَن وقى يقي وقايةً، أمَّا حذف فائه فبالحملِ على المضارعِ؛ لوقوع الواو بين ياء وكسرة، وأمَّا حذف لامهِ فلأنَّ الأمر جارٍ مجرى الفعلِ المضارع المجزوم، وجزمه بحذف حرف العلَّة، فكذلك الأمر منه، فوزن قِنا عِنا، والأصل: اوْقِنا، فلمَّا حذفت الفاء استُغْنِى عن همزةِ الوصل فحذفتْ، والمعنى: احفظنَا من عذابِ جهنَّم، أو عذاب النَّار: المرأة السُّوء.
          وهذا الحديثُ سبق في «تفسير سورة البقرة» [خ¦4522].


[1] في (ص): «متعلق».
[2] في (ص) زيادة: «الحسنة».
[3] في (ص) و(ع) زيادة: «أعطني».
[4] في (س): «موافقًا».
[5] في (ص): «الجنَّة».
[6] «المراد»: ليست في (د).