إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: كان رسول الله أجود الناس

          6- ولمَّا كان ابتداء نزول القرآن عليه صلعم في رمضان على القول به كنزوله إلى السَّماء جملةً واحدةً فيه؛ شرع المؤلِّف يذكر حديث تعاهد جبريل له ♂ في رمضان في كلِّ سنةٍ، فقال:
          (حَدَّثَنَا عَبْدَانُ) بفتح العين المُهملَة وسكون المُوحَّدة وفتح المُهملَة، هو لقب عبد الله ابن عثمان بن جبلة العَتَكيِّ _بالمُهملَة والمثنَّاة الفوقيَّة المفتوحتين_ المروزيِّ، المُتوفَّى سنة إحدى أو اثنتين وعشرين ومئتين، عن ستٍّ وسبعين سنةً (قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ) بن المبارك بن واضحٍ الحنظليُّ التَّميميُّ(1) مولاهم، المروزيُّ الإمام المتَّفق على ثقته وجلالته ، من تابعي التَّابعين، وكان والده من التُّرك مولًى لرجلٍ من هَمْدان، المُتوفَّى سنة إحدى وثمانين ومئةٍ (قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ) بن يزيد بن مشكان الأيليُّ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمَّد بن مسلم بن شهابٍ (قَالَ) أي: البخاريُّ وفي الفرع كأصله بدل «قال» ”ح“ مُهملَةٌ مفردةٌ في الخطِّ، مقصورةٌّ في النُّطق على ما جرى عليه رسمهم إذا أرادوا الجمع بين إسنادين فأكثر عند الانتقال من سندٍ لآخر؛ خوف الإلباس(2)، فربَّما يُظَنُّ أنَّ السَّندين واحدٌ، ومذهب الجمهور: أنَّها مأخوذةٌ من التَّحويل، وقال عبد القادر الرُّهاويُّ وتبعه الدِّمياطيُّ: من الحائل الذي يحجز بين الشَّيئين، وقال: ينطق بها، ومنعه الأوَّل. وعن بعض المغاربة يقول بدلها: «الحديث» وهو يشير إلى أنَّها رمزٌ عنه، وعن خطِّ الصَّابونيِّ وأبي مسلمٍ اللَّيثيِّ وأبي سعيدٍ الخليليِّ: «صحَّ»؛ لئلَّا يُتوهَّم أنَّ حديث هذا الإسناد سقط، أو خوف تركيب الإسناد الثَّاني مع الأوَّل، فيُجعَلا إسنادًا واحدًا، وزعم بعضهم أنَّها مُعجمَةٌ، أي: إسنادٌ آخر، فَوَهِمَ.
          (وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بكسر الموحدة وسكون المعجمة؛ المروزيُّ السَّختيانيُّ، وهو ممَّا انفرد البخاريُّ بالرِّواية عنه عن سائر الكتب السِّتَّة، وتُوفِّي سنة أربعٍ وعشرين ومئتين (قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ) بن المبارك (قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ) ولأبوي ذَرٍّ والوقت وابن عساكر: ”نحوه عن الزُّهريِّ“ يعني: أنَّ عبد الله بن المبارك حدَّث به عبدان عن يونس وحده، وحدَّث به بشر بن محمَّدٍ عن يونس ومعمر معًا، أمَّا باللَّفظ فعن يونس، وأمَّا بالمعنى فعن‼ معمر، ومن ثمَّ زاد فيه لفظة: «نحوه» (قَالَ) أي: الزُّهريّ: (أَخْبَرَنِي) بالإفراد، ولأبي ذَرٍّ: ”أخبرنا“ (عُبَيْدُ اللهِ) بالتَّصغير (بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عُتْبَة _بضمِّ العين المُهملَة وسكون المثنَّاة الفوقيَّة وفتح المُوحَّدة_ ابن مسعودٍ، الإمام الجليل أحد الفقهاء السَّبعة، التَّابعيُّ، المُتوفَّى بعد ذهاب بصره سنة تسعٍ أو ثمانٍ أو خمسٍ أو أربعٍ وتسعين (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) ☻ أنَّه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم أَجْوَدَ النَّاسِ) بنصب «أجودَ» خبر «كان»، أي: أجودهم على الإطلاق (وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ) حال كونه (فِي رَمَضَانَ) برفع «أجود»: اسم «كان»، وخبرها محذوفٌ وجوبًا على حدِّ قولك: أخطب ما يكون الأمير قائمًا، أي: حالة كونه قائمًا، و«ما»: مصدريَّةٌ، أي: أجود أكوان الرسول صلعم ، و«في رمضان» سدَّ مسدَّ الخبر، أي: حاصلًا فيه، أو على أنَّه مبتدأٌ مضافٌ إلى المصدر؛ وهو: «ما يكون»، و«ما»: مصدريَّةٌ، وخبره: «في رمضان»، تقديره: أجود أكوانه ╕ حاصلةٌ له في رمضان، والجملة كلُّها خبر «كان»، واسمها ضميرٌ عائدٌ على الرَّسول صلعم . وللأَصيليِّ وأبي ذَرٍّ كما في «اليونينيَّة»: ”أجودَ“ بالنَّصب خبر «كان».
           وعُورِض: بأنَّه يلزم منه أن يكون خبرها اسمها، وأُجِيب: بجعل اسم «كان» ضمير النَّبيِّ صلعم ، و«ما» حينئذٍ مصدريَّةٌ ظرفيَّةٌ، والتَّقدير: كان ╕ متَّصفًا بالأجوديَّة مدَّة كونه في رمضان، مع أنَّه أجود النَّاس مُطلَقًا. وتُعقِّب: بأنَّه إذا كان فيه ضمير النَّبيِّ صلعم لا يصحُّ أن يكون «أجودَ» خبرًا لـ «كان» لأنَّه مضافٌ إلى الكون، ولا يُخبَر بكونٍ / عمَّا ليس بكونٍ، فيجب أن يُجعَل مبتدأً، وخبره «في رمضان»، والجملة خبر «كان». انتهى، فليُتأمَّل.
          وقال في «المصابيح»: ولك مع نصب «أجودَ» أن تجعل «ما» نكرةً موصوفةً، فيكون «في رمضان» متعلِّقًا بـ «كان» مع أنَّها ناقصةٌ؛ بناءً على القول بدلالتها على الحدث، وهو صحيحٌ عند جماعةٍ، واسم «كان» ضميرٌ عائدٌ له ╕ ، أو إلى جُوده المفهوم ممَّا سبق، أي : وكان ╕ أجود شيءٍ يكون، أو: وكان جُوده في رمضان أجود شيءٍ يكون(3)، فجعل الجُود متَّصفًا بالأجوديَّة مجازًا، كقولهم: شعرٌ شاعرٌ. انتهى، والرَّفع أكثر وأشهر روايةً، ولأبي ذَرٍّ: ”فكان أجود“ بالفاء بدل الواو، وفي هذه الجملة الإشارة إلى أنَّ جوده ╕ في رمضان يفوق على جوده في سائر أوقاته (حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ) ◙ ؛ إذ في ملاقاته زيادة ترقيةٍ في المقامات، وزيادة إطلاعه على علوم الله تعالى، ولا سيَّما مع مدارسة(4) القرآن (وَكَانَ) جبريل (يَلْقَاهُ) أي: النَّبيَّ صلعم ، وجوَّز الكِرمانيُّ أن يكون الضمير المرفوع للنَّبيِّ، والمنصوب لجبريل، ورجَّح الأوَّل العينيُّ؛ لقرينة قوله: «حين يلقاه جبريل» (فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ) بالنَّصب مفعولٌ ثانٍ لـ «يدارسه» على حدِّ: جاذبته الثَّوب، والفاء في «فيُدَارِسُه» عاطفةٌ على «يلقاه»، فبمجموع ما ذُكِرَ من رمضان ومدارسة القرآن وملاقاة جبريل يتضاعف جوده لأنَّ الوقت موسم الخيرات؛ لأنَّ نِعَمَ الله على عباده تربو فيه على غيره، وإنَّما دارسه بالقرآن؛ لكي يتقرَّر عنده‼، ويرسخ أتمَّ رسوخٍ فلا ينساه، وكان هذا إنجاز وعده تعالى لرسوله ╕ حيث قال له: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى}[الأعلى:6] وقال الطِّيبيُّ: فيه تخصيصٌ بعد تخصيصٍ على سبيل التَّرقِّي؛ فضَّل أوَّلًا جوده مطلقًا على جود النَّاس كلِّهم، ثمَّ فضَّل ثانيًا جُودَ كونه في رمضان على جوده في سائر أوقاته، ثمَّ فضَّل ثالثًا جوده في ليالي رمضان عند لقاء جبريل على جوده في رمضانَ مُطلَقًا، ثمَّ شبَّه جوده بالرِّيح المُرسَلة فقال: (فَلَرَسُولُ اللهِ صلعم ) بالرَّفع: مبتدأٌ، خبره قوله: (أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ) أي: المُطلَقة، إشارة إلى أنَّه في الإسراع بالجود أسرع من الرِّيح، وعبَّر بـ «المُرسَلة» إشارة إلى دوام هبوبها بالرَّحمة، وإلى عموم النَّفع بجوده ╕ ، كما تعمُّ الرِّيح المرسلة جميع ما تهبُّ عليه، وفيه جواز المبالغة في التَّشبيه، وجواز تشبيه المعنويِّ بالمحسوس ليقرب لفهم سامعه؛ وذلك أنَّه أثبت له أوَّلًا وصف الأجوديَّة، ثمَّ أراد أن يصفه بأزيدَ من ذلك فشبَّه جوده بالرِّيح المُرسَلة، بل جعله أبلغ منها في ذلك؛ لأنَّ الرِّيح قد تسكن. وفيه استعمال «أفعل» التَّفضيل في الإسناد الحقيقيِّ والمجازيِّ؛ لأنَّ الجود منه صلعم حقيقةٌ، ومن الرِّيح مجازٌ، فكأنَّه استعار للرِّيح جودًا باعتبار مجيئها بالخير، فأنزلها منزلة مَنْ جاد. وفي تقديم معمول «أجود» على المفضَّل عليه نكتةٌ لطيفةٌ؛ وهي أنَّه لو أخَّره لَظُنَّ تعلُّقه بالمُرسَلَة، وهذا وإن كان لا يتغيَّر به المعنى المُرَاد من الوصف بالأجوديَّة، إلَّا أنَّه تفوت فيه المبالغة؛ لأنَّ المراد وصفه بزيادة الأجوديَّة على الرِّيح مُطلَقًا، والفاء في «فَلَرسول الله صلعم » للسَّببيَّة، واللَّام: للابتداء، وزِيدَت على المبتدأ تأكيدًا، أو هي جواب قسمٍ مقدَّرٍ، وحكمة المدارسة؛ ليكون ذلك سنَّةً في عرض القرآن على مَنْ هو أحفظ منه، والاجتماع عليه والإكثار منه، وقال الكِرمانيُّ: لتجويد لفظه، وقال غيره: لتجويد حفظه، وتُعقِّب: بأنَّ الحفظ كان حاصلًا له، والزِّيادة فيه تحصل ببعض المجالس.
          وفي هذا الحديث: التَّحديث والإخبار والعنعنة والتَّحويل، وفيه عددٌ من المراوزة، وأخرجه المؤلِّف أيضًا في «صفة النَّبيِّ صلعم » [خ¦3554] و«فضائل القرآن» [خ¦4997] و«بدء الخلق» [خ¦3220]، ومسلمٌ في «الفضائل النَّبويَّة» .


[1] في (ل): «التَّيميُّ».
[2] في (ص): «الالتباس».
[3] قوله: «أو: وكان جوده في رمضان أجود شيءٍ يكون» سقط من (ص).
[4] في (ل): «مدارسته».