إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف

          6308- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ يُونُسَ) هو أحمدُ بن عبد الله بنِ يونس التَّميميُّ اليربوعيُّ الكوفيُّ قال: (حَدَّثَنَا أَبُو / شِهَابٍ) عبد ربِّه بن نافعٍ الحَنَّاط _بالحاء المهملة والنون المشددة وبعد الألف مهملة_ الصَّغير لا الكبير (عَنِ الأَعْمَشِ) سليمان بنِ مهران (عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ) بضم العين فيهما والثَّاني مصغَّرٌ، التَّيميِّ(1) من بني تيم اللَّات‼ بن ثعلبة الكوفيِّ (عَنِ الحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ) التَّيميِّ أيضًا التَّابعيِّ الكبير، كالسَّابقَيْن لكن أوَّلهما صغيرٌ من صغارهم، والَّذي بعدهم من أوساطهم(2) (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ) وسقط لغير أبي ذرٍّ «ابن مسعود» ☺ (حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صلعم ، وَالآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ) وهو الحديث الموقوفُ.
          (إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ) مفعول «يرى» الثَّاني محذوفٌ، أي: كالجبال بدليلِ قوله في الآخر(3): «كذبابٍ مرَّ» أو هو(4) قوله: (كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ) لقوَّة إيمانه وشدَّة خوفه، فلا يأمن العقوبةَ بسبب ذنوبه، والمؤمنُ دائم الخوف والمراقبة، يستصغرُ عمله الصَّالح، ويخافُ من صغيرِ عمله (وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ) بالمعجمة، الطَّير المعروف (مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ) فلا يُبالي به لاعتقادهِ عدم حصولِ كبير ضررٍ بسببهِ (فَقَالَ بِهِ) بالذُّباب (هَكَذَا) أي: نحَّاهُ بيدهِ أو دفعهُ، وهو من إطلاق القول على الفعلِ، فالفاجر لقلَّة علمه يقلُّ خوفه فيستهين بالمعصيةِ، ودلَّ التَّمثيل الأوَّل على غايةِ(5) الخوف والاحترازِ من الذُّنوب، والثَّاني على نهايةِ قلَّة المبالاة والاحتفالِ بها(6).
          (قَالَ أَبُو شِهَابٍ) الحنَّاط المذكور بالسَّند السَّابق في تفسير قوله: «فقال به» أي: (بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ) والتَّعبير بالذُّباب؛ لكونه أخفَّ الطَّير وأحقرَهُ، ولأنَّه يُدفع بالأقلِّ، وبالأنف للمبالغةِ في اعتقاده خفَّة الذَّنب عنده؛ لأنَّ الذُّباب قلَّما ينزلُ عن الأنف، وإنَّما يقصد غالبًا العين، وباليد تأكيدًا للخفَّة.
          (ثُمَّ) قال ابن مسعودٍ: (قَالَ) رسول الله صلعم : (لَلَّهُ) بلام التَّأكيد المفتوحة (أَفْرَحُ) أرضى (بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ) وأَقْبَلُ لها، والفرح المتعارفُ في نعوتِ بني آدم غير جائزٍ على الله تعالى؛ لأنَّه اهتزازُ طربٍ يجدُه الشَّخص في نفسهِ عند ظفرِهِ بغرضٍ يستكمِلُ به نقصانه(7) أو يسدُّ به(8) خلَّته، أو يدفعُ به عن نفسهِ ضررًا أو نقصًا، وإنَّما كان غير جائزٍ عليه تعالى لأنَّه الكاملُ بذاتهِ الغنيُّ بوجودِهِ الَّذي لا يلحقُه نقصٌ ولا قصورٌ، وإنَّما معناه: الرِّضا، والسَّلف فهموا منه ومن أشباهه ما وقع التَّرغيب فيه من الأعمال والإخبارِ عن فضلِ الله، وأثبتُوا هذه الصِّفات له تعالى، ولم يشتغلُوا بتفسيرهَا مع اعتقادهِم تنزيهَهُ تعالى عن صفاتِ المخلوقين، وأمَّا مَن اشتغلَ بالتَّأويل فله طريقان: أحدهما: أنَّ التَّشبيه مركَّبٌ عقليٌّ من غير نظرٍ على مفرداتِ التَّركيب، بل تؤخذ الزُّبدة والخلاصة من المجموعِ وهي غاية الرِّضا ونهايته، وإنَّما أبرزَ ذلك في صورة التَّشبيه‼ تقريرًا لمعنى الرِّضا في نفس السَّامع وتصويرًا لمعناه، وثانيهما: تمثيليٌّ وهو أن يتوهَّم للمشبَّه الحالات الَّتي للمشبَّه به، وينتزعَ له منها ما يُناسبه(9) حالةً حالةً بحيث لم يختلَّ منها شيءٌ، والحاصل: إنَّ إطلاق الفرح في حقِّه تعالى مجازٌ عن رضاه، وقد يُعَبَّر عن الشَّيء بسببهِ أو عن ثمرتهِ الحاصلة عنه، فإنَّ من فرح بشيءٍ جادَ لفاعلهِ بما سأل وبذلَ له ما طلبَ، فعبَّر عن عطائهِ(10) تعالى وواسع كرمه بالفرحِ، وزاد الإسماعيليُّ بعد قوله: عبده: «المؤمن» وكذا عند مسلم، ولأبي ذرٍّ: ”الله أفرحُ بتوبةِ العبدِ“ (مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا) بكسر الزاي في الثَّاني (وَبِهِ) أي: بالمنزل، وعند الإسماعيليِّ: «بِدَوِيَّةٍ» بموحدة مكسورة فدال مفتوحة فواو(11) مكسورة فتحتية مشددة مفتوحة فتاء تأنيث، وهو كذا عند مسلمٍ و«السُّنن»، أي: مقفرة (مَهْلَكَةٌ) بفتح الميم واللام، تُهلِك سالكها(12) أو مَن حصل فيها، وفي بعض النُّسخ، _كما في «الفتح»_: ”مُهلِكةٌ“ بضم الميم وكسر اللَّام، من مزيد الرباعيِّ، أي: تهلك هي مَن حصل بها، وفي مسلمٍ: «في أرضٍ دوِّيَّةٍ مُهلكةٍ» (وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ) من نومهِ (وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ) فخرجَ في طلبها (حَتَّى اشْتَدَّ) ولأبي ذرٍّ ”حتَّى إذا اشتدَّ“ (عَلَيْهِ الحَرُّ وَالعَطَشُ، أَوْ مَا شَاءَ اللهُ) شكٌّ من أبي(13) شهابٍ، قاله(14) في «الفتح»، وفي رواية أبي معاوية: «حتَّى إذا أدركَه الموت» (قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي) / بقطع الهمزة، الَّذي كنت فيه فأنام (فَرَجَعَ) إليه (فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ) بعد أن استيقظَ (فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ) عليها زادهُ طعامُه وشرابُه، كذا في روايةٍ عند مسلمٍ (تَابَعَهُ) أي: تابع أبا شهاب الحنَّاط (أَبُو عَوَانَةَ) الوضَّاح بن عبد الله اليشكريُّ، فيما وصله الإسماعيليُّ (وَ) تابعه أيضًا (جَرِيرٌ) بفتح الجيم فيما وصله البزَّار (عَنِ الأَعْمَشِ) سليمان بن مهران.
          (وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ) حمَّاد بن أسامة، فيما وصله مسلمٌ: (حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ) سليمان بنُ مهران(15) قال: (حَدَّثَنَا عُمَارَةُ) بن عُميرٍ(16) قال: (سَمِعْتُ(17) الحَارِثَ بن سُويْد) يعني(18): عن ابنِ مسعودٍ بالحديثين(19)، ومرادُه _كما في «الفتح»_: أنَّ هؤلاء الثَّلاثة وافقوا أبا شهابٍ في إسنادِ هذا الحديث إلَّا أنَّ الأوَّلين عنعناه.
          (وَقَالَ شُعْبَةُ) بن الحجَّاج (وَأَبُو مُسْلِمٍ) بضم الميم وسكون المهملة، زاد أبو ذرٍّ عن المُستملي: ”اسمه عُبيد الله“ بضم العين، ابن سعيد بن مسلمٍ، كوفيٌّ، قائدُ الأعمش سليمان، وقد ضعَّفه جماعةٌ، لكن لمَّا وافقه شعبة أخرج له البخاريُّ، وقال في «تاريخه»: في حديثه نظرٌ (عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ) أي: عن ابن مسعودٍ. ففيه: أنَّ شعبة وأبا مسلمٍ خالفا أبا شهابٍ الحنَّاط، ومن وافقَه في تسميةِ شيخ الأعمش، فقال الأوَّلون: عُمَارة، وقال هذان: إبراهيم التَّيميُّ.
          (وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمَّد بن خازمٍ، بالمعجمتين: (حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ) سليمان (عَنْ عُمَارَةَ) بضم العين وتخفيف الميم، ابن عمير (عَنِ الأَسْوَدِ) بن يزيد النَّخعيِّ (عَنْ عَبْدِ اللهِ‼) أي: ابن مسعودٍ، وغرض المؤلِّف الإعلام بأنَّ أبا معاويةَ خالف الجميعَ، فجعلَ الحديث عن(20) الأعمشِ، عن عُمَارة بن عميرٍ (وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ) جميعًا؛ لكنَّه عند عُمارة عن الأسود بن يزيد، وعند إبراهيم التَّيميِّ(21) (عَنِ الحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ) يعني: ابن مسعودٍ، وأبو شهابٍ ومَن تبعَه جعلوهُ عند عُمَارة، عن الحارثِ بن سويدٍ. قال في «الفتح»: ورواية أبي معاويةَ لم أقف عليها في شيءٍ من السُّنن والمسانيد على هذين(22) الوجهين، ثمَّ قال: وفي الجملةِ فقد اختلف فيه على عُمارة في شيخه هل هو الحارثُ بن سويدٍ أو الأسود؟ واختلف على الأعمشِ في شيخه هل هو عُمارة أو إبراهيم التَّيميُّ؟ والرَّاجح من الاختلاف كلِّه ما قاله أبو شهابٍ ومَن تبعه، ولذا اقتصر عليه مسلمٌ، وصدَّر به البخاريُّ كلامَه فأخرجه موصولًا، وذكر الاختلاف معلَّقًا كعادتهِ في الإسناد للإشارةِ إلى أنَّ مثل هذا الاختلاف غير قادحٍ، والله أعلم.
          تنبيهٌ: قوله: «حدَّثنا عبد الله حديثين أحدُهما عن النَّبيِّ صلعم ، والآخرُ عن نفسه» أي: نفس ابن مسعودٍ ولم يصرِّح بالمرفوع. قال النَّوويُّ: قالوا(23): المرفوع: «للهُ أفرح...» إلى آخره والأوَّل قول ابن مسعودٍ، وكذا جزمَ ابن بطَّالٍ بأنَّ الأوَّل هو الموقوفُ، والثَّاني هو المرفوعُ. قال الحافظُ ابن حجرٍ: وهو كذلك.


[1] في (ب): «التميمي»، وهو تصحيف.
[2] في (ع): «أواسطهم»، وفي (د): «أوسطهم».
[3] في (ب): «الآخرة».
[4] في (د): «وهو».
[5] في (ع): «عامة».
[6] «بها»: ليست في (د).
[7] في (ص): «نقصًا به».
[8] في (ع): «ليسد به».
[9] في (ص): «يناسب».
[10] في (ب): «إعطائه».
[11] وفي (د): «وواو».
[12] في (د) و(ع): «ساكنها».
[13] في (د): «شك أبو».
[14] في (د) و(ع): «قال».
[15] قوله: «بن مهران»: ليس في (د).
[16] قوله: «بن عمير»: ليس في (د).
[17] في (ع): «سمعنا».
[18] «يعني»: ليست في (د).
[19] في (ع) و(د): «الحديثين».
[20] في (ص) و(د): «عند».
[21] قوله: «عن الأسود بن يزيد وعند إبراهيم التيمي»: ليس في (د).
[22] في (ع): «هذا من».
[23] «قالوا»: ليست في (ص).