إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه

          6307- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ) الحكم بنُ نافعٍ قال: (أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) هو ابنُ أبي حمزة (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمَّد بن مسلمٍ، أنَّه (قَالَ: أَخْبَرَنِي) بالإفراد (أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوفٍ (قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) ☺ (سَمِعْتُ‼ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: وَاللهِ(1) إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ) زاد أبو ذرٍّ عن الكُشْمِيْهَنيِّ: ”إليه“ (فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً) أي: أفعل ذلك الاستغفار إظهارًا للعبوديَّة، وافتقارًا لكرم الرُّبوبيَّة، أو تعليمًا منه لأمَّته، أو مِنْ تَرْكِ الأولى، أو قالهُ تواضعًا، أو أنَّه صلعم لَمَّا كان دائم التَّرقِّي في معارجِ القرب كان كلَّما ارتقى درجةً ورأى ما قبلَها دونها استغفرَ منها، لكن قال(2) في «الفتح»: إنَّ هذا مفرَّعٌ على أنَّ العدد المذكور في استغفارهِ كان مفرَّقًا بحسب تعدُّد الأحوال، وظاهرُ ألفاظ الحديث يخالفُ ذلك، وفي حديث أنسٍ: «إنِّي لأستَغفِرُ اللهَ في اليومِ سبعِينَ مرَّةً» والتَّعبير بالسَّبعين، قيل: هو على ظاهرهِ، وقيل: المراد التَّكثير، والعربُ تضع السَّبع والسَّبعين والسَّبع مئة موضع الكثرة، وقوله في حديث الباب: «أكثر» مبهم يحتملُ أن يفسَّر بحديثِ أبي هُريرة [خ¦6307] «لأستغفرُ اللهَ فِي اليومِ مئةَ مرَّةٍ» وفي حديث الأغرِّ عند مسلمٍ / مرفوعًا: «إنَّهُ ليغَانُ علَى قلبِي، وإنِّي أستغفِرُ اللهَ كلَّ يومٍ مئة مرَّةٍ».
          وقد ذكروا في الغينِ وجوهًا ذكرتُ منها جملة في كتابي «المواهب» وأحقُّ مَن يعبِّر عن هذا أو يُعْرب _كما قال في «شرح المشكاة»_ مشايخ الصُّوفيَّة الَّذين نازل الحقُّ أسرارَهم، ووضعَ الذِّكر أوزارَهُم. قال: ومن كلمات شيخنا شيخِ الإسلام أبي حفصٍ السَّهرورديِّ: لا ينبغِي أن يُعتقدَ أنَّ الغين نقصٌ في حاله صلوات الله عليه وسلامه، بل هو(3) كمالٌ، أو(4) تتمَّة كمالٍ، وهذا سرٌّ دقيقٌ لا ينكشفُ إلَّا بمثالٍ، وهو أنَّ الجفنَ المسبل على حدقةِ البصر وإن كانتْ صُورته صورةَ نُقصانٍ من حيث هو إسبالٌ وتغطيةٌ على ما من شأنهِ أن يكون باديًا مكشوفًا، فإنَّ المقصودَ من خلق العين إدراك المدركات الحسِّيَّة، وذلك لا يتأتَّى إلَّا بانبعاثِ الأشعَّة الحسِّيَّة من داخلِ العين، واتِّصالها بالمرئيَّات على مذهب قومٍ، وبانطباع صور المدركات في الكرةِ الجليديَّة على مذهبٍ آخر، فكيفما قُدِّر لا يتمُّ المقصود إلَّا بانكشافِ العين عمَّا(5) يمنع من انبعاث الأشعَّة عنها، ولكن لمَّا كان الهواء المحيط بالأبدانِ الحيوانيَّة قلَّما يخلو من الأغبرةِ الثَّائرة بحركة الرِّياح، فلو كانت الحدقةُ دائمة الانكشافِ لاستضرَّت بملاقاتها وتراكمها عليها، فأُسبلت أغطية الجفون(6) وقايةً لها ومصقلةً لتنصقلَ الحدقةُ بإسبال الأهدابِ ورفعها لخفَّة حركةِ الجفن، فيدوم جلاؤها ويحتدَّ نظرها، فالجفنُ وإن كان نقصًا ظاهرًا فهو كمالٌ حقيقةً، فكذا لم تزل بصيرة النَّبيِّ صلعم متعرِّضةً(7) لِأَنْ تصدأَ بالأغبرة الثَّائرة من أنفاسِ الأغيار، فلا جرم دعت الحاجة إلى إسبال جفنٍ من العين(8) على حدقةِ بصيرته سترًا لها ووقايةً، وصقالًا عن تلكَ الأغبرة المثارةِ برؤيةِ الأغيار وأنفاسها، فصحَّ‼ أنَّ الغين وإن كانت صورته نقصًا فمعناه كمالٌ وصقالٌ حقيقةً.
          ثمَّ قال أيضًا: إنَّ روح النَّبيِّ صلعم لم تزل في التَّرقِّي(9) إلى مقاماتِ القُرب مستتبعة للقلبِ في رقيِّها إلى مَركزها، وهكذا القلبُ كان يستتبعُ نفسه الزَّكيَّة، ولا خفاء أنَّ حركة الرُّوح والقلب أسرع وأتمُّ من نهضة النَّفس وحركتها، فكانت خُطى النَّفس تقصر عن(10) مدى الرُّوح والقلب في العروجِ والولوجِ في حرمِ القرب(11) ولحوقها(12) بهما، فاقتضتِ العواطف الرَّبَّانيَّة على الضُّعفاء من الأمَّة إبطاء حركةِ القلب بإلقاء الغين عليه؛ لئلَّا يسرعَ القلبُ ويسرحَ(13) في معارج الرُّوح ومدارجها، فتنقطع علاقة النَّفس عنه لقوَّة الانجذاب، فيبقى العبادُ مُهمَلِين محرومِين عن الاستنارةِ بأنوار النُّبوَّة والاستضاءة بمشكاةِ مصباحِ الشَّريعة، و(14)حيث كان يَرى صلعم إبطاءَ القلبِ بالغين المُلْقى عليه، وقصور النَّفس عن شأو(15) ترقِّي الرُّوح إلى الرَّفيق الأعلى كان يفزعُ إلى الاستغفار؛ إذ لم تفِ قواها في سرعةِ اللُّحوق لها. وهذا من أعزِّ مقولٍ في هذا المعنى، وأحسن مشروحٍ فيه.


[1] «والله»: ليست في (ص).
[2] «قال»: ليست في (د).
[3] «هو»: ليست في (س).
[4] في (ع): «كما قال».
[5] في (ص): «عنها»، وفي (د): «عن ما».
[6] في (ص): «الحيوان»، وفي (د): «الجنون».
[7] في (ب) و(س): «معترضة».
[8] في (ب) و(س): «الغين».
[9] في (ص) و(ل): «الرُّقيِّ».
[10] في (ص): «من».
[11] في (ص): «القلب».
[12] في (ع): «لحوقًا»، وفي الكاشف: «ولحقوقها».
[13] في (د): «ويسرع».
[14] «و»: ليست في (د) و(ص) و(ع).
[15] في (د): «مساوي».