إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا

          6252- وبه قال: (حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ) بالمعجمة، محمَّد (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (يَحْيَى) بن سعيدٍ القطَّان (عَنْ عُبَيْدِ(1) اللهِ) بضم العين، العمريِّ، أنَّه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (سَعِيدٌ) المقبريُّ (عَنْ أَبِيهِ) كيسان (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ ، أنَّه (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم ‼: ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا) كذا ساقه هنا مختصرًا، وأورده في «الصَّلاة» بتمامه [خ¦757] واستدلَّ به كثيرون على وجوبِ الطُّمأنينة؛ لأنَّه لمَّا علَّمه صفة الصَّلاة صرَّح له بالطُّمأنينة، فدلَّ على اعتبارها وأمره بها فدلَّ على وجوبها. قال في «العمدة»(2): ولا علقة لمن منع وجوب الطُّمأنينة بجعل الطُّمأنينةِ غايةً في الرُّكوع والسُّجود وغيرهما ممَّا ذكر في الحديث في الدَّلالة على دعواه، فإنَّ الغاية في دخولها أقوالٌ مشهورةٌ، فمن يقول: الغايةُ لا تدخل مطلقًا ولو كانت من جنسِ ما قبلها كإمامنا الشَّافعيِّ وغيره ينبغي أن يقول: الطُّمأنينة ليست واجبةً؛ لأنَّا نقول: هذه مغالطةٌ وبيانه من وجوه:
          أحدها: أنَّه قُيِّد بالحال وهو راكعًا وساجدًا وجالسًا، فالغاية داخلةٌ قطعًا بصريح التَّقييد لفظًا بالحالِ.
          الثَّاني: أنَّه لو لم يقيِّده بالحال كان داخلًا باللَّازم / ؛ لأنَّه أمر مغيًّا(3) بفعلٍ آخر من المأمورِ فلا بدَّ من وجوده لتحقُّق الغاية.
          الثَّالث: أنَّ الغايةَ هنا صدق الطُّمأنينة، وإنَّما تصدق بوجودها. انتهى.
          وقد سبق في «الصَّلاة» [خ¦757] مزيدُ مباحث للحديث(4)، والغرضُ هنا ما يتعلَّق بالتَّرجمة، وغرض البخاريِّ أنَّ ردَّ السَّلام ثبت بتقديم السَّلام على(5) عليك، فيقال في الابتداء والرَّدِّ: السَّلام عليك؛ لأنَّ السَّلام اسم الله فينبغِي أن لا يقدَّم عليه شيءٌ، وعن بعض الشَّافعيَّة أنَّ المبتدِئ لو قال: عليك السَّلام، لم يجز، وثبت أيضًا بتأخيره فيقول: عليك السَّلام(6) وبلفظ الإفراد. وقال بعضهم: لا يقتصر على الإفراد بل يأتي بصيغة الجمع، ففي «الأدب المفرد» من طريق معاوية بن قُرَّة قال لي أبي: إذا مرَّ بك الرَّجل فقال: السَّلام عليكم، فلا تقل: وعليك السَّلام، فتَخُصَّه وحده، وسنده صحيحٌ. ولو وقع الابتداء بلفظ الجمعِ فلا يكفي الرَّدُّ بالإفراد؛ لأنَّ صيغة الجمع تقتضي التَّعظيم، فلا يكون امتثل الرَّدَّ بالمثل(7) فضلًا عن الأحسنِ، كما نبَّه عليه الشَّيخ تقيُّ الدِّين. وقال آخرون: لا يحذف الواو في الرَّدِّ بل يجيبُ بواو العطف فيقول: وعليك. وقال قومٌ: يكفي في الجوابِ أن يقتصرَ على عليك بغير لفظ: السَّلام.
          قال النَّوويُّ: الأفضلُ أن يقول: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فيأتي بضميرِ الجمع وإن كان المسلَّم عليه واحدًا، ويقول المجيبُ: وعليكم السَّلام ورحمة الله وبركاته، ويأتي بواو العطف في قوله: وعليكم، وأقلُّ السَّلام أن يقول: السَّلام عليكم، فإن قال: السَّلام عليك حصل أيضًا، وأمَّا الجواب فأقلُّه: وعليك السَّلام أو وعليكم السَّلام، فإن(8) حذف الواو أجزأهُ، واتَّفقوا على أنَّه لو قال في الجواب: عليكم، لم يكن جوابًا، فلو قال: وعليكم، بالواو فهل يكون جوابًا؟ فيه وجهان. وقال الواحديُّ: في تعريف السَّلام وتنكيره بالخيارِ. وقال النَّوويُّ: بالألف واللَّام أولى، ولو تلاقى رجلان وسلَّم كلُّ واحدٍ منهما على صاحبهِ دفعةً واحدةً أو أحدهما بعد الآخر، فقال القاضي‼ حسين(9) وأبو سعيدٍ المتولِّي: يصير كلُّ واحدٍ منهما مبتدئًا بالسَّلام، فيجب على كلِّ واحدٍ أن يردَّ على صاحبه.
          وقال الشَّاشيُّ: فيه نظرٌ فإنَّ هذا اللَّفظ يصلح للجوابِ، فإذا كان أحدهما بعد الآخر كان جوابًا، وإن كان دفعةً واحدةً لم يكن جوابًا، قال: وهو الصَّواب، فإذا(10) قال المبتدئ: وعليكم السَّلام. قال المتولي: لا يكون ذلك سلامًا فلا يستحقُّ جوابًا، ولو قال بغير واو فقطع الواحديُّ بأنَّه سلامٌ يتحتَّم(11) على المخاطب به الجواب، وإن كان قد قلب اللَّفظ المعتاد وهو الظَّاهر، وقد جزمَ به إمام الحرمين. انتهى.
          فإن قلت: ما الفرقُ بين قولك: سلامٌ عليكم، والسَّلام عليكم؟ أُجيب بأنَّه لا بدَّ للمعرَّف باللَّام من معهودٍ إمَّا خارجيٍّ أو ذهنيٍّ، فإن قيل بالأوَّل كان المراد الَّذي سلَّمه آدم ◙ على الملائكة في قوله صلعم : «قالَ(12) لآدمَ: اذهَبْ فسلِّم على أولئِكَ النَّفر فإنَّها تحيَّتُك وتحيَّةُ ذُرِّيتكَ» [خ¦6227] وإن قيل بالثَّاني كان من(13) جنس السَّلام الَّذي يعرفه كلُّ واحدٍ(14) من المسلمين أنَّه هو، فيكون تعريضًا(15) للفرق بين توارد(16) السَّلامين معًا وبين ترتُّب(17) أحدهما على الآخر، وذلك أنَّه إذا تواردا كان الإشارة منهما إلى أحدِ المعنيين المذكورين فلا يحصل الرَّدُّ، وإذا تأخَّر كان المشار إليه ما تلفَّظ به المبتدئ فيصحُّ الرَّدُّ، وكأنَّه قال: السَّلام الَّذي وجَّهته إليَّ فقد رددتُه عليك، وقد ذهبَ إلى مثل هذا الفرق في التَّعريف والتَّنكير الزَّمخشريُّ في سورة مريم في قول عيسى: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ}[مريم:33] وقد جرت عادةُ بعضهم بالسَّلام عند المفارقة، فهل يجبُ الرَّدُّ أم لا؟ قال القاضي حسين والمتولِّي: يستحبُّ لأنَّه دعاءٌ، ولا يجب لأنَّ التَّحيَّة إنَّما تكون عند اللِّقاء لا عند الانصراف. وأنكرهُ الشَّاشيُّ، وقال: السَّلام سنَّةٌ عند الانصراف، كما هو سنَّةٌ عند اللِّقاء، فكما يجب الرَّدُّ عند اللِّقاء كذلك عند الانصراف، وهذا هو الصَّحيح.
          (تنبيه) إذا سلَّم على أصمَّ فيتلفَّظ(18) بالسَّلام لقدرتهِ عليه، ويشيرُ باليد ليحصلَ الإفهام ويستحقَّ الجواب، فلو لم يجمع بينهما لا يستحقُّ الجواب، ولو سلَّم عليه أصمُّ فيتلفَّظ بالرَّدِّ ويشيرُ باليد، ولو سلَّم على أخرسَ وأشار الأخرس باليد سقطَ الفرض لأنَّ إشارته قائمةٌ مقام العبارة، وكذا لو سلَّم عليه أخرسُ بالإشارة يستحقُّ الجواب / ، ولو سلَّم على صبيٍّ لا يجب على الصَّبيِّ الرَّدُّ لأنَّه ليس من أهل الفرض، ولو سلَّم الصَّبيُّ على البالغِ وجب الرَّدُّ على الصَّحيح، ولو سلَّم بالغٌ على جماعةٍ فيهم صبيٌّ فردَّ الصَّبيُّ وحده لا يسقطُ به عن الباقين، وإذا سلَّم عليه إنسانٌ ثمَّ لقيه عن قربٍ سُنَّ له أن يسلِّم عليه ثانيًا وثالثًا فأكثرَ لحديث المسيء صلاته، ويكره السَّلام إذا كان المسلَّم عليه مُشتغلًا بالبولِ والجماع ونحوهما، ولو سلَّم لا يستحقُّ جوابًا‼، وكذا إن كان ناعسًا، أو نائمًا، أو مصليًّا، أو في حال الأذان والإقامة، أو في حمَّامٍ، أو نحو ذلك، أو في فمهِ لقمة يأكلُها، ولو سلَّم على أجنبيَّةٍ جميلةٍ يخافُ الافتتان بها لو سلَّم عليها لم يجزْ لها ردُّ الجواب ولا تسلِّم هي عليه، فإن سلَّمت لا يردُّ عليها، فإن أجابهَا كُره له. انتهى. ملخَّصًا من «أذكار النَّوويِّ».


[1] في (د): «عن ابن عبيد».
[2] في (ع) و(د): «العدة».
[3] في (ع) و(د): «تغيا»، وفي (ب): «مغي».
[4] في (د): «الحديث».
[5] «على»: ليست في (د).
[6] في (د): «السلام عليك».
[7] «بالمثل»: ليست في (ص).
[8] في (ب) و(س): «فإذا».
[9] في (ع): «حصين».
[10] في (د): «وإذا»، كذا في شرح المشكاة.
[11] في (ص): «فيتحتم».
[12] في (ع): «قال الله».
[13] «من»: ليست في (د).
[14] في (ع) و(د): «أحد».
[15] في (ص): «تعريفًا». وفي شرح المشكاة: «فيكون تعريضًا بأن ضده لغيرهم من الكفار، فظهر من هنا الفرق...».
[16] في (ع): «موارد».
[17] في (ب) و(د): «ترتيب».
[18] في (ص) هنا والموقع التالي: «فتلفظ».