إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم}

          ░2▒ (باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ}) أي: بيوتًا لستُم تملكونهَا ولا تسكنونهَا، وهذا ممَّا أدَّب الله تعالى به عبادَهُ ({حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}) تستأذِنوا. كذا رُوي عن ابن عبَّاسٍ _أخرجهُ سعيدُ بن منصورٍ_ وقرأ به، وأخرج البيهقيُّ في «الشُّعب» بسندٍ صحيحٍ عن إبراهيم النَّخعيِّ، قال في «مصحف ابن مسعود»: ▬حتَّى تستأذنوا↨، وعن سعيدِ بنِ منصورٍ، عن إبراهيمَ قال: في مصحف عبد الله ▬حتَّى تسلِّموا على أهلها وتستأذنوا↨، وأخرجه إسماعيلُ بن إسحاق في «أحكام القرآن» عن ابن عبَّاسٍ واستشكلَهُ. وأُجيب بأنَّ ابن عبَّاسٍ بناهُ على قراءتهِ الَّتي تلقَّاها عن أُبيِّ بن كعبٍ، وأمَّا اتِّفاق النَّاس على قراءتها بالسِّين؛ فلموافقةِ خطِّ المصحف الَّذي وقع على عدمِ الخروج عمَّا يوافقهُ، وكانت قراءةُ أُبيّ / من الأحرفِ الَّتي تركت القراءة بها، والاستئناسُ في الأصلِ الاستعلام والاستكشافُ استفعال، من آنس الشَّيء، إذا‼ أبصرهُ ظاهرًا مكشوفًا، أي: تستعلموا أيطلق لكم الدُّخول أم لا، وذلك بتسبيحةٍ، أو بتكبيرةٍ، أو تنحنحٍ، كما في حديث أبي أيُّوب عند ابن أبي حاتمٍ بسندٍ ضعيفٍ قال: قلت: يا رسولَ الله هذا السَّلام، فما الاستئناس؟ قال: «يتكَلَّمُ الرَّجلُ بتسبِيحَةٍ أو تكبِيرَةٍ ويتَنَحنَحُ، فيؤذِنُ أهل البيتِ» وأخرج الطَّبريُّ من طريقِ قتادة، قال: الاستئناسُ هو الاستئذانُ ثلاثًا، فالأُولى ليسمع، والثَّانية ليتأهَّبوا له، والثَّالثة إن شاؤوا أذنوا له وإن شاؤوا ردُّوا. وقال البيهقيُّ: معنى {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} تستبصروا(1) ليكون الدُّخول على بصيرةٍ، فلا يُصادف(2) حالةً يكره صاحبُ المنزل أن يطَّلعوا عليها ({وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}) بأن تقولوا: السَّلام عليكم أأدخل ثلاث مرَّاتٍ، فإن أذن وإلَّا رجع، وهل يقدَّم السَّلام أو الاستئذان؟ الصَّحيح تقديمُ الاستئذان(3). وأخرج أبو داود وابنُ أبي شيبة بسندٍ جيِّدٍ عن ربعيِّ بن حراشٍ: حدَّثني رجلٌ أنَّه استأذنَ على النَّبيِّ صلعم وهو في بيتهِ، فقال: أألج؟ فقال لخادمهِ: «اخرجْ إلى هذا فعلِّمه». فقال: قل: السَّلام عليكم أألج؟... الحديث. وصحَّحه الدَّارقطنيُّ، وعن الماورديِّ: إن وقعت عينُ المستأذن على صاحبِ المنزلِ قبل دخوله قدَّم السَّلام وإلَّا قدَّم الاستئذان ({ذَلِكُمْ}) أي: الاستئذان والتَّسليم ({خَيْرٌ لَّكُمْ}) من تحيَّة الجاهليَّة والدُّخول بغير إذنٍ، وكان الرَّجل من أهل الجاهليَّة إذا دخلَ بيت غيره يقول: حُيِّيتم صباحًا وحُيِّيتم مساءً، ثمَّ يدخل، فربَّما أصاب الرَّجل مع امرأتهِ في لحافٍ واحدٍ ({لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}) أي: قيل لكم هذا لكي تذكَّروا وتتَّعظوا وتعملوا بما أُمِرتُم به في باب الاستئذان، وينبغي للمستأذنِ أن لا يقفَ تلقاءَ الباب بوجههِ، ولكن ليكنْ الباب عن يمينهِ أو يسارهِ؛ لحديث أنسٍ عند(4) أبي داود، قال: كان رسولُ الله صلعم إذا أَتى باب قومٍ لم يستقبلْ الباب من تلقاء وجههِ، ولكن من ركنهِ الأيمن أو الأيسر، فيقول: «السَّلام عليكم، السَّلام عليكم»، وذلك أنَّ الدُّور لم يكن عليها يومئذٍ ستورٌ. تفرَّد به أبو داود ({فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا}) في البيوت ({أَحَدًا}) من الآذنين ({فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ}) حتَّى تجدوا مَن يأذن(5) لكم، أو فإن لم تجدوا فيها أحدًا من أهلها ولكم فيها حاجة فلا تدخلوها إلَّا بإذنِ أهلها؛ لأنَّ التَّصرُّف في ملكِ الغير لا بدَّ من(6) أن يكون برضاه ({وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا}) أي: إذا كان فيها قومٌ فقالوا: ارجعوا ({فَارْجِعُوا}) ولا تُلِحوا(7) في إطلاقِ الإذن، ولا تلِجُوا في تسهيلِ الحجاب، ولا تقفوا على الأبواب؛ لأنَّ هذا ممَّا يجلب الكراهة، وإذا نهي عن ذلك لأدائه إلى الكراهة وجبَ الانتهاء‼ عن كلِّ ما أدَّى إليها من قرع الباب بعُنفٍ والتَّصييح بصاحب الدَّار وغير ذلك، وعن أبي عُبيدٍ: ما قرعتُ بابًا على عالم قطُّ ({هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}) أي: الرُّجوع أطيبُ لكم وأطهر(8) لِمَا فيه من سلامة الصُّدور والبعد عن الرِّيبة، أو أنفع وأنمى خيرًا ({وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}) وعيدٌ للمخاطبين بأنَّه عالِمٌ بما يأتون وما يذرون ممَّا(9) خُوطبوا به فموفٍ جزاءه عليه ({لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا}) في أن تدخلوا ({بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ}) استثنى من البيوتِ الَّتي يجبُ الاستئذانُ على داخلِها ما(10) ليس بمسكونٍ منها كالخاناتِ والرُّبُط ({فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ}) أي: منفعةٌ كاستكنانٍ من الحرِّ والبردِ وإيواء الرِّحال والسِّلع، وقيل: الخربات يتبرَّز فيها، والمتاع التَّبرُّز ({وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}[النور:27_29]) وعيدٌ للَّذين يدخلون الدُّور والخَرِبات الخالية من أهل الرِّيب، وسقط في رواية الأَصيليِّ من قوله: «{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ}» إلى قوله: «{مَتَاعٌ لَّكُمْ}» وقال في «فتح الباري»: وساق البخاريُّ في رواية كريمةَ والأَصيليِّ الآيات الثَّلاث. انتهى. ولأبي ذرٍّ مِمَّا في الفرع وأصله: ”بابُ قوله: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} إلى قوله: {وَمَا تَكْتُمُونَ}“.
          (وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي الحَسَنِ) البصريُّ التَّابعيُّ (لِلْحَسَنِ) البصريِّ أخيهِ: (إِنَّ نِسَاءَ العَجَمِ يَكْشِفْنَ صُدُورَهُنَّ وَرُؤُوسَهُنّ. قَالَ) الحسنُ لأخيه سعيدٍ: (اصْرِفْ بَصَرَكَ عَنْهُنَّ) يدلُّ له (قَوْلُ اللهِ) ولأبي ذرٍّ عن الكشميهنيِّ: ”يقول الله“ (╡) ولأبي ذرٍّ: ”تعالى“ / : ({قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}) «مِن» للتَّبعيض، والمراد غضُّ البصر عمَّا يحرم ({وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}[النور:30]) عن الزِّنا (وَقَالَ قَتَادَةُ) فيما أخرجه ابنُ أبي حاتمٍ في قوله: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} قال: (عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُمْ: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}[النور:30_31]) فلا يحلُّ للمرأةِ أن تنظرَ من الأجنبيِّ إلى ما تحت(11) سُرَّته وركبتهِ، وإن اشتهت غضَّت بصرها رأسًا، ولا تنظر إلى المرأة إلَّا إلى مثلِ ذلك، وغضُّها بصرها من الأجانبِ أصلًا أولى بها، وقدَّم غضَّ الأبصار على حفظِ الفروج؛ لأنَّ النَّظر بريد الزِّنا ورائد الفجور، ووجه ذكر المؤلِّف هذا عقبَ ذكر الآيات الثَّلاث المذكورة الإشارة إلى أنَّ أصل مشروعيَّة الاستئذان الاحتراز من وقع النَّظر إلى ما لا يريدُ صاحب المنزل النَّظر إليه لو دخل بلا إذنٍ، وأعظم ذلك النَّظر إلى النِّساء الأجنبيَّات. وسقط جميعُ ذلك من رواية النَّسفيِّ فقال بعد قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}: ”الآيتين وقول الله ╡: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ}“ ({خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ}[غافر:19] مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ) بضم النون في «نُهي» ولكريمة: ”ما نهى الله عنه“ وسقط لأبي ذرٍّ لفظ «من» وعن ابن عبَّاسٍ مِمَّا عند ابنِ أبي حاتمٍ في قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ}[غافر:19] قال: هو الرَّجل ينظرُ إلى المرأة الحسناء تمرُّ به(12)، أو يدخل بيتًا هي فيه، فإذا فُطِنَ له‼ غضَّ بصرَه، وقد علمَ الله تعالى أنَّه يودُّ أن لو اطَّلع على فرجِها، وإذا قدرَ عليها زنى بها.
          (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ) محمَّد بن مسلم ابنِ شهابٍ (فِي النَّظَرِ إِلَى الَّتِي لَمْ تَحِضْ(13) مِنَ النِّسَاءِ) ولأبي ذرٍّ عن الكشميهنيِّ: ”إلى ما لا يحلُّ من النِّساء“: (لَا يَصْلُحُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُنَّ مِمَّنْ يُشْتَهَى النَّظَرُ إِلَيْهِ) ولأبي ذرٍّ عن الكشميهنيِّ: ”إليهنَّ“ (وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً. وَكَرِهَ عَطَاءٌ) هو ابنُ أبي رباحٍ، ممَّا وصله ابنُ أبي شَيبة (النَّظَرَ إِلَى الجَوَارِي يُبَعْنَ) ولأبي ذرٍّ: ”الَّتي يُبَعن“ (بِمَكَّةَ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَشْتَرِيَ) منهنَّ فيسوغ، وهذا الأثر(14) وسابقه سقطا(15) للنَّسفيِّ.


[1] في (د) و(ص) و(ع): «يستأنسوا: يستبصروا».
[2] في (د): «يصادفوا».
[3] في (ص) و(ل): «السَّلام»، وفي (د) و(ع): «يقدِّم الأوَّل».
[4] في (ب): «عن».
[5] في (د): «يؤذن».
[6] «من»: ليست في (د).
[7] في (س): «تلجوا».
[8] «وأطهر»: ليست في (د).
[9] في (س): «وما».
[10] في (د): «أن ما».
[11] في (ب): «بين».
[12] في (ل): «يمرُّ بها».
[13] في (ص): «الَّذي لم تحضن».
[14] في (ص): «الأمر».
[15] في (د): «سقط».