إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إنما الأعمال بالنيات

          1- (حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ) بضمِّ المُهملَة وفتح الميم؛ نسبةً إلى جدِّه الأعلى حُمَيد، أو إلى الحُمَيدات: قبيلةٌ، أو لحُمَيدٍ: بطنٌ من أسد بن عبد العزَّى، وهو من أصحاب إمامنا الشَّافعيِّ ╩ أخذ عنه ورحل معه إلى مصر، فلمَّا مات الشَّافعيُّ رجع إلى مكَّة، وهو أفقه قرشيٍّ مكِّيٍّ، أخذ عنه البخاريُّ _وقِيلَ: ولذا قدَّمه_ المُتوفَّى سنة تسع عشرة ومئتين، وليس هو أبا(1) عبد الله محمَّد بن أبي نصرٍ فتوح الحميديَّ، صاحب «الجمع بين الصَّحيحين»، ولغير أبوَي ذَرٍّ والوقت والأَصيليِّ وابن عساكر: ”حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ“ كما في الفرع كأصله (قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) بن عُيَيْنة المكِّيُّ التَّابعيُّ الجليل، أحد مشايخ الشَّافعيِّ، والمشارك لإمام دار الهجرة مالكٍ في أكثر شيوخه، المُتوفَّى سنة ثمانٍ وتسعين ومئةٍ، ولأبي ذَرٍّ عن الحَمُّويي: ”عن سفيان“ (قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هو ابن قيسٍ (الأَنْصَارِيُّ) المدنيُّ التَّابعيُّ المشهور قاضي المدينة، المتوفَّى سنة ثلاثٍ وأربعين ومئةٍ، ولأبي ذَرٍّ: ”عن يحيى“ بدل قوله: «حدَّثنا يحيى» (قَالَ: أَخْبَرَنِي) _بالإفراد_ وهو عند غير المؤلِّف كقومٍ لِما قرأه بنفسه على الشَّيخ وحده (مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن الحارث (التَّيْمِيُّ) نسبةً إلى تيم قريشٍ، المتوفَّى سنة عشرين ومئةٍ (أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ) أبا واقدٍ _بالقاف_ (ابْنَ وَقَّاصٍ) بتشديد القاف (اللَّيْثِيَّ) بالمثلَّثة نسبةً إلى ليث بن بكرٍ، وذكره ابن منده في الصَّحابة، وغيره في التَّابعين، المُتوفَّى بالمدينة أيَّام عبد الملك بن مروان (يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ) بن نُفَيلٍ _بضمِّ النُّون وفتح الفاء_ المتوفَّى سنة ثلاثٍ وعشرين ( ☺ ) أي / : سمعت كلامه حال كونه (عَلَى المِنْبَرِ) النَّبويِّ المدنيِّ، فـ «ال» فيه للعهد؛ وهو بكسر الميم؛ من النَّبرة: وهي الارتفاع، أي: سمعته حال كونه (قَالَ) ولأبي الوقت والأَصيليِّ وابن عساكر: ”يقول“ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم ) أي: سمعت كلامه حال كونه (يَقُولُ) فـ «يقول»: في موضع نصبٍ حالًا من رسول الله صلعم ؛ لأنَّ «سمعت» لا يتعدَّى إلى مفعولين، فهي حالٌ مبيِّنةٌ للمحذوف المقدَّر بكلامٍ؛ لأنَّ الذَّات لا تُسمَع، وقال الأخفش: إذا عُلِّقت «سمعت» بغير مسموعٍ كـ «سمعت زيدًا يقول» فهي متعدِّيةٌ لمفعولين، الثَّاني منهما جملة «يقول»، واختاره الفارسيُّ، وعُورِض: بأنَ «سمعت» لو كان يتعدَّى إلى مفعولين لكان إمَّا من باب «أعطيت»، أو «ظننت»، ولا جائزٌ أن يكون من باب «أعطيت»؛ لأنَّ ثاني مفعوليه لا يكون جملةً، ولا مُخبرًا به عن الأوَّل، و«سمعت» بخلاف ذلك، ولا جائزٌ أن يكون من باب «ظننت»؛ لصحَّة قولك: سمعت كلام زيدٍ، فتعدِّيه إلى واحدٍ، ولا ثالث للبابين، وقد بطلا، فتعيَّن القول الأوَّل، وأُجيب: بأنَّ أفعال التَّصيير ليست من البابين، وقد أُلحِقت بهما، وأيضًا من أثبت ما ليس من البابين مثبِتٌ لما لا مانع منه، فقد‼ ألحق بعضهم بما ينصب مفعولين «ضرب» مع المَثَل؛ نحو: { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا }[النحل:75] وألحق بعضهم رأى الحُلُميَّة؛ نحو قوله تعالى: { إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا }[يوسف:36] وأتى بـ «يقول» المضارع في رواية من ذكرها بعد «سمع» الماضي، إمَّا حكايةً لحالِ وقت السَّماع، أو لإحضار ذلك في ذهن السَّامعين تحقيقًا وتأكيدًا له، وإلَّا فالأصل أن يُقال: «قال»، كما في الرِّواية الأخرى؛ ليطابق «سمعت».
          (إِنَّمَا الأَعْمَالُ) البدنيَّة؛ أقوالها وأفعالها، فرضها ونفلها، قليلها وكثيرها، الصَّادرة(2) من المكلَّفين المؤمنين، صحيحةٌ أو مُجزِئةٌ (بِالنِّيَّاتِ) قِيلَ: وقدَّره الحنفيَّة: إنَّما الأعمال كاملةٌ، والأَوَّل أَوْلى؛ لأنَّ الصِّحَّة أكثرُ لزومًا للحقيقة من الكمال، فالحمل عليها أَوْلَى؛ لأنَّ ما كان ألزمَ للشَّيء كان أقربَ خُطورًا بالبال عند إطلاق اللَّفظ، وهذا يوهم أنَّهم لا يشترطون النِّيَّة في العبادات، وليس كذلك، فإنَّ الخلاف ليس إلَّا في الوسائل، أمَّا المقاصد فلا اختلاف في اشتراط النِّيَّة فيها، ومن ثمَّ لم يشترطوها في الوضوء؛ لأنَّه مقصودٌ لغيره لا لذاته، فكيفما حصل حصلَ المقصود، وصار كستر العورة وباقي شروط الصَّلاة التي لا تفتقر إلى نيَّةٍ، وإنمَّا احتيج في الحديث إلى التَّقدير؛ لأنَّه لابدَّ للجارِّ من متعلَّق محذوفٍ هنا، هو الخبر في الحقيقة على الأصحِّ، فينبغي أن يجعل المقدَّر أوَّلًا في ضمن الخبر، فيُستغنَى عن إضمار شيءٍ في الأوَّل؛ لئلَّا يصير في الكلام حذفان: حذف المبتدأ أوَّلًا، وحذف الخبر ثانيًا، وتقديره: إنَّما صحَّة الأعمال كائنةٌ بالنِّيَّات، لكن قال البرماويُّ: يعارضه أنَّ الخبر يصير كونًا خاصًّا، وإذا قدَّرنا: إنَّما صحة الأعمال كائنةٌ بالنيَّات، كان كونًا مطلقًا، وحذف الكون المُطلَق أكثر من الكون الخاصِّ، بل يمتنع إذا لم يدلَّ عليه دليلٌ، وحذف المضاف كثيرٌ أيضًا، فارتكاب حذفين بكثرةٍ وقياسٍ أَوْلَى من حذف واحدٍ بقلَّةٍ وشذوذٍ، وهو الوجه المرضيُّ، ويشهد لذلك: ما قرَّروه في حذف خبر المبتدأ بعد «لولا» في الكون العامِّ والخاصِّ، ومنهم من جعل المقدَّر «القَبول» أي: إنَّما قَبول الأعمال، لكن تُردِّدَ في أنَّ القَبول ينفكُّ عن الصِّحَّة أم لا؟ فعلى الأوَّل: هو كتقدير الكمال، وعلى الثَّاني: كتقدير الصِّحَّة، ومنهم من قال: لا حاجة إلى إضمار محذوفٍ من الصِّحَّة أو الكمال أو نحوهما؛ إذ الإضمار خلاف الأصل، وإنَّما المراد حقيقة العمل الشَّرعيِّ، فلا يحتاج حينئذٍ إلى إضمارٍ .
          و«النِّيَّات» بتشديد الياء: جمع نيَّةٍ؛ من نَوَى ينوِي، من باب ضرَب يضرِب؛ وهي لغةً: القصد، وقِيلَ: هي من النَّوى؛ بمعنى: البُعْد، فكأنّ النَّاوي للشَّيء يطلب بقصده وعزمه ما لم يصل إليه بجوارحه وحركاته الظَّاهرة؛ لبُعْده عنه، فجُعِلَت النِّيَّة وسيلةً إلى بلوغه. وشرعًا: قصد الشَّيء مقترنًا بفعله، فإن تراخى عنه كان عزمًا، أو يُقال: قصد الفعل ابتغاء وجه الله تعالى وامتثالًا لأمره، وهي هنا محمولةٌ على معناها اللُّغويِّ؛ ليطابق ما بعده من التَّقسيم، والتَّقييد بالمكلَّفين المؤمنين يخرِج أعمال الكفَّار؛ لأنَّ المراد بالأعمال أعمال العبادة، وهي لا تصحُّ من الكافر، وإن كان مُخاطَبًا بها مُعاقَبًا على تركها، وجُمِعَت النِّيَّة‼ في هذه الرِّواية باعتبار تنوُّعها؛ لأنَّ / المصدر لا يجمع إلَّا باعتبار تنوُّعه، أو باعتبار مقاصد النَّاوي؛ كقصده تعالى، أو تحصيل موعوده، أو اتِّقاء وعيده. وليس المراد نفي ذات العمل؛ لأنَّه حاصلٌ بغير نيَّةٍ، وإنَّما المراد: نفي صحَّته أو كماله على اختلاف التَّقديرين، وفي معظم الرِّوايات: «النية» [خ¦54] بالإفراد على الأصل؛ لاتِّحاد محلِّها وهو القلب، كما أنَّ مرجعَها واحدٌ، وهو الإخلاص للواحد الذي لا شريك له، فناسب إفرادها، بخلاف الأعمال فإنَّها متعلِّقةٌ بالظَّواهر، وهي متعدِّدَةٌ، فناسب جمعها، وفي «صحيح ابن حبَّان»: «الأعمال بالنِّيَّات» بحذف «إنَّما»، وجمع «الأعمال» و«النِّيَّات»، وفي «كتاب الإيمان» من «صحيح البخاري» من رواية مالكٍ عن يحيى: «الأعمال بالنِّيَّة» [خ¦54] وفيه أيضًا في «النِّكاح»: «العمل بالنِّيَّة» [خ¦5070] بالإفراد فيهما، والتَّركيب في كلِّها يفيد الحصر باتِّفاق المحقِّقين؛ لأنَّ «الأعمال» جمعٌ محلًّى بالألف واللَّام مفيدٌ للاستغراق، وهو مستلزمٌ للحصر؛ لأنَّه من حصر المبتدأ في الخبر، ويعبِّر عنه البيانيُّون بقصر الموصوف على الصِّفة، وربَّما قِيلَ: قصر المُسنَد إليه على المُسنَد، والمعنى: كلُّ عملٍ بنيَّةٍ، فلا عمل إلَّا بنيَّةٍ.
          واختُلِف في: «إنَّما»، هل تفيد الحصر أم لا؟ فقال الشَّيخ أبو إسحاق الشِّيرازيُّ والغزاليُّ وإلكيا الهرَّاسيُّ والإمام فخر الدِّين: تفيد الحصر المشتمل على نفي الحكم عن غير المذكور؛ نحو: إنَّما قائمٌ زيدٌ، أي: لا عمرٌو، أو نفي غير الحكم عن المذكور؛ نحو: إنَّما زيدٌ قائمٌ، أي: لا قاعدٌ. وهل تفيده بالمنطوق أو بالمفهوم؟ قال البرماويُّ في «شرح ألفيَّته»: الصَّحيح أنَّه بالمنطوق؛ لأنَّه لو قال: ما له عليَّ إلَّا دينارٌ كان إقرارًا بالدِّينار، ولو كان مفهومًا لم يكن مقرًّا؛ لعدم اعتبار المفهوم بالأقارير. انتهى. وممَّن صرَّح بأنَّه منطوقٌ أبو الحسين بن القطَّان، والشَّيخ أبو إسحاق الشِّيرازيُّ، والغزاليُّ، بل نقله البُلْقينيُّ عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلَّا اليسير، كالآمديِّ، قال في «اللَّامع»(3): وقِيلَ: الحصر من عموم المبتدأ باللَّام وخصوص خبره، على حدِّ: صديقي زيدٌ؛ لعموم المضاف إلى المُفرَد وخصوص خبره، ففي الرِّواية الأخرى كما سبق بدون «إنَّما»، فالتَّقدير: كلُّ الأعمال بالنِّيَّات؛ إذ لو كان عملٌ بلا نيَّةٍ لم تصدق هذه الكليَّة، وأصل إنَّما: «إنَّ» التَّوكيديَّة، دخلت عليها «ما» الكافَّة، وهي حرفٌ زائدٌ، خلافًا لمن زعم أنَّها «ما» النَّافية، ولا يرد على دعوى الحصر نحو: صوم رمضان بنيَّة قضاءٍ أو نذرٍ؛ حيث لم يقع له ما نوى؛ لعدم قابليَّة المحلِّ، والصَّرورة في الحجِّ ينويه للمستأجر، فلا يقع إلَّا للنَّاوي؛ لأنَّ نفس الحجِّ وقع، ولو كان لغير المنويِّ له. والفرق بينه وبين نيَّة القضاء أو النَّذر في رمضان حيث لا يصحُّ أصلًا؛ لأنَّ التَّعيين ليس بشرطٍ في الحجِّ، فيُحْرِم مُطلَقًا ثمَّ يصرفه إلى ما شاء؛ ولذا(4): لو أحرم بنفله وعليه فرضٌ؛ انصرف للفرض لشدَّة اللُّزوم، فإذا لم يقبل ما أحرم به؛ انصرف إلى القابل. نعم؛ لو أحرم بالحجِّ قبل وقته انعقد عمرةً على الرَّاجح؛ لانصرافه إلى ما يقبل، وهذا بخلاف ما لو أحرم بالصَّلاة قبل وقتها عالمًا(5) لا تنعقد، وأمَّا إزالة النَّجاسة حيث لا تفتقر إلى نيَّةٍ فلأنَّها من قبيل التروك(6). نعم؛ تفتقر لحصول الثَّواب، كتارك الزِّنا إنَّما يُثاب بقصد أنَّه تركه امتثالًا للشَّرع، وكذلك نحو القراءة‼ والأذان والذِّكر، لا يحتاج إلى نِيَّةٍ لصراحتها، إلَّا لغرض الإثابة، وخروج هذا ونحوه عن اعتبار النِّيَّة فيها إمَّا بدليلٍ آخر، فهو من باب تخصيص العموم، أو لاستحالة دخولها؛ كالنِّيَّة ومعرفة الله تعالى، فإنَّ النِّيَّة فيهما مُحالٌ، أمَّا النِّيَّة فلأنَّها لو توقَّفت على نيَّةٍ أخرى؛ لتوقَّفت الأخرى على أخرى، ولزم التَّسلسل أو الدَّور، وهما مُحالان، وأمَّا معرفة الله تعالى فلأنَّها لو توقَّفت على النِّيَّة مع أنَّ النِّيَّة قصد المنويِّ بالقلب لزم أن يكون عارفًا بالله تعالى قبل معرفته، وهو مُحالٌ.
          و«الأعمال»: جمع عملٍ، وهو حركة البدن بكلِّه أو بعضه، وربَّما أُطلِقَ على حركة النَّفس، فعلى هذا يُقال: العمل: إحداث أمرٍ، قولًا كان أو فعلًا، بالجارحة أو بالقلب، لكن الأسبق إلى الفهم الاختصاص بفعل الجارحة، لا نحو النِّيَّة، قاله ابن دقيقٍ العيد، قال: ورأيت بعض المتأخِّرين من أهل الخلاف خصَّه بما لا يكون قولًا، قال: وفيه نظرٌ، ولو خُصِّص بذلك لفظ الفعل لكان أقرب، من حيث استعمالهما متقابلين، فيُقال: الأقوال والأفعال، ولا تردُّد عندي في أنَّ الحديث يتناول الأقوال أيضًا. انتهى، وتعقَّبه صاحب «جمع العدَّة»: بأنَّه إن أراد بقوله: ولا / تردَّد عندي في أنَّ الحديث يتناول الأقوال أيضًا، باعتبار افتقارها إلى النِّيَّة، بناءً على أنَّ المراد إنَّما صحَّة الأعمال؛ فممنوعٌ، بل الأذان والقراءة ونحوهما تتأدَّى بلا نِيَّةٍ. وإن أراد باعتبار أنَّه يُثاب على ما ينوي منها ويكون كاملًا فمُسلَّمٌ، لكنَّه مُخالِفٌ لما رجحه من تقدير الصِّحَّة.
          فإن قلتَ: لِمَ عدل عن لفظ الأفعال إلى الأعمال؟ أجاب الخُوَيِّيُّ(7): بأنَّ الفعل هو الذي يكون زمانه يسيرًا ولم يتكرَّر؛ قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }[الفيل:1] {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ }[إبراهيم:45] حيث كان إهلاكهم في زمانٍ يسيرٍ، ولم يتكرَّر، بخلاف العمل؛ فإنَّه الذي يوجد من الفاعل في زمان مديدٍ، بالاستمرار والتَّكرار، قال الله تعالى : {الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ }[البقرة:25] طلب منهم العمل الذي يدوم ويستمرُّ، ويتجدَّد كلَّ مرَّةٍ ويتكرَّر، لا نفس الفعل؛ قال تعالى: {فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ}[الصافات:61] ولم يقل: فليفعل الفاعلون، فالعمل أخصُّ، ومن ثمَّ قال: «الأعمال»، ولم يقل: الأفعال؛ لأنَّ ما يندر من الإنسان لا يكون بنيَّةٍ، لأنَّ كلَّ عملٍ تصحبه نيَّةٌ، وأمَّا العمل فهو ما يدوم عليه الإنسان ويتكرَّر منه، فتعتبر النِّيَّة. انتهى، فليُتأمَّل.
          و«الباء» في«بالنِّيَّات» تحتمل المصاحبة والسَّببيَّة، أي: الأعمال ثابتٌ ثوابها بسبب النِّيَّات، ويظهر أثر ذلك في أنَّ النِّيَّة شرطٌ أو ركنٌ، والأشبه عند الغزاليِّ أنَّها شرطٌ؛ لأنَّ النِّيَّة في الصَّلاة مَثَلًا تتعلَّق بها، فتكون خارجةً عنها، وإلَّا؛ لكانت متعلِّقةً بنفسها، ولافتقرت إلى نيَّةٍ أخرى، والأظهر عند الأكثرين: أنَّها من الأركان، والسَّببيَّة صادقةٌ مع الشَّرطيَّة، وهو واضحٌ؛ لتوقُّف المشروط على الشَّرط، ومع الرُّكنيَّة؛ لأنَّ بترك جزءٍ من الماهيَّة تنتفي الماهيَّة، والحقُّ: أنَّ إيجادها ذكرًا في أوَّله ركنٌ، واستصحابها حكمًا بأن تعرى عن المنافي شرطٌ؛ كإسلام النَّاوي وتمييزه وعلمه بالمنويِّ. وحكمها: الوجوب، ومحلُّها: القلب، فلا يكفي النُّطق مع الغفلة‼. نعم؛ يُستَحبُّ النُّطق بها؛ ليساعد اللِّسانُ القلبَ، ولئن سلَّمنا أنَّه لم يُرْوَ عنه صلعم ، ولا عن أحدٍ من أصحابه(8) النُّطق بها؛ لكنَّا نجزم بأنَّه ╕ نطق بها؛ لأنَّه لا شكَّ أنَّ الوضوء المَنويَّ مع النُّطق به أفضلُ، والعلم الضَّروري حاصلٌ بأنَّ أفضل الخلق لم يواظب على ترك الأفضل طول عمره، فثبت أنَّه أتى بالوضوء المنويِّ مع النُّطق، ولم يثبت عندنا أنَّه أتى بالوضوء العاري عنه، والشَّكُّ لا يعارض اليقين، فثبت أنَّه أتى بالوضوء المنويِّ مع النُّطق، والمقصود بها تَمييز العبادة عن العادة، أو تَمييز رتبها، ووقتها أوَّل الفرض؛ كأوَّل غسل جزءٍ من الوجه في الوضوء، فلو نوى في أثناء غسل الوجه كَفَتْ، ووجب إعادة المغسول منه قبلها، وإنَّما لم يوجبوا المقارنة في الصَّوم؛ لعسر مراقبة الفجر. وشرط النِّيَّة الجزم؛ فلو توضَّأ الشَّاكُّ بعد وضوئه في الحدث احتياطًا فبان محدثًا لم يجزه؛ للتَّردُّد في النِّيَّة بلا ضرورةٍ، بخلاف ما إذا لم يَبِنْ محدثًا فإنَّه يجزيه للضَّرورة، وإنَّما صحَّ وضوء الشَّاكِّ في طهره بعد تيقُّن حدثه مع التَّردُّد؛ لأنَّ الأصل بقاء الحدث، بل لو نوى في هذه إن كان محدثًا فعن حدثه، وإلَّا فتجديدٌ صحَّ أيضًا وإن تذكَّر. نقله النَّوويُّ في «شرح المهذَّب» عن البغوي، وأقرَّه.
          (وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ) _بكسر الرَّاء_ لكلِّ رجلٍ (مَا نَوَى) أي: الذي نواه أو نيَّته، وكذا لكلِّ امرأةٍ ما نوت؛ لأنَّ النَّساء شقائق الرِّجال، وفي «القاموس»: والمرء، مثلَّثة(9) الميم: الإنسان أو الرَّجل، وعلى القول بأنَّ «إنَّما» للحصر، فهو هنا من حصر الخبر في المبتدأ، ويُقال: قصر الصِّفة على الموصوف لأنَّ المقصور عليه في «إنَّما» دائمًا المؤخَّرُ، وتربو هذه على السَّابقة بتقديم الخبر، وهو يفيد الحصر كما تقرَّر(10)، واستُشكِل الإتيان بهذه الجملة بعد السَّابقة لاتِّحاد الجملتين، فقِيلَ: تقديره: وإنَّما لكلِّ امرئٍ ثوابُ ما نوى، فتكون الأولى قد نبَّهت على أنَّ الأعمال لا تصير مُعتَبرةً إلَّا بنيَّةٍ، والثَّانية على أنَّ العامل يكون له ثواب العمل على مقدار نيَّته، ولهذا أُخِّرَت عن الأولى لترتُّبها عليها، وتُعقِّب: بأنَّ الأعمال حاصلةٌ بثوابها للعامل لا لغيره، فهي عين معنى الجملة الأولى(11)، وقال ابن عبد السَّلام: معنى الثَّانية: حصر ثواب الإجزاء(12) المرتَّب على العمل لعامله، ومعنى الأولى: صحَّة الحكم وإجزاؤه، ولا يلزم منه ثوابٌ، فقد يصحُّ العمل ولا ثواب عليه، كالصَّلاة في المغصوب ونحوه على أرجح المذاهب، وعُورِض: بأنَّه / يقتضي أنَّ العمل له نيَّتان: نيَّةٌ بها يصحُّ في الدُّنيا ويحصل الاكتفاء به، ونيَّةٌ بها يحصل الثَّواب في الآخرة، إلَّا أن يُقدَّر في ذلك وصف النِّيَّة: إن لم يحصل صحَّ ولا ثواب، وإن حصل صحَّ وحصل الثَّواب، فيزول الإشكال، وقِيلَ: إنَّ الثَّانية تفيد اشتراط تعيين المنويِّ، فلا يكفي في الصَّلاة نيَّتُها من غير تعيينٍ، بل لابدَّ من تمييزها(13) بالظُّهر أو العصر مثلًا، وقِيلَ: إنَّها تفيد منع الاستنابة في النِّيَّة؛ لأنَّ الجملة الأولى لا تقتضي منعها، بخلاف الثَّانية، وتُعقِّب: بنحو نيَّة وليِّ الصبيِّ في الحجِّ، فإنَّها صحيحةٌ، وكحجِّ الإنسان عن غيره، وكالتَّوكيل في تفرقة الزَّكاة، وأُجِيب: بأنَّ ذلك واقعٌ على خلاف الأصل في الوضع(14)، وذهب القرطبيُّ إلى أنَّ الجملة اللَّاحقة مؤكِّدةٌ للسَّابقة، فيكون ذكر الحكم بالأولى، وأكَّده بالثَّانية ؛ تنبيهًا على سرِّ‼ الإخلاص، وتحذيرًا من الرِّياء المانع من الإخلاص، وقد عُلِمَ أنَّ الطَّاعات في أصل صحَّتها وتَضَاعُفِها مرتبطةٌ بالنِّيَّات، وبها تُرفَع إلى خالق البريَّات.
          (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا) جملةٌ في موضع(15) جرٍّ صفةٌ لـ «دنيا» أي: يحصِّلها نيَّةً وقصدًا (أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ) ولأبي ذرٍّ ”أو امرأةٍ“ (يَنْكِحُهَا) أي: يتزوَّجها، كما في الرِّواية الأخرى (فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) من الدُّنيا والمرأة، والجملة جواب الشَّرط في قوله: «فمَنْ»، قال ابن دقيقٍ العيد: في قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» أي: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نيَّةً وقصدًا فهجرته إلى الله ورسوله حكمًا وشرعًا، ونحو هذا في التَّقدير قوله: «فمن كانت هجرته إلى دنيا...» إلى آخره؛ لئلَّا يتَّحد الشَّرط والجزاء، ولابدَّ من تغايرهما، فلا يُقال: من أطاع الله أطاع الله، وإنَّما يقال: من أطاع الله نجا، وهنا وقع الاتِّحاد، فاحتيج إلى التَّقدير المذكور، وعُورِض: بأنَّه ضعيفٌ من جهة العربية؛ لأنَّ الحال المُبيِّنة لا تُحذَف بلا دليلٍ، ومن ثمَّ منع بعضهم تعلُّق الباء في «بسم الله» بحالٍ محذوفةٍ، أي: أبتدئ متبرِّكًا، قال: لأنَّ حذف الحال لا يجوز، وأجاب البدر الدَّمامينيُّ منتصرًا لابن دقيقِ العيد: بأنَّ ظاهرَ نصوصهم جوازُ الحذف، قال: ويؤيِّده أنَّ الحال خبرٌ في المعنى أو صفةٌ، وكلاهما يسوغ حذفه لا لدليلٍ(16)، فلا مانع في الحال أن تكون كذلك. انتهى. وقِيلَ: لأنَّ التَّغاير يقع تارةً باللَّفظ، وهو الأكثر، وتارةً بالمعنى، ويُفهَم ذلك من السِّياق؛ كقوله تعالى: { وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا }[الفرقان:71] أي: مرضيًّا عند الله، ماحيًا للعقاب، محصِّلًا للثَّواب، فهو مؤوَّلٌ على إرادة المعهود المستقرِّ في النَّفس؛ كقولهم: أنت أنت، أي: الصَّديق، وقوله:
أَنا أَبو النَّجمِ وشِعْرِي شِعْرِي
          وقال بعضهم: إذا اتَّحد لفظ المبتدأ والخبر أو الشَّرط والجزاء عُلِمَ منهما المبالغة، إمَّا في التَّعظيم؛ كقوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله»، وإمَّا في التَّحقير؛ كقوله: «فمن كانت هجرته إلى دنيا...» إلى آخره، وقِيلَ: الخبر في الثَّاني محذوفٌ، والتَّقدير: فهجرتُه _إلى ما هاجر إليه من الدُّنيا والمرأة_ قبيحةٌ غير صحيحةٍ، أو غير مقبولةٍ، ولا نصيب له في الآخرة، وتُعقِّب: بأنَّه يقتضي أن تكون الهجرة مذمومةً مُطلَقًا، وليس كذلك؛ فإنَّ من ينوي بهجرته مفارقة دار الكفر وتزويج المرأة معًا لا تكون قبيحةً ولا غير صحيحةٍ، بل ناقصةً بالنِّسبة إلى من كانت هجرته خالصة، وإنَّما أشعرَ السِّياق بذمِّ من فعل ذلك بالنِّسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة، فأمَّا من طلبها مضمومةً إلى الهجرة فإنَّه يُثَاب على قصده الهجرةَ، لكن دون ثواب مَنْ أخلص، وقد اشتُهِر أنَّ سبب هذا الحديث قصَّة مُهاجر أمِّ قيسٍ المرويّ(17) في «المعجم الكبير» للطَّبراني بإسنادٍ رجالُه ثقاتٌ من رواية الأعمش، ولفظه عن أبي وائلٍ عن ابن مسعودٍ قال: كان فينا رجلٌ خطب امرأةً يُقال لها: أمُّ قيسٍ، فأبت أن تتزوَّجه حتَّى يهاجرَ، فهاجر فتزوَّجها، قال: فكنَّا نسمِّيه مهاجر أمِّ قيسٍ ، ولم يقف ابن رجب على من‼ خرَّجه، فقال في شرحه «الأربعين» للنَّووي: وقد ذكر ذلك كثيرٌ من المتأخِّرين في كتبهم، ولم نَرَ له أصلًا بإسنادٍ يصحُّ. وذكر أبو الخطَّاب ابن دحية: أنَّ اسم المرأة قَيْلَة، وأمَّا الرَّجل فلم يسمِّه أحدٌ ممَّن صنَّف في الصَّحابة فيما رأيته، وهذا السَّبب وإن كان خاصَّ المورد، لكن العبرة بعموم اللَّفظ. والتَّنصيص على المرأة من باب التَّنصيص على الخاصِّ / بعد العامِّ للاهتمام؛ نحو: الملائكة وجبريل، وعُورِض: بأنَّ لفظ دنيا نكرةٌ، وهي لا تعمُّ في الإثبات، فلا يلزم دخول المرأة فيها، وأُجِيب: بأنَّها إذا كانت في سياق الشَّرط تعمُّ، ونكتة الاهتمام: الزِّيادة في التَّحذير؛ لأنَّ الافتتان بها أشدُّ، وإنَّما وقع الذَّمُّ هنا على مباحٍ، ولا ذمَّ فيه ولا مدحٌ؛ لكون فاعله أَبْطَنَ خلاف ما أظهر؛ إذ خروجه في الظَّاهر ليس لطلب الدُّنيا؛ لأنَّه إنَّما خرج في صورة طلب فضيلة الهجرة.
          و«الهجرة» بكسر الهاء: التَّرك، والمراد هنا: مَنْ هاجر من مكَّة إلى المدينة قَبْل فتح مكَّة، «فلا هجرة بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّةٌ» [خ¦2783] كما قال ╕ ، نعم؛ حكمها من دار الكفر إلى دار الإسلام مستمرٌّ، وفي الحقيقة هي: مفارقة ما يكرهه الله تعالى إلى ما يحبُّه، وفي الحديث: «والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» [خ¦10]، و«دُنيا» بضمِّ الدَّال مقصورةٌ غير منوَّنةٍ للتَّأنيث والعلميَّة، وقد تُكسَر وتُنوَّن، وحُكِيَ عن الكُشْمِيهَنِيِّ فأُنكِر عليه، وأنَّه لا يعرف في اللُّغة التَّنوين، ولم يكن الكُشْمِيهَنِيُّ ممَّن يُرجَع إليه في ذلك(18). انتهى، والصَّحيح جوازه، قال في «القاموس»: والدُّنيا نقيض الآخرة، وقد تُنوَّن، وجمعها دُنَى. انتهى، واستدلُّوا له بقوله:
إنِّي مُقَسِّمٌ ما ملكتُ فجاعلٌ                     أجرًا(19) لآخرَتِي ودُنْيا تَنْفَعُ
فإنَّ ابن الأعرابيِّ أنشده منوَّنًا، وليس بضرورةٍ كما لا يخفى .
          و«الدُّنيا»: «فُعْلَى» من الدُّنوِّ؛ وهو القرب، سمِّيت بذلك؛ لسبقها للأخرى، وهي ما على الأرض من الجوِّ والهواء، أو هي كلُّ المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدَّار الآخرة، أو لدنوِّها من الزَّوال، ووقع في رواية الحُمَيْدِيِّ هذه حذف أحد وجهي التَّقسيم؛ وهو قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله...» إلى آخره. وقد ذكره البخاريُّ من غير طريق الحُمَيْدِيِّ، فقال ابن العربيِّ: لا عذر للبخاريِّ في إسقاطه؛ لأنَّ الحُمَيْدِيَّ رواه في «مُسنَده» على التَّمام، قال: وقد ذكر قومٌ أنَّه لعلَّه استملاه من حفظ الحُمَيْدِيِّ، فحدَّثه هكذا، فحدَّث عنه كما سمع، أو حدَّثه به تامًّا، فسقط من حفظ البخاريِّ، قال: وهو أمرٌ مُستبعَد جدًّا عند من اطَّلع على أحوال القوم، وجاء من طريق بشر بن موسى، و«صحيح أبي عَوانة»، و«مُستخرَجي أبي نعيمٍ على الصَّحيحين» من طريق الحُمَيْدِيِّ تامًّا، ولعلَّ المؤلِّف إنَّما اختار الابتداء بهذا السِّياق النَّاقص ميلًا إلى جواز الاختصار من الحديث، ولو من أثنائه، كما هو الرَّاجح، وقِيلَ غير ذلك.
           وهذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال أبو داود: يكفي الإنسان لدينه أربعة أحاديث: «الأعمال بالنِّيَّة(20)»، و«مِنْ حُسْنِ إِسلامِ المَرءِ تركُهُ ما لا يَعْنِيْه» و«لا يكون المؤمن مؤمنًا حتَّى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه» [خ¦13]، و«الحلال بيِّن والحرام بيِّن» [خ¦52]، وذكر غيرُه غيرَها‼. وقال الشَّافعيُّ وأحمد: إنَّه(21) يدخل فيه ثلث العلم، قال البيهقيُّ: إذ كَسْبُ العبد إمَّا بقلبه أو بلسانه أو ببقيَّة جوارحه، وعن الشَّافعيِّ أيضًا: أنَّه يدخل فيه نصف العلم، ووُجِّه: بأنَّ للدِّين ظاهرًا وباطنًا، والنِّيَّة متعلِّقةٌ بالباطن، والعمل هو الظَّاهر، وأيضًا فالنِّيَّة عبوديَّةُ القلب، والعمل عبوديَّة الجوارح، وقد زعم بعضهم: أنَّه متواترٌ، وليس كذلك؛ لأنَّ الصَّحيح أنَّه لم يروِه عن النَّبيِّ صلعم إلَّا عمر ☺ ، ولم يروِه عن عمر إلَّا علقمة، ولم يروِه عن علقمة إلَّا محمَّد بن إبراهيم، ولم يروِه عن محمَّد بن إبراهيم إلَّا يحيى بن سعيد الأنصاريُّ، وعنه انتشر، فقِيلَ: رواه عنه أكثر من مئتي راوٍ، وقِيلَ: سبع مئةٍ، من أعيانهم: مالكٌ والثَّوريُّ والأوزاعيُّ وابن المبارك واللَّيث بن سعدٍ وحمَّاد بن زيدٍ وسعيدٌ وابن عيينة، وقد ثبت عن أبي إسماعيل(22) الهرويِّ _الملقَّب بشيخ الإسلام_ أنَّه كتبه عن سبع مئة رجلٍ أيضًا من(23) أصحاب يحيى بن سعيدٍ، فهو مشهورٌ بالنِّسبة إلى آخره، غريبٌ بالنِّسبة إلى أوَّله. نعم؛ المشهور مُلحَقٌ بالمتواتر عند أهل الحديث، غير أنَّه يفيد العلم النَّظريَّ، إذا كانت طرقه متباينةً سالمةً من ضعف الرُّواة ومن التَّعليل. والمتواتر يفيد العلم الضَّروريَّ، ولا يُشترَط فيه عدالة ناقله، وبذلك افترقا. وقد تُوبِع علقمة والتَّيميُّ ويحيى بن سعيدٍ على روايتهم.
          قال ابن منده: هذا الحديث رواه عن عمر غير علقمة: ابنه عبد الله وجابر وأبو جحيفة وعبد الله بن عامر بن ربيعة وذو الكَلَاع وعطاء بن يسار وناشِرَة بن سُمَيٍّ وواصل بن عمرو الجذاميُّ ومحمَّد بن المنكدر / ، ورواه عن علقمة غير التَّيميِّ سعيد بن المسيَّب ونافعٌ مولى ابن عمر، وتابع يحيى بن سعيدٍ على روايته عن التَّيميِّ محمَّدِ بن [إبراهيم] محمَّدُ بن علقمة أبو الحسن اللَّيثيُّ وداود بن أبي الفرات ومحمَّد بن إسحاق بن يسار وحجَّاج بن أرطأة وعبد ربِّه بن قيس الأنصاريُّ. ورواة إسناده هنا ما بين كوفيٍّ ومدنيٍّ، وفيه تابعيٌّ عن تابعيٍّ يحيى ومحمَّدٌ التَّيميُّ، أو ثلاثةٌ إن قلنا: إنَّ علقمة تابعيٌّ، وهو قول الجمهور. وصحابيٌّ عن صحابيٍّ إن قلنا: إنَّ علقمة صحابيٌّ. وفيه الرِّواية بالتَّحديث والإخبار والسَّماع والعنعنة. وأخرجه المؤلِّف في «الإيمان» [خ¦54] و«العتق» [خ¦2529] و«الهجرة» [خ¦3898] و«النِّكاح» [خ¦5070] و«الأيمان والنُّذور» [خ¦6689] و«ترك الحيل» [خ¦6953]، ومسلمٌ والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ وابن ماجه وأحمد والدَّارقطنيُّ وابن حبَّان والبيهقيُّ، ولم يخرجه مالكٌ في «موطَّئه»، وبقيَّة مباحثه تأتي _إن شاء الله تعالى_ في محالِّها.
          وقد رواه من الصَّحابة غير عمر، قِيلَ: نحو عشرين صحابيًّا، فذكره الحافظ أبو يَعلى القزوينيُّ في كتابه «الإرشاد» من رواية مالكٍ عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيدٍ الخدريِّ عن النَّبيِّ صلعم قال: «الأعمال بالنِّيَّة(24)»، ثمَّ قال: هذا حديثٌ غير محفوظٍ عن زيد بن أسلم بوجهٍ، فهذا ممَّا(25) أخطأ فيه الثِّقة. ورواه الدَّارقطنيُّ في أحاديث مالكٍ التي ليست في «الموطَّأ»، وقال: تفرَّد به عبد المجيد عن مالكٍ، ولا نعلم من حدَّث به عن عبد المجيد غير نوح بن حبيبٍ وإبراهيم بن محمَّدٍ العُتَقيِّ، وقال ابن منده في جمعه لطرق هذا الحديث‼: رواه عن النَّبيِّ صلعم غير عمر: سعد بن أبي وقَّاصٍ، وعليُّ بن أبي طالبٍ، وأبو سعيدٍ الخدريُّ، وعبد الله بن مسعودٍ، وأنسٌ، وابن عبَّاسٍ، ومعاوية، وأبو هريرة، وعبادة بن الصَّامت، وعتبة بن عبد السُّلَميُّ، وهلال بن سويدٍ، وعقبة بن عامرٍ، وجابر بن عبد الله، وأبو ذَرٍّ، وعتبة بن النُّدَّر(26)، وعقبة بن مسلمٍ، وعبد الله بن عمر. انتهى، وقد اتُّفق على أنَّه لا يصحُّ مُسنَدًا إلَّا من رواية عمر، إشارةً إلى أنَّ من أراد الغنيمة صحَّح العزيمة، ومن أراد المواهب السَّنيَّة أخلص النِّيَّة، ومن أخلص الهجرة ضاعف(27) الإخلاصُ أجرَه، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، إنَّما تُنال المطالب على قدر همَّة الطَّالب، إنَّما تُدرَك المقاصد على قدر عناء(28) القاصد، على قدر هِمَّة أهل العزم تأتي العزائم.


[1] هكذا صححت في (ج) وفي باقي الأصول: «أبو».
[2] في (ص): «الكائنة».
[3] في (م): «اللوامع».
[4] في (د): «وكذا».
[5] في (ص): «عامدًا».
[6] في (ص): «المتروك».
[7] كذا في (ب) و(س)، وفي (د) و(م): «الجوينيُّ»، وفي (ص): «الخوبي».
[8] في (م): «الصَّحابة».
[9] في (د) و(س): «مثلَّث».
[10] في (د): «تقدَّم».
[11] في (ص) و(م): «الثَّانية».
[12] في (ب) و(م): «الأجر».
[13] في (م): «تعيينها».
[14] في (س): «المواضع».
[15] في (م): «محل».
[16] قوله: وكلاهما يسوغ حذفه لا لدليل، لعل الصواب إسقاط لفظ (لا) على أنها ملحق بغير خط الشارح.
[17] في غير (د) و(ص): «المرويَّة».
[18] في (م): «في اللُّغة».
[19] في (ب) و(س): «جزءًا».
[20] في (د): «بالنِّيَّات».
[21] «إنَّه»: ليس في (د).
[22] في (ص): «إسحاق»، وليس بصحيحٍ.
[23] في (م): «عن».
[24] في (د): «بالنِّيَّات».
[25] في الأصول الخطية: «ما» والتصويب من الإرشاد للخيلي.
[26] في النسخ جميعها: «المنذر»، وهو تابعيٌّ، فلعلَّه محرَّفٌ عن المثبت.
[27] في (ص): «صاحب».
[28] في (م): «عزمة».