1- (حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ)؛ بضمِّ المُهملَة وفتح الميم؛ نسبةً إلى جدِّه الأعلى حُمَيد، أو إلى الحُمَيدات: قبيلةٌ، أو لحُمَيدٍ: بطنٌ من أسد بن عبد العزَّى، وهو من أصحاب إمامنا الشَّافعيِّ رضي الله تعالى عنه أخذ عنه ورحل معه إلى مصر، فلمَّا مات الشَّافعيُّ؛ رجع إلى مكَّة، وهو أفقه قرشيٍّ مكِّيٍّ، أخذ عنه البخاريُّ _وقِيلَ: ولذا قدَّمه_ المُتوفَّى سنة تسع عشرة ومئتين، وليس هو أبا عبد الله محمَّد بن أبي نصرٍ فتوح الحميديَّ، صاحب «الجمع بين الصَّحيحين»، ولغير أبوَي ذَرٍّ والوقت والأَصيليِّ وابن عساكر: ((حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ)) كما في «الفرع» كـ: «أصله» (قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) ابن عُيَيْنة المكِّيُّ التَّابعيُّ [1] الجليل، أحد مشايخ الشَّافعيِّ، والمشارك لإمام دار الهجرة مالكٍ في أكثر شيوخه، المُتوفَّى سنة ثمانٍ وتسعين ومئةٍ، ولأبي ذَرٍّ عن الحَمُّويي: ((عن سفيان)) (قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هو ابن قيسٍ (الأَنْصَارِيُّ) المدنيُّ التَّابعيُّ المشهور قاضي المدينة، المتوفَّى سنة ثلاثٍ وأربعين ومئةٍ، ولأبي ذَرٍّ: ((عن يحيى)) بدل قوله: «حدَّثنا يحيى» (قَالَ: أَخْبَرَنِي) _بالإفراد_ وهو _عند غير المؤلِّف كقومٍ_ لمِا قرأه بنفسه على الشَّيخ وحده (مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن الحارث (التَّيْمِيُّ)؛ نسبةً إلى تيم قريشٍ، المتوفَّى سنة عشرين ومئةٍ، (أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ) أبا واقدٍ _بالقاف_ (ابْنَ وَقَّاصٍ) بتشديد القاف (اللَّيْثِيَّ) بالمثلَّثة نسبةً إلى ليث بن بكرٍ، وذكره ابن منده في الصَّحابة، وغيره في التَّابعين، المُتوفَّى بالمدينة أيَّام عبد الملك بن مروان، (يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) ابن نُفَيلٍ _بضمِّ النُّون، وفتح الفاء_، المتوفَّى سنة ثلاثٍ وعشرين (رضي الله عنه)؛ أي: [/ج1ص51/] سمعت كلامه حال كونه (عَلَى الْمِنْبَرِ) النَّبويِّ المدنيِّ، فـ: «أل» فيه للعهد؛ وهو بكسر الميم؛ من النَّبرة: وهي الارتفاع؛ أي: سمعته حال كونه (قَالَ)، ولأبي الوقت والأَصيليِّ وابن عساكر: ((يقول)) (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: سمعت كلامه حال كونه (يَقُولُ)، فـ: «يقول»: في موضع نصبٍ حالًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ «سمعت» لا يتعدَّى إلى مفعولين، فهي حالٌ مبيِّنةٌ للمحذوف المقدَّر بكلامٍ؛ لأنَّ الذَّات لا تُسمَع، وقال الأخفش: إذا عُلِّقت «سمعت» بغير مسموعٍ كـ: «سمعت زيدًا يقول»؛ فهي متعدِّيةٌ لمفعولين، الثَّاني منهما جملة «يقول»، واختاره الفارسيُّ، وعُورِض: بأنَ (سمعت) لو كان يتعدَّى إلى مفعولين؛ لكان إمَّا من باب «أعطيت»، أو «ظننت»، ولا جائزٌ أن يكون من باب (أعطيت)؛ لأنَّ ثانيَ مفعوليه لا يكون جملةً، ولا مُخبرًا به عن الأوَّل، و(سمعت) بخلاف ذلك، ولا جائزٌ أن يكون من باب (ظننت)؛ لصحَّة قولك: سمعت كلام زيدٍ، فتعدِّيه إلى واحدٍ، ولا ثالث للبابين، وقد بطلا، فتعيَّن القول الأوَّل، وأُجيب: بأنَّ أفعال التَّصيير ليست من البابين، وقد أُلحِقت بهما، وأيضًا من أثبت ما ليس من البابين مثبِتٌ لما لا مانع منه، فقد ألحق بعضهم بما ينصب مفعولين «ضرب» مع المَثَل؛ نحو: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا} [النحل: 75] ، وألحق بعضهم رأى الحلُميَّة؛ نحو قوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] ، وأتى بـ: «يقول» المضارع في رواية من ذكرها بعد «سمع» الماضي، إمَّا حكايةً لحال وقت السَّماع، أو لإحضار ذلك في ذهن السَّامعين تحقيقًا وتأكيدًا له، وإلَّا؛ فالأصل أن يُقال: «قال»، كما في الرِّواية الأخرى؛ ليطابق «سمعت».
(إِنَّمَا الأَعْمَالُ) البدنيَّة؛ أقوالها وأفعالها، فرضها ونفلها، قليلها وكثيرها، الصَّادرة [2] من المكلَّفين المؤمنين، صحيحةٌ أو مُجزِئةٌ (بِالنِّيَّاتِ)، قِيلَ: وقدَّره الحنفيَّة: إنَّما الأعمال كاملةٌ، والأَوَّل أَوْلى؛ لأنَّ الصِّحَّة أكثرُ لزومًا للحقيقة من الكمال، فالحمل عليها أَوْلَى؛ لأنَّ ما كان ألزم للشَّيء؛ كان أقرب خطورًا بالبال عند إطلاق اللَّفظ، وهذا يوهم أنَّهم لا يشترطون النِّيَّة في العبادات، وليس كذلك، فإنَّ الخلاف ليس إلَّا في الوسائل، أمَّا المقاصد؛ فلا اختلاف في اشتراط النِّيَّة فيها، ومن ثمَّ لم يشترطوها في الوضوء؛ لأنَّه مقصودٌ لغيره لا لذاته، فكيفما حصل؛ حصل المقصود، وصار كستر العورة وباقي شروط الصَّلاة التي لا تفتقر إلى نيَّةٍ، وإنمَّا احتيج في الحديث إلى التَّقدير؛ لأنَّه لابدَّ للجارِّ من متعلِّق محذوفٍ هنا، هو الخبر في الحقيقة على الأصحِّ، فينبغي أن يجعل المقدَّر أوَّلًا في ضمن الخبر، فيُستغنَى عن إضمار شيءٍ في الأوَّل؛ لئلَّا يصير في الكلام حذفان: حذف المبتدأ أوَّلًا، وحذف الخبر ثانيًا، وتقديره: إنَّما صحَّة الأعمال كائنةٌ بالنِّيَّات، لكن قال البرماويُّ: يعارضه أنَّ الخبر يصير كونًا خاصًّا، وإذا قدَّرنا إنَّما صحة الأعمال كائنةٌ بالنيَّات؛ كان كونًا مطلقًا، وحذف الكون المُطلَق أكثر من الكون الخاصِّ، بل يمتنع إذا لم يدلَّ عليه دليلٌ، وحذف المضاف كثيرٌ أيضًا، فارتكاب حذفين بكثرةٍ وقياسٍ أَوْلَى من حذف واحدٍ بقلَّةٍ وشذوذٍ، وهو الوجه المرضيُّ، ويشهد لذلك: ما قرَّروه في حذف خبر المبتدأ بعد «لولا» في الكون العامِّ والخاصِّ، ومنهم من جعل المقدَّر «القَبول»؛ أي: إنَّما قَبول الأعمال، لكن تردَّد في أنَّ القَبول ينفكُّ عن الصِّحَّة أم لا؟ فعلى الأوَّل: هو كتقدير الكمال، وعلى الثَّاني: كتقدير الصِّحَّة، ومنهم من قال: لا حاجة إلى إضمار محذوفٍ من الصِّحَّة أو الكمال أو نحوهما؛ إذ الإضمار خلاف الأصل، وإنَّما المراد حقيقة العمل الشَّرعيِّ، فلا يحتاج حينئذٍ إلى إضمارٍ.
و«النِّيَّات» بتشديد الياء: جمع نيَّةٍ؛ من نَوَى ينوِي، من باب ضرَب يضرِب؛ وهي لغةً: القصد، وقِيلَ: هي من النَّوى؛ بمعنى: البُعْد، فكأنّ النَّاوي للشَّيء يطلب بقصده وعزمه ما لم يصل إليه بجوارحه وحركاته الظَّاهرة؛ لبُعْده عنه، فجُعِلَت النِّيَّة وسيلةً إلى بلوغه، وشرعًا: قصد الشَّيء مقترنًا بفعله، فإن تراخى عنه؛ كان عزمًا، أو يُقال: قصد الفعل ابتغاء وجه الله تعالى وامتثالًا لأمره، وهي هنا محمولةٌ على معناها اللُّغويِّ؛ ليطابق ما بعده من التَّقسيم، والتَّقييد بالمكلَّفين المؤمنين يخرِج أعمال الكفَّار؛ لأنَّ المراد بالأعمال أعمال العبادة، وهي لا تصحُّ من الكافر، وإن كان مُخاطَبًا بها مُعاقَبًا على تركها، وجُمِعَت النِّيَّة في هذه الرِّواية باعتبار تنوُّعها؛ لأنَّ [/ج1ص52/] المصدر لا يجمع إلَّا باعتبار تنوُّعه، أو باعتبار مقاصد النَّاوي؛ كقصده تعالى، أو تحصيل موعوده، أو اتِّقاء وعيده. وليس المراد نفي ذات العمل؛ لأنَّه حاصلٌ بغير نيَّةٍ، وإنَّما المراد: نفي صحَّته أو كماله على اختلاف التَّقديرين، وفي معظم الرِّوايات: «النية» [خ¦54] بالإفراد على الأصل؛ لاتِّحاد محلِّها وهو القلب، كما أنَّ مرجعُها واحدٌ، وهو الإخلاص للواحد الذي لا شريك له، فناسب إفرادها، بخلاف الأعمال؛ فإنَّها متعلِّقةٌ بالظَّواهر، وهي متعدِّدَةٌ، فناسب جمعها، وفي «صحيح ابن حبَّان»: «الأعمال بالنِّيَّات»؛ بحذف «إنَّما»، وجمع «الأعمال والنِّيَّات»، وفي كتاب «الإيمان» من «صحيح البخاري» من رواية مالكٍ عن يحيى: «الأعمال بالنِّيَّة» [خ¦54] ، وفيه أيضًا في «النِّكاح»: «العمل بالنِّيَّة» [خ¦5070] بالإفراد فيهما، والتَّركيب في كلِّها يفيد الحصر باتِّفاق المحقِّقين؛ لأنَّ «الأعمال» جمعٌ محلًّى بالألف واللَّام مفيدٌ للاستغراق، وهو مستلزمٌ للحصر؛ لأنَّه من حصر المبتدأ في الخبر، ويعبِّر عنه البيانيُّون بقصر الموصوف على الصِّفة، وربَّما قِيلَ: قصر المُسنَد إليه على المُسنَد، والمعنى: كلُّ عملٍ بنيَّةٍ، فلا عمل إلَّا بنيَّةٍ.
واختُلِف في: «إنَّما»، هل تفيد الحصر أم لا؟ فقال الشَّيخ أبو إسحاق الشِّيرازيُّ والغزاليُّ والكيا الهراسيُّ والإمام فخر الدِّين: تفيد الحصر المشتمل على نفي الحكم عن غير المذكور؛ نحو: إنَّما قائمٌ زيدٌ؛ أي: لا عمرٌو، أو نفي غير الحكم عن المذكور؛ نحو: إنَّما زيدٌ قائمٌ؛ أي: لا قاعدٌ. وهل تفيده بالمنطوق أو بالمفهوم؟ قال البرماويُّ في «شرح ألفيَّته»: الصَّحيح أنَّه بالمنطوق؛ لأنَّه لو قال: ما له عليَّ إلَّا دينارٌ؛ كان إقرارًا بالدِّينار، ولو كان مفهومًا؛ لم يكن مقرًّا؛ لعدم اعتبار المفهوم بالأقارير انتهى. وممَّن صرَّح بأنَّه منطوقٌ أبو الحسين بن القطَّان، والشَّيخ أبو إسحاق الشِّيرازيُّ، والغزاليُّ، بل نقله البلقينيُّ عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلَّا اليسير، كالآمديِّ، قال في «اللَّامع» [3] : وقِيلَ: الحصر من عموم المبتدأ باللَّام وخصوص خبره، على حدِّ: صديقي زيدٌ؛ لعموم المضاف إلى المُفرَد وخصوص خبره، ففي الرِّواية الأخرى كما سبق بدون «إنَّما»، فالتَّقدير: كلُّ الأعمال بالنِّيَّات؛ إذ لو كان عملٌ بلا نيَّةٍ؛ لم تصدق هذه الكليَّة، وأصل إنَّما: إنَّ التَّوكيديَّة، دخلت عليها «ما» الكافَّة، وهي حرفٌ زائدٌ، خلافًا لمن زعم أنَّها «ما» النَّافية، ولا يرد على دعوى الحصر نحو: صوم رمضان بنيَّة قضاءٍ أو نذرٍ؛ حيث لم يقع له ما نوى؛ لعدم قابليَّة المحلِّ، والصَّرورة في الحجِّ ينويه للمستأجر، فلا يقع إلَّا للنَّاوي؛ لأنَّ نفس الحجِّ وقع، ولو كان لغير المنويِّ له. والفرق بينه وبين نيَّة القضاء أو النَّذر في رمضان حيث لا يصحُّ أصلًا؛ لأنَّ التَّعيين ليس بشرطٍ في الحجِّ، فيُحْرِم مُطلَقًا ثمَّ يصرفه إلى ما شاء؛ ولذا [4] : لو أحرم بنفله وعليه فرضٌ؛ انصرف للفرض لشدَّة اللُّزوم، فإذا لم يقبل ما أحرم به؛ انصرف إلى القابل. نعم؛ لو أحرم بالحجِّ قبل وقته انعقد عمرةً على الرَّاجح؛ لانصرافه إلى ما يقبل، وهذا بخلاف ما لو أحرم بالصَّلاة قبل وقتها عالمًا [5] ؛ لا تنعقد، وأمَّا إزالة النَّجاسة حيث لا تفتقر إلى نيَّةٍ؛ فلأنَّها من قبيل التَّروك [6] . نعم؛ تفتقر لحصول الثَّواب، كتارك الزِّنا إنَّما يُثاب بقصد أنَّه تركه امتثالًا للشَّرع، وكذلك نحو القراءة والأذان والذِّكر، لا يحتاج إلى نيَّةٍ لصراحتها، إلَّا لغرض الإثابة، وخروج هذا ونحوه عن اعتبار النِّيَّة فيها إمَّا بدليلٍ آخر، فهو من باب تخصيص العموم، أو لاستحالة دخولها؛ كالنِّيَّة ومعرفة الله تعالى، فإنَّ النِّيَّة فيهما مُحالٌ، أمَّا النِّيَّة؛ فلأنَّها لو توقَّفت على نيَّةٍ أخرى؛ لتوقَّفت الأخرى على أخرى، ولزم التَّسلسل أو الدَّور، وهما مُحالان، وأمَّا معرفة الله تعالى؛ فلأنَّها لو توقَّفت على النِّيَّة مع أنَّ النِّيَّة قصد المنويِّ بالقلب؛ لزم أن يكون عارفًا بالله تعالى قبل معرفته، وهو مُحالٌ.
و«الأعمال»: جمع عملٍ، وهو حركة البدن بكلِّه أو بعضه، وربَّما أُطلِقَ على حركة النَّفس، فعلى هذا يُقال: العمل: إحداث أمرٍ، قولًا كان أو فعلًا، بالجارحة أو بالقلب، لكن الأسبق إلى الفهم الاختصاص بفعل الجارحة، لا نحو النِّيَّة، قاله ابن دقيقٍ العيد، قال: ورأيت بعض المتأخِّرين من أهل الخلاف خصَّه بما لا يكون قولًا، قال: وفيه نظرٌ، ولو خُصِّص بذلك لفظ الفعل؛ لكان أقرب، من حيث استعمالهما متقابلين، فيُقال: الأقوال والأفعال، ولا تردُّد عندي في أنَّ الحديث يتناول الأقوال أيضًا ا ه، وتعقَّبه صاحب «جمع العدَّة»: بأنَّه إن أراد بقوله: ولا [/ج1ص53/] تردَّد عندي في أنَّ الحديث يتناول الأقوال أيضًا، باعتبار افتقارها إلى النِّيَّة، بناءً على أنَّ المراد إنَّما صحَّة الأعمال؛ فممنوعٌ، بل الأذان والقراءة ونحوهما تتأدَّى بلا نِيَّةٍ. وإن أراد باعتبار أنَّه يُثاب على ما ينوي منها ويكون كاملًا؛ فمُسلَّمٌ، لكنَّه مُخالِفٌ لما رجحه من تقدير الصِّحَّة.
فإن قلت: لِمَ عدل عن لفظ الأفعال إلى الأعمال؟ أجاب الخُوَيِّيُّ [7] : بأنَّ الفعل هو الذي يكون زمانه يسيرًا ولم يتكرَّر؛ قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] ، {وَتَبَيَّنَ لَكُم كَيفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم: 45] حيث كان إهلاكهم في زمانٍ يسيرٍ، ولم يتكرَّر، بخلاف العمل؛ فإنَّه الذي يوجد من الفاعل في زمان مديدٍ، بالاستمرار والتَّكرار، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 25] طلب منهم العمل الذي يدوم ويستمرُّ، ويتجدَّد كلَّ مرَّةٍ ويتكرَّر، لا نفس الفعل؛ قال تعالى: {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] ، ولم يقل: فليفعل الفاعلون، فالعمل أخصُّ، ومن ثمَّ قال: «الأعمال»، ولم يقل: الأفعال؛ لأنَّ ما يندر من الإنسان لا يكون بنيَّةٍ، لأنَّ كلَّ عملٍ تصحبه نيَّةٌ، وأمَّا العمل؛ فهو ما يدوم عليه الإنسان ويتكرَّر منه، فتعتبر النِّيَّة ا ه. فليُتأمَّل، و«الباء» في«بالنِّيَّات» تحتمل المصاحبة والسَّببيَّة؛ أي: الأعمال ثابتٌ ثوابها بسبب النِّيَّات، ويظهر أثر ذلك في أنَّ النِّيَّة شرطٌ أو ركنٌ، والأشبه عند الغزاليِّ أنَّها شرطٌ؛ لأنَّ النِّيَّة في الصَّلاة مَثَلًا تتعلَّق بها، فتكون خارجةً عنها، وإلَّا؛ لكانت متعلِّقةً بنفسها، ولافتقرت إلى نيَّةٍ أخرى، والأظهر عند الأكثرين: أنَّها من الأركان، والسَّببيَّة صادقةٌ مع الشَّرطيَّة، وهو واضحٌ؛ لتوقُّف المشروط على الشَّرط، ومع الرُّكنيَّة؛ لأنَّ بترك جزءٍ من الماهيَّة تنتفي الماهيَّة، والحقُّ: أنَّ إيجادها ذكرًا في أوَّله ركنٌ، واستصحابها حكمًا بأن تعرى عن المنافي شرطٌ؛ كإسلام النَّاوي وتمييزه وعلمه بالمنويِّ، وحكمها: الوجوب، ومحلُّها: القلب، فلا يكفي النُّطق مع الغفلة. نعم؛ يُستَحبُّ النُّطق بها؛ ليساعد اللِّسانُ القلبَ، ولئن سلَّمنا أنَّه لم يُرْوَ عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحدٍ من أصحابه [8] النُّطق بها؛ لكنَّا نجزم بأنَّه عليه الصلاة والسلام نطق بها؛ لأنَّه لا شكَّ أنَّ الوضوء المنويَّ مع النُّطق به أفضلُ، والعلم الضَّروري حاصلٌ بأنَّ أفضل الخلق لم يواظب على ترك الأفضل طول عمره، فثبت أنَّه أتى بالوضوء المنويِّ مع النُّطق، ولم يثبت عندنا أنَّه أتى بالوضوء العاري عنه، والشَّكُّ لا يعارض اليقين، فثبت أنَّه أتى بالوضوء المنويِّ مع النُّطق، والمقصود بها: تمييز العبادة عن العادة، أو تمييز رتبها، ووقتها: أوَّل الفرض؛ كأوَّل غسل جزءٍ من الوجه في الوضوء، فلو نوى في أثناء غسل الوجه؛ كَفَتْ، ووجب إعادة المغسول منه قبلها، وإنَّما لم يوجبوا المقارنة في الصَّوم؛ لعسر مراقبة الفجر. وشرط النِّيَّة: الجزم؛ فلو توضَّأ الشَّاكُّ بعد وضوئه في الحدث احتياطًا فبان محدثًا؛ لم يجزه؛ للتَّردُّد في النِّيَّة بلا ضرورةٍ، بخلاف ما إذا لم يَبِنْ محدثًا؛ فإنَّه يجزيه للضَّرورة، وإنَّما صحَّ وضوء الشَّاكِّ في طهره بعد تيقُّن حدثه مع التَّردُّد؛ لأنَّ الأصل بقاء الحدث، بل لو نوى في هذه إن كان محدثًا؛ فعن حدثه، وإلَّا؛ فتجديدٌ؛ صحَّ أيضًا، وإن تذكَّر. نقله النَّوويُّ في «شرح المهذَّب» عن البغوي، وأقرَّه.
(وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ) _بكسر الرَّاء_ لكلِّ رجلٍ (مَا نَوَى)؛ أي: الذي نواه أو نيَّته، وكذا لكلِّ امرأةٍ ما نوت؛ لأنَّ النَّساء شقائق الرِّجال، وفي «القاموس»: والمرء: مثلَّثةُ [9] الميم: الإنسان أو الرَّجل، وعلى القول: بأنَّ «إنَّما» للحصر، فهو هنا من حصر الخبر في المبتدأ، ويُقال: قصر الصِّفة على الموصوف؛ لأنَّ المقصور عليه في «إنَّما» دائمًا المؤخَّرُ، ورتَّبوا هذه على السَّابقة بتقديم الخبر، وهو يفيد الحصر كما تقرَّر [10] ، واستُشكِل: الإتيان بهذه الجملة بعد السَّابقة لاتِّحاد الجملتين، فقِيلَ: تقديره: وإنَّما لكلِّ امرئٍ ثوابُ ما نوى، فتكون الأولى قد نبَّهت على أنَّ الأعمال لا تصير مُعتَبرةً إلَّا بنيَّةٍ، والثَّانية: على أنَّ العامل يكون له ثواب العمل على مقدار نيَّته، ولهذا أخِّرَت عن الأولى لترتُّبها عليها، وتُعقِّب: بأنَّ الأعمال حاصلةٌ بثوابها للعامل لا لغيره، فهي عين معنى الجملة الأولى [11] ، وقال ابن عبد السَّلام: معنى الثَّانية: حصر ثواب الإجزاء [12] المرتَّب على العمل لعامله، ومعنى الأولى: صحَّة الحكم وإجزاؤه، ولا يلزم منه ثوابٌ، فقد يصحُّ العمل، ولا ثواب عليه؛ كالصَّلاة في المغصوب ونحوه على أرجح المذاهب، وعُورِض: بأنَّه [/ج1ص54/] يقتضي أنَّ العمل له نيَّتان: نيَّةٌ بها يصحُّ في الدُّنيا ويحصل الاكتفاء به، ونيَّةٌ بها يحصل الثَّواب في الآخرة، إلَّا أن يقدِّر في ذلك وصف النِّيَّة: إن لم يحصل؛ صحَّ ولا ثواب، وإن حصل؛ صحَّ وحصل الثَّواب، فيزول الإشكال، وقِيلَ: إنَّ الثَّانية تفيد اشتراط تعيين المنويِّ، فلا يكفي في الصَّلاة نيَّتُها من غير تعيينٍ، بل لابدَّ من تمييزها [13] بالظُّهر أو العصر مثلًا، وقِيلَ: إنَّها تفيد منع الاستنابة في النِّيَّة؛ لأنَّ الجملة الأولى لا تقتضي منعها، بخلاف الثَّانية، وتُعقِّب: بنحو نيَّة وليِّ الصبيِّ في الحجِّ، فإنَّها صحيحةٌ، وكحجِّ الإنسان عن غيره، وكالتَّوكيل في تفرقة الزَّكاة، وأُجِيب: بأنَّ ذلك واقعٌ على خلاف الأصل في الوضع [14] ، وذهب القرطبيُّ إلى أنَّ الجملة اللَّاحقة مؤكِّدةٌ للسَّابقة، فيكون ذكر الحكم بالأولى، وأكَّده بالثَّانية؛ تنبيهًا على سرِّ الإخلاص، وتحذيرًا من الرِّياء المانع من الإخلاص، وقد عُلِمَ أنَّ الطَّاعات في أصل صحَّتها وتضاعفها مرتبطةٌ بالنِّيَّات، وبها تُرفَع إلى خالق البريَّات.
(فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا) جملةٌ في موضع [15] جرٍّ صفةٌ لـ: «دنيا»؛ أي: يحصِّلها نيَّةً وقصدًا (أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ) ولأبي ذرٍّ ((أو امرأةٍ)) (يَنْكِحُهَا)؛ أي: يتزوَّجها، كما في الرِّواية الأخرى؛ (فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) من الدُّنيا والمرأة، والجملة جواب الشَّرط في قوله: «فمَنْ»، قال ابن دقيقٍ العيد: في قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله»؛ أي: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نيَّةً وقصدًا؛ فهجرته إلى الله ورسوله حكمًا وشرعًا، ونحو هذا في التَّقدير قوله: «فمن كانت هجرته إلى دنيا....» إلى آخره؛ لئلَّا يتَّحد الشَّرط والجزاء، ولابدَّ من تغايرهما، فلا يُقال: من أطاع الله؛ أطاع الله، وإنَّما يقال: من أطاع الله؛ نجا، وهنا وقع الاتِّحاد، فاحتيج إلى التَّقدير المذكور، وعُورِض: بأنَّه ضعيفٌ من جهة العربية؛ لأنَّ الحال المبيِّنة لا تُحذَف بلا دليلٍ، ومن ثمَّ منع بعضهم تعلُّق الباء في «بسم الله» بحالٍ محذوفةٍ؛ أي: أبتدئ متبرِّكًا، قال: لأنَّ حذف الحال لا يجوز، وأجاب البدر الدَّمامينيُّ منتصرًا لابن دقيقٍ العيد: بأنَّ ظاهرَ نصوصهم جوازُ الحذف، قال: ويؤيِّده أنَّ الحال خبرٌ في المعنى أو صفةٌ، وكلاهما يسوغ حذفه لا لدليلٍ [16] ، فلا مانع في الحال أن تكون كذلك. ا ه، وقِيلَ: لأنَّ التَّغاير يقع تارةً باللَّفظ، وهو الأكثر، وتارةً بالمعنى، ويُفهَم ذلك من السِّياق؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا} [الفرقان: 71] ؛ أي: مرضيًّا عند الله، ماحيًا للعقاب، محصِّلًا للثَّواب، فهو مؤوَّلٌ على إرادة المعهود المستقرِّ في النَّفس؛ كقولهم: أنت أنت؛ أي: الصَّديق، وقوله: [من الرَّجز]
أنا أبو النَّجم وشعري شعري
وقال بعضهم: إذا اتَّحد لفظ المبتدأ والخبر أو الشَّرط والجزاء؛ عُلِمَ منهما المبالغة، إمَّا في التَّعظيم؛ كقوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله»، وإمَّا في التَّحقير؛ كقوله: «فمن كانت هجرته إلى دنيا...» إلى آخره، وقِيلَ: الخبر في الثَّاني محذوفٌ، والتَّقدير: فهجرتُه _إلى ما هاجر إليه من الدُّنيا والمرأة_ قبيحةٌ غير صحيحةٍ، أو غير مقبولةٍ، ولا نصيب له في الآخرة، وتُعقِّب: بأنَّه يقتضي أن تكون الهجرة مذمومةً مُطلَقًا، وليس كذلك؛ فإنَّ من ينوي بهجرته مفارقة دار الكفر وتزويج المرأة معًا؛ لا تكون قبيحةً ولا غير صحيحةٍ، بل ناقصةً بالنِّسبة إلى من كانت هجرته خالصة، وإنَّما أشعرَ السِّياق بذمِّ من فعل ذلك بالنِّسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة، فأمَّا من طلبها مضمومةً إلى الهجرة؛ فإنَّه يُثَاب على قصده الهجرةَ، لكن دون ثواب مَنْ أخلص، وقد اشتُهِر أنَّ سبب هذا الحديث قصَّة مهاجر أمِّ قيسٍ المرويَّة [17] في «المعجم الكبير» للطَّبراني بإسنادٍ رجالُه ثقاتٌ من رواية الأعمش، ولفظه عن أبي وائلٍ عن ابن مسعودٍ قال: كان فينا رجلٌ خطب امرأةً يُقال لها: أمُّ قيسٍ، فأبت أن تتزوَّجه حتَّى يهاجرَ، فهاجر فتزوَّجها، قال: فكنَّا نسمِّيه مهاجر أمِّ قيسٍ، ولم يقف ابن رجب على من خرَّجه، فقال في شرحه «الأربعين» للنَّووي: وقد ذكر ذلك كثيرٌ من المتأخِّرين في كتبهم، ولم نَرَ له أصلًا بإسنادٍ يصحُّ. وذكر أبو الخطَّاب ابن دحية: أنَّ اسم المرأة قَيْلَة، وأمَّا الرَّجل فلم يسمِّه أحدٌ ممَّن صنَّف في الصَّحابة فيما رأيته، وهذا السَّبب، وإن كان خاصَّ المورد، لكن العبرة بعموم اللَّفظ، والتَّنصيص على المرأة من باب التَّنصيص على الخاصِّ [/ج1ص55/] بعد العامِّ للاهتمام؛ نحو: الملائكة وجبريل، وعُورِض: بأنَّ لفظ دنيا نكرةٌ، وهي لا تعمُّ في الإثبات، فلا يلزم دخول المرأة فيها، وأُجِيب: بأنَّها إذا كانت في سياق الشَّرط تعمُّ، ونكتة الاهتمام: الزِّيادة في التَّحذير؛ لأنَّ الافتتان بها أشدُّ، وإنَّما وقع الذَّمُّ هنا على مباحٍ، ولا ذمَّ فيه ولا مدحٌ؛ لكون فاعله أَبْطَنَ خلاف ما أظهر؛ إذ خروجه في الظَّاهر ليس لطلب الدُّنيا؛ لأنَّه إنَّما خرج في صورة طلب فضيلة الهجرة، و«الهجرة» بكسر الهاء: التَّرك، والمراد هنا: مَنْ هاجر من مكَّة إلى المدينة قَبْل فتح مكَّة، فلا هجرة بعد الفتح، «لكن جهادٌ ونيَّةٌ»، كما قال عليه الصلاة والسلام، نعم؛ حكمها من دار الكفر إلى دار الإسلام مستمرٌّ، وفي الحقيقة هي: مفارقة ما يكرهه الله تعالى إلى ما يحبُّه، وفي الحديث: «والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، و«دُنيا»؛ بضمِّ الدَّال مقصورةٌ غير منوَّنةٍ للتَّأنيث والعلميَّة، وقد تُكسَر وتُنوَّن، وحُكِيَ عن الكُشْمِيهَنِيِّ فأُنكِر عليه، وأنَّه لا يعرف في اللُّغة التَّنوين، ولم يكن الكُشْمِيهَنِيُّ ممَّن يُرجَع إليه في ذلك [18] ا ه. والصَّحيح جوازه، قال في «القاموس»: والدُّنيا نقيض الآخرة، وقد تُنوَّن، وجمعها دُنَى ا ه، واستدلُّوا له بقوله: [من البسيط]
~ إنِّي مقسِّمٌ ما ملكت فجاعلٌ أجرًا [19] لآخرتي ودنيا تنفع
فإنَّ ابن الأعرابيِّ أنشده منوَّنًا، وليس بضرورةٍ كما لا يخفى، و«الدُّنيا»: «فُعْلَى» من الدُّنوِّ؛ وهو القرب، سمِّيت بذلك؛ لسبقها للأخرى، وهي ما على الأرض من الجوِّ والهواء، أو هي كلُّ المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدَّار الآخرة، أو لدنوِّها من الزَّوال، ووقع في رواية الحُمَيْدِيِّ هذه حذف أحد وجهي التَّقسيم؛ وهو قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله» إلى آخره. وقد ذكره البخاريُّ من غير طريق الحُمَيْدِيِّ، فقال ابن العربيِّ: لا عذر للبخاريِّ في إسقاطه؛ لأنَّ الحُمَيْدِيَّ رواه في «مُسنَده» على التَّمام، قال: وقد ذكر قومٌ أنَّه لعلَّه استملاه من حفظ الحُمَيْدِيِّ، فحدَّثه هكذا، فحدَّث عنه كما سمع، أو حدَّثه به تامًّا، فسقط من حفظ البخاريِّ، قال: وهو أمرٌ مُستبعَد جدًّا عند من اطَّلع على أحوال القوم، وجاء من طريق بشر بن موسى، وصحيح أبي عوانة، ومُستخرَجي أبي نعيمٍ على الصَّحيحين من طريق الحُمَيْدِيِّ تامًّا، ولعلَّ المؤلِّف إنَّما اختار الابتداء بهذا السِّياق النَّاقص ميلًا إلى جواز الاختصار من الحديث، ولو من أثنائه، كما هو الرَّاجح، وقِيلَ غير ذلك.
وهذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال أبو داود: يكفي الإنسان لدينه أربعة أحاديث: «الأعمال بالنِّيَّة [20] »، و«من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» و«لا يكون المؤمن مؤمنًا حتَّى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه»، و«الحلال بيِّن والحرام بيِّن»، وذكر غيرُه غيرَها. وقال الشَّافعيُّ وأحمد: إنَّه [21] يدخل فيه ثلث العلم، قال البيهقيُّ: إذ كَسْبُ العبد إمَّا بقلبه أو بلسانه أو ببقيَّة جوارحه، وعن الشَّافعيِّ أيضًا: أنَّه يدخل فيه نصف العلم، ووُجِّه: بأنَّ للدِّين ظاهرًا وباطنًا، والنِّيَّة متعلِّقةٌ بالباطن، والعمل هو الظَّاهر، وأيضًا فالنِّيَّة عبوديَّةُ القلب، والعمل عبوديَّة الجوارح، وقد زعم بعضهم: أنَّه متواترٌ، وليس كذلك؛ لأنَّ الصَّحيح أنَّه لم يروِه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا عمر رضي الله عنه، ولم يروِه عن عمر إلَّا علقمة، ولم يروِه عن علقمة إلَّا محمَّد بن إبراهيم، ولم يروِه عن محمَّد بن إبراهيم إلَّا يحيى بن سعيد الأنصاريُّ، وعنه انتشر، فقِيلَ: رواه عنه أكثر من مئتي راوٍ، وقِيلَ: سبع مئةٍ، من أعيانهم: مالكٌ والثَّوريُّ والأوزاعيُّ وابن المبارك واللَّيث بن سعدٍ وحمَّاد بن زيدٍ وسعيدٌ وابن عيينة، وقد ثبت عن أبي إسماعيل [22] الهرويِّ، الملقَّب بشيخ الإسلام أنَّه كتبه عن سبعمئة رجلٍ أيضًا من [23] أصحاب يحيى بن سعيدٍ، فهو مشهورٌ بالنِّسبة إلى آخره، غريبٌ بالنِّسبة إلى أوَّله. نعم؛ المشهور مُلحَقٌ بالمتواتر عند أهل الحديث، غير أنَّه يفيد العلم النَّظريَّ، إذا كانت طرقه متباينةً سالمةً من ضعف الرُّواة ومن التَّعليل. والمتواتر يفيد العلم الضَّروريَّ، ولا يُشترَط فيه عدالة ناقله، وبذلك افترقا. وقد تُوبِع علقمة والتَّيميُّ ويحيى بن سعيدٍ على روايتهم.
قال ابن منده: هذا الحديث رواه عن عمر غير علقمة: ابنه عبد الله وجابر وأبو جحيفة وعبد الله بن عامر بن ربيعة وذو الكلاع وعطاء بن يسار وناشرة بن سُمَيٍّ وواصل بن عمرو الجذاميُّ ومحمَّد بن المنكدر، [/ج1ص56/] ورواه عن علقمة غير التَّيميِّ سعيد بن المسيِّب ونافعٌ مولى ابن عمر، وتابع يحيى بن سعيدٍ على روايته عن التَّيميِّ محمَّدِ بن [إبراهيم] محمَّدُ بن علقمة أبو الحسن اللَّيثيُّ وداود بن أبي الفرات ومحمَّد بن إسحاق بن يسار وحجَّاج بن أرطأة وعبد ربِّه بن قيس الأنصاريُّ. ورواة إسناده هنا ما بين كوفيٍّ ومدنيٍّ، وفيه تابعيٌّ عن تابعيٍّ يحيى ومحمَّدٍ التَّيميِّ، أو ثلاثةٌ إن قلنا: إنَّ علقمة تابعيٌّ، وهو قول الجمهور. وصحابيٌّ عن صحابيٍّ إن قلنا: إنَّ علقمة صحابيٌّ. وفيه الرِّواية بالتَّحديث والإخبار والسَّماع والعنعنة. وأخرجه المؤلِّف في «الإيمان» [خ¦54] ، و«العتق» [خ¦2529] ، و«الهجرة» [خ¦3898] ، و«النِّكاح» [خ¦5070] ، و«الأيمان والنُّذور» [خ¦6689] ، و«ترك الحيل» [خ¦6953] ، ومسلمٌ والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ وابن ماجه وأحمد والدَّارقطنيُّ وابن حبَّان والبيهقيُّ، ولم يخرجه مالكٌ في «موطَّئه»، وبقيَّة مباحثه تأتي _إن شاء الله تعالى_ في محالِّها.
وقد رواه من الصَّحابة غير عمر، قِيلَ: نحو عشرين صحابيًّا، فذكره الحافظ أبو يَعلى القزوينيُّ في كتابه «الإرشاد» من رواية مالكٍ عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيدٍ الخدريِّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «الأعمال بالنِّيَّة [24] »، ثمَّ قال: هذا حديثٌ غير محفوظٍ عن زيد بن أسلم بوجهٍ، فهذا ما أخطأ فيه الثِّقة. ورواه الدَّارقطنيُّ في أحاديث مالكٍ التي ليست في «الموطَّأ»، وقال: تفرَّد به عبد المجيد عن مالكٍ، ولا نعلم من حدَّث به عن عبد المجيد غير نوح بن حبيبٍ وإبراهيم بن محمَّدٍ العتقيِّ [25] ، وقال ابن منده في جمعه لطرق هذا الحديث: رواه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم غير عمر: سعد بن أبي وقَّاصٍ، وعليُّ بن أبي طالبٍ، وأبو سعيدٍ الخدريُّ، وعبد الله بن مسعودٍ، وأنسٌ، وابن عبَّاسٍ، ومعاوية، وأبو هريرة، وعبادة بن الصَّامت، وعتبة بن عبد السّلميُّ، وهلال بن سويدٍ، وعقبة بن عامرٍ، وجابر بن عبد الله، وأبو ذَرٍّ، وعتبة بن النُّدَّر [26] ، وعقبة بن مسلمٍ، وعبد الله بن عمر ا ه، وقد اتُّفق على أنَّه لا يصحُّ مُسنَدًا إلَّا من رواية عمر، إشارةً إلى أنَّ من أراد الغنيمة؛ صحَّح العزيمة، ومن أراد المواهب السَّنيَّة؛ أخلص النِّيَّة، ومن أخلص الهجرة؛ ضاعف [27] الإخلاصُ أجرَه، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، إنَّما تُنال المطالب على قدر همَّة الطَّالب، إنَّما تُدرَك المقاصد على قدر عناء [28] القاصد، على قدر هِمَّة أهل العزم تأتي العزائم.
1-. حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بنُ الزُّبَيْرِ [1] قالَ: حدَّثنا سُفْيانُ [2] ، قالَ: حدَّثنا يَحْيَىَ بنُ سَعِيدٍ الأنصاريُّ، قالَ: أخبَرَني مُحَمَّدُ بنُ إبراهيمَ التَّيْمِيُّ: أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بنَ وقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يقولُ:
سمعتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رضيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى المِنْبَرِ، قالَ [3] : سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: «إِنَّما الأعمالُ بِالنِّيَّاتِ، وإِنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَىَ، فَمَنْ كانتْ هِجْرَتُهُ إِلىَ دُنْيا يُصِيبُها، أو إلى [4] امْرأَةٍ يَنْكِحُها، فَهِجْرَتُهُ إِلىَ ما هاجَرَ إليهِ».
1- (حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ)؛ بضمِّ المُهملَة وفتح الميم؛ نسبةً إلى جدِّه الأعلى حُمَيد، أو إلى الحُمَيدات: قبيلةٌ، أو لحُمَيدٍ: بطنٌ من أسد بن عبد العزَّى، وهو من أصحاب إمامنا الشَّافعيِّ رضي الله تعالى عنه أخذ عنه ورحل معه إلى مصر، فلمَّا مات الشَّافعيُّ؛ رجع إلى مكَّة، وهو أفقه قرشيٍّ مكِّيٍّ، أخذ عنه البخاريُّ _وقِيلَ: ولذا قدَّمه_ المُتوفَّى سنة تسع عشرة ومئتين، وليس هو أبا عبد الله محمَّد بن أبي نصرٍ فتوح الحميديَّ، صاحب «الجمع بين الصَّحيحين»، ولغير أبوَي ذَرٍّ والوقت والأَصيليِّ وابن عساكر: ((حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ)) كما في «الفرع» كـ: «أصله» (قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) ابن عُيَيْنة المكِّيُّ التَّابعيُّ [1] الجليل، أحد مشايخ الشَّافعيِّ، والمشارك لإمام دار الهجرة مالكٍ في أكثر شيوخه، المُتوفَّى سنة ثمانٍ وتسعين ومئةٍ، ولأبي ذَرٍّ عن الحَمُّويي: ((عن سفيان)) (قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هو ابن قيسٍ (الأَنْصَارِيُّ) المدنيُّ التَّابعيُّ المشهور قاضي المدينة، المتوفَّى سنة ثلاثٍ وأربعين ومئةٍ، ولأبي ذَرٍّ: ((عن يحيى)) بدل قوله: «حدَّثنا يحيى» (قَالَ: أَخْبَرَنِي) _بالإفراد_ وهو _عند غير المؤلِّف كقومٍ_ لمِا قرأه بنفسه على الشَّيخ وحده (مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن الحارث (التَّيْمِيُّ)؛ نسبةً إلى تيم قريشٍ، المتوفَّى سنة عشرين ومئةٍ، (أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ) أبا واقدٍ _بالقاف_ (ابْنَ وَقَّاصٍ) بتشديد القاف (اللَّيْثِيَّ) بالمثلَّثة نسبةً إلى ليث بن بكرٍ، وذكره ابن منده في الصَّحابة، وغيره في التَّابعين، المُتوفَّى بالمدينة أيَّام عبد الملك بن مروان، (يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) ابن نُفَيلٍ _بضمِّ النُّون، وفتح الفاء_، المتوفَّى سنة ثلاثٍ وعشرين (رضي الله عنه)؛ أي: [/ج1ص51/] سمعت كلامه حال كونه (عَلَى الْمِنْبَرِ) النَّبويِّ المدنيِّ، فـ: «أل» فيه للعهد؛ وهو بكسر الميم؛ من النَّبرة: وهي الارتفاع؛ أي: سمعته حال كونه (قَالَ)، ولأبي الوقت والأَصيليِّ وابن عساكر: ((يقول)) (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: سمعت كلامه حال كونه (يَقُولُ)، فـ: «يقول»: في موضع نصبٍ حالًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ «سمعت» لا يتعدَّى إلى مفعولين، فهي حالٌ مبيِّنةٌ للمحذوف المقدَّر بكلامٍ؛ لأنَّ الذَّات لا تُسمَع، وقال الأخفش: إذا عُلِّقت «سمعت» بغير مسموعٍ كـ: «سمعت زيدًا يقول»؛ فهي متعدِّيةٌ لمفعولين، الثَّاني منهما جملة «يقول»، واختاره الفارسيُّ، وعُورِض: بأنَ (سمعت) لو كان يتعدَّى إلى مفعولين؛ لكان إمَّا من باب «أعطيت»، أو «ظننت»، ولا جائزٌ أن يكون من باب (أعطيت)؛ لأنَّ ثانيَ مفعوليه لا يكون جملةً، ولا مُخبرًا به عن الأوَّل، و(سمعت) بخلاف ذلك، ولا جائزٌ أن يكون من باب (ظننت)؛ لصحَّة قولك: سمعت كلام زيدٍ، فتعدِّيه إلى واحدٍ، ولا ثالث للبابين، وقد بطلا، فتعيَّن القول الأوَّل، وأُجيب: بأنَّ أفعال التَّصيير ليست من البابين، وقد أُلحِقت بهما، وأيضًا من أثبت ما ليس من البابين مثبِتٌ لما لا مانع منه، فقد ألحق بعضهم بما ينصب مفعولين «ضرب» مع المَثَل؛ نحو: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا} [النحل: 75] ، وألحق بعضهم رأى الحلُميَّة؛ نحو قوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] ، وأتى بـ: «يقول» المضارع في رواية من ذكرها بعد «سمع» الماضي، إمَّا حكايةً لحال وقت السَّماع، أو لإحضار ذلك في ذهن السَّامعين تحقيقًا وتأكيدًا له، وإلَّا؛ فالأصل أن يُقال: «قال»، كما في الرِّواية الأخرى؛ ليطابق «سمعت».
(إِنَّمَا الأَعْمَالُ) البدنيَّة؛ أقوالها وأفعالها، فرضها ونفلها، قليلها وكثيرها، الصَّادرة [2] من المكلَّفين المؤمنين، صحيحةٌ أو مُجزِئةٌ (بِالنِّيَّاتِ)، قِيلَ: وقدَّره الحنفيَّة: إنَّما الأعمال كاملةٌ، والأَوَّل أَوْلى؛ لأنَّ الصِّحَّة أكثرُ لزومًا للحقيقة من الكمال، فالحمل عليها أَوْلَى؛ لأنَّ ما كان ألزم للشَّيء؛ كان أقرب خطورًا بالبال عند إطلاق اللَّفظ، وهذا يوهم أنَّهم لا يشترطون النِّيَّة في العبادات، وليس كذلك، فإنَّ الخلاف ليس إلَّا في الوسائل، أمَّا المقاصد؛ فلا اختلاف في اشتراط النِّيَّة فيها، ومن ثمَّ لم يشترطوها في الوضوء؛ لأنَّه مقصودٌ لغيره لا لذاته، فكيفما حصل؛ حصل المقصود، وصار كستر العورة وباقي شروط الصَّلاة التي لا تفتقر إلى نيَّةٍ، وإنمَّا احتيج في الحديث إلى التَّقدير؛ لأنَّه لابدَّ للجارِّ من متعلِّق محذوفٍ هنا، هو الخبر في الحقيقة على الأصحِّ، فينبغي أن يجعل المقدَّر أوَّلًا في ضمن الخبر، فيُستغنَى عن إضمار شيءٍ في الأوَّل؛ لئلَّا يصير في الكلام حذفان: حذف المبتدأ أوَّلًا، وحذف الخبر ثانيًا، وتقديره: إنَّما صحَّة الأعمال كائنةٌ بالنِّيَّات، لكن قال البرماويُّ: يعارضه أنَّ الخبر يصير كونًا خاصًّا، وإذا قدَّرنا إنَّما صحة الأعمال كائنةٌ بالنيَّات؛ كان كونًا مطلقًا، وحذف الكون المُطلَق أكثر من الكون الخاصِّ، بل يمتنع إذا لم يدلَّ عليه دليلٌ، وحذف المضاف كثيرٌ أيضًا، فارتكاب حذفين بكثرةٍ وقياسٍ أَوْلَى من حذف واحدٍ بقلَّةٍ وشذوذٍ، وهو الوجه المرضيُّ، ويشهد لذلك: ما قرَّروه في حذف خبر المبتدأ بعد «لولا» في الكون العامِّ والخاصِّ، ومنهم من جعل المقدَّر «القَبول»؛ أي: إنَّما قَبول الأعمال، لكن تردَّد في أنَّ القَبول ينفكُّ عن الصِّحَّة أم لا؟ فعلى الأوَّل: هو كتقدير الكمال، وعلى الثَّاني: كتقدير الصِّحَّة، ومنهم من قال: لا حاجة إلى إضمار محذوفٍ من الصِّحَّة أو الكمال أو نحوهما؛ إذ الإضمار خلاف الأصل، وإنَّما المراد حقيقة العمل الشَّرعيِّ، فلا يحتاج حينئذٍ إلى إضمارٍ.
و«النِّيَّات» بتشديد الياء: جمع نيَّةٍ؛ من نَوَى ينوِي، من باب ضرَب يضرِب؛ وهي لغةً: القصد، وقِيلَ: هي من النَّوى؛ بمعنى: البُعْد، فكأنّ النَّاوي للشَّيء يطلب بقصده وعزمه ما لم يصل إليه بجوارحه وحركاته الظَّاهرة؛ لبُعْده عنه، فجُعِلَت النِّيَّة وسيلةً إلى بلوغه، وشرعًا: قصد الشَّيء مقترنًا بفعله، فإن تراخى عنه؛ كان عزمًا، أو يُقال: قصد الفعل ابتغاء وجه الله تعالى وامتثالًا لأمره، وهي هنا محمولةٌ على معناها اللُّغويِّ؛ ليطابق ما بعده من التَّقسيم، والتَّقييد بالمكلَّفين المؤمنين يخرِج أعمال الكفَّار؛ لأنَّ المراد بالأعمال أعمال العبادة، وهي لا تصحُّ من الكافر، وإن كان مُخاطَبًا بها مُعاقَبًا على تركها، وجُمِعَت النِّيَّة في هذه الرِّواية باعتبار تنوُّعها؛ لأنَّ [/ج1ص52/] المصدر لا يجمع إلَّا باعتبار تنوُّعه، أو باعتبار مقاصد النَّاوي؛ كقصده تعالى، أو تحصيل موعوده، أو اتِّقاء وعيده. وليس المراد نفي ذات العمل؛ لأنَّه حاصلٌ بغير نيَّةٍ، وإنَّما المراد: نفي صحَّته أو كماله على اختلاف التَّقديرين، وفي معظم الرِّوايات: «النية» [خ¦54] بالإفراد على الأصل؛ لاتِّحاد محلِّها وهو القلب، كما أنَّ مرجعُها واحدٌ، وهو الإخلاص للواحد الذي لا شريك له، فناسب إفرادها، بخلاف الأعمال؛ فإنَّها متعلِّقةٌ بالظَّواهر، وهي متعدِّدَةٌ، فناسب جمعها، وفي «صحيح ابن حبَّان»: «الأعمال بالنِّيَّات»؛ بحذف «إنَّما»، وجمع «الأعمال والنِّيَّات»، وفي كتاب «الإيمان» من «صحيح البخاري» من رواية مالكٍ عن يحيى: «الأعمال بالنِّيَّة» [خ¦54] ، وفيه أيضًا في «النِّكاح»: «العمل بالنِّيَّة» [خ¦5070] بالإفراد فيهما، والتَّركيب في كلِّها يفيد الحصر باتِّفاق المحقِّقين؛ لأنَّ «الأعمال» جمعٌ محلًّى بالألف واللَّام مفيدٌ للاستغراق، وهو مستلزمٌ للحصر؛ لأنَّه من حصر المبتدأ في الخبر، ويعبِّر عنه البيانيُّون بقصر الموصوف على الصِّفة، وربَّما قِيلَ: قصر المُسنَد إليه على المُسنَد، والمعنى: كلُّ عملٍ بنيَّةٍ، فلا عمل إلَّا بنيَّةٍ.
واختُلِف في: «إنَّما»، هل تفيد الحصر أم لا؟ فقال الشَّيخ أبو إسحاق الشِّيرازيُّ والغزاليُّ والكيا الهراسيُّ والإمام فخر الدِّين: تفيد الحصر المشتمل على نفي الحكم عن غير المذكور؛ نحو: إنَّما قائمٌ زيدٌ؛ أي: لا عمرٌو، أو نفي غير الحكم عن المذكور؛ نحو: إنَّما زيدٌ قائمٌ؛ أي: لا قاعدٌ. وهل تفيده بالمنطوق أو بالمفهوم؟ قال البرماويُّ في «شرح ألفيَّته»: الصَّحيح أنَّه بالمنطوق؛ لأنَّه لو قال: ما له عليَّ إلَّا دينارٌ؛ كان إقرارًا بالدِّينار، ولو كان مفهومًا؛ لم يكن مقرًّا؛ لعدم اعتبار المفهوم بالأقارير انتهى. وممَّن صرَّح بأنَّه منطوقٌ أبو الحسين بن القطَّان، والشَّيخ أبو إسحاق الشِّيرازيُّ، والغزاليُّ، بل نقله البلقينيُّ عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلَّا اليسير، كالآمديِّ، قال في «اللَّامع» [3] : وقِيلَ: الحصر من عموم المبتدأ باللَّام وخصوص خبره، على حدِّ: صديقي زيدٌ؛ لعموم المضاف إلى المُفرَد وخصوص خبره، ففي الرِّواية الأخرى كما سبق بدون «إنَّما»، فالتَّقدير: كلُّ الأعمال بالنِّيَّات؛ إذ لو كان عملٌ بلا نيَّةٍ؛ لم تصدق هذه الكليَّة، وأصل إنَّما: إنَّ التَّوكيديَّة، دخلت عليها «ما» الكافَّة، وهي حرفٌ زائدٌ، خلافًا لمن زعم أنَّها «ما» النَّافية، ولا يرد على دعوى الحصر نحو: صوم رمضان بنيَّة قضاءٍ أو نذرٍ؛ حيث لم يقع له ما نوى؛ لعدم قابليَّة المحلِّ، والصَّرورة في الحجِّ ينويه للمستأجر، فلا يقع إلَّا للنَّاوي؛ لأنَّ نفس الحجِّ وقع، ولو كان لغير المنويِّ له. والفرق بينه وبين نيَّة القضاء أو النَّذر في رمضان حيث لا يصحُّ أصلًا؛ لأنَّ التَّعيين ليس بشرطٍ في الحجِّ، فيُحْرِم مُطلَقًا ثمَّ يصرفه إلى ما شاء؛ ولذا [4] : لو أحرم بنفله وعليه فرضٌ؛ انصرف للفرض لشدَّة اللُّزوم، فإذا لم يقبل ما أحرم به؛ انصرف إلى القابل. نعم؛ لو أحرم بالحجِّ قبل وقته انعقد عمرةً على الرَّاجح؛ لانصرافه إلى ما يقبل، وهذا بخلاف ما لو أحرم بالصَّلاة قبل وقتها عالمًا [5] ؛ لا تنعقد، وأمَّا إزالة النَّجاسة حيث لا تفتقر إلى نيَّةٍ؛ فلأنَّها من قبيل التَّروك [6] . نعم؛ تفتقر لحصول الثَّواب، كتارك الزِّنا إنَّما يُثاب بقصد أنَّه تركه امتثالًا للشَّرع، وكذلك نحو القراءة والأذان والذِّكر، لا يحتاج إلى نيَّةٍ لصراحتها، إلَّا لغرض الإثابة، وخروج هذا ونحوه عن اعتبار النِّيَّة فيها إمَّا بدليلٍ آخر، فهو من باب تخصيص العموم، أو لاستحالة دخولها؛ كالنِّيَّة ومعرفة الله تعالى، فإنَّ النِّيَّة فيهما مُحالٌ، أمَّا النِّيَّة؛ فلأنَّها لو توقَّفت على نيَّةٍ أخرى؛ لتوقَّفت الأخرى على أخرى، ولزم التَّسلسل أو الدَّور، وهما مُحالان، وأمَّا معرفة الله تعالى؛ فلأنَّها لو توقَّفت على النِّيَّة مع أنَّ النِّيَّة قصد المنويِّ بالقلب؛ لزم أن يكون عارفًا بالله تعالى قبل معرفته، وهو مُحالٌ.
و«الأعمال»: جمع عملٍ، وهو حركة البدن بكلِّه أو بعضه، وربَّما أُطلِقَ على حركة النَّفس، فعلى هذا يُقال: العمل: إحداث أمرٍ، قولًا كان أو فعلًا، بالجارحة أو بالقلب، لكن الأسبق إلى الفهم الاختصاص بفعل الجارحة، لا نحو النِّيَّة، قاله ابن دقيقٍ العيد، قال: ورأيت بعض المتأخِّرين من أهل الخلاف خصَّه بما لا يكون قولًا، قال: وفيه نظرٌ، ولو خُصِّص بذلك لفظ الفعل؛ لكان أقرب، من حيث استعمالهما متقابلين، فيُقال: الأقوال والأفعال، ولا تردُّد عندي في أنَّ الحديث يتناول الأقوال أيضًا ا ه، وتعقَّبه صاحب «جمع العدَّة»: بأنَّه إن أراد بقوله: ولا [/ج1ص53/] تردَّد عندي في أنَّ الحديث يتناول الأقوال أيضًا، باعتبار افتقارها إلى النِّيَّة، بناءً على أنَّ المراد إنَّما صحَّة الأعمال؛ فممنوعٌ، بل الأذان والقراءة ونحوهما تتأدَّى بلا نِيَّةٍ. وإن أراد باعتبار أنَّه يُثاب على ما ينوي منها ويكون كاملًا؛ فمُسلَّمٌ، لكنَّه مُخالِفٌ لما رجحه من تقدير الصِّحَّة.
فإن قلت: لِمَ عدل عن لفظ الأفعال إلى الأعمال؟ أجاب الخُوَيِّيُّ [7] : بأنَّ الفعل هو الذي يكون زمانه يسيرًا ولم يتكرَّر؛ قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] ، {وَتَبَيَّنَ لَكُم كَيفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم: 45] حيث كان إهلاكهم في زمانٍ يسيرٍ، ولم يتكرَّر، بخلاف العمل؛ فإنَّه الذي يوجد من الفاعل في زمان مديدٍ، بالاستمرار والتَّكرار، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 25] طلب منهم العمل الذي يدوم ويستمرُّ، ويتجدَّد كلَّ مرَّةٍ ويتكرَّر، لا نفس الفعل؛ قال تعالى: {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] ، ولم يقل: فليفعل الفاعلون، فالعمل أخصُّ، ومن ثمَّ قال: «الأعمال»، ولم يقل: الأفعال؛ لأنَّ ما يندر من الإنسان لا يكون بنيَّةٍ، لأنَّ كلَّ عملٍ تصحبه نيَّةٌ، وأمَّا العمل؛ فهو ما يدوم عليه الإنسان ويتكرَّر منه، فتعتبر النِّيَّة ا ه. فليُتأمَّل، و«الباء» في«بالنِّيَّات» تحتمل المصاحبة والسَّببيَّة؛ أي: الأعمال ثابتٌ ثوابها بسبب النِّيَّات، ويظهر أثر ذلك في أنَّ النِّيَّة شرطٌ أو ركنٌ، والأشبه عند الغزاليِّ أنَّها شرطٌ؛ لأنَّ النِّيَّة في الصَّلاة مَثَلًا تتعلَّق بها، فتكون خارجةً عنها، وإلَّا؛ لكانت متعلِّقةً بنفسها، ولافتقرت إلى نيَّةٍ أخرى، والأظهر عند الأكثرين: أنَّها من الأركان، والسَّببيَّة صادقةٌ مع الشَّرطيَّة، وهو واضحٌ؛ لتوقُّف المشروط على الشَّرط، ومع الرُّكنيَّة؛ لأنَّ بترك جزءٍ من الماهيَّة تنتفي الماهيَّة، والحقُّ: أنَّ إيجادها ذكرًا في أوَّله ركنٌ، واستصحابها حكمًا بأن تعرى عن المنافي شرطٌ؛ كإسلام النَّاوي وتمييزه وعلمه بالمنويِّ، وحكمها: الوجوب، ومحلُّها: القلب، فلا يكفي النُّطق مع الغفلة. نعم؛ يُستَحبُّ النُّطق بها؛ ليساعد اللِّسانُ القلبَ، ولئن سلَّمنا أنَّه لم يُرْوَ عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحدٍ من أصحابه [8] النُّطق بها؛ لكنَّا نجزم بأنَّه عليه الصلاة والسلام نطق بها؛ لأنَّه لا شكَّ أنَّ الوضوء المنويَّ مع النُّطق به أفضلُ، والعلم الضَّروري حاصلٌ بأنَّ أفضل الخلق لم يواظب على ترك الأفضل طول عمره، فثبت أنَّه أتى بالوضوء المنويِّ مع النُّطق، ولم يثبت عندنا أنَّه أتى بالوضوء العاري عنه، والشَّكُّ لا يعارض اليقين، فثبت أنَّه أتى بالوضوء المنويِّ مع النُّطق، والمقصود بها: تمييز العبادة عن العادة، أو تمييز رتبها، ووقتها: أوَّل الفرض؛ كأوَّل غسل جزءٍ من الوجه في الوضوء، فلو نوى في أثناء غسل الوجه؛ كَفَتْ، ووجب إعادة المغسول منه قبلها، وإنَّما لم يوجبوا المقارنة في الصَّوم؛ لعسر مراقبة الفجر. وشرط النِّيَّة: الجزم؛ فلو توضَّأ الشَّاكُّ بعد وضوئه في الحدث احتياطًا فبان محدثًا؛ لم يجزه؛ للتَّردُّد في النِّيَّة بلا ضرورةٍ، بخلاف ما إذا لم يَبِنْ محدثًا؛ فإنَّه يجزيه للضَّرورة، وإنَّما صحَّ وضوء الشَّاكِّ في طهره بعد تيقُّن حدثه مع التَّردُّد؛ لأنَّ الأصل بقاء الحدث، بل لو نوى في هذه إن كان محدثًا؛ فعن حدثه، وإلَّا؛ فتجديدٌ؛ صحَّ أيضًا، وإن تذكَّر. نقله النَّوويُّ في «شرح المهذَّب» عن البغوي، وأقرَّه.
(وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ) _بكسر الرَّاء_ لكلِّ رجلٍ (مَا نَوَى)؛ أي: الذي نواه أو نيَّته، وكذا لكلِّ امرأةٍ ما نوت؛ لأنَّ النَّساء شقائق الرِّجال، وفي «القاموس»: والمرء: مثلَّثةُ [9] الميم: الإنسان أو الرَّجل، وعلى القول: بأنَّ «إنَّما» للحصر، فهو هنا من حصر الخبر في المبتدأ، ويُقال: قصر الصِّفة على الموصوف؛ لأنَّ المقصور عليه في «إنَّما» دائمًا المؤخَّرُ، ورتَّبوا هذه على السَّابقة بتقديم الخبر، وهو يفيد الحصر كما تقرَّر [10] ، واستُشكِل: الإتيان بهذه الجملة بعد السَّابقة لاتِّحاد الجملتين، فقِيلَ: تقديره: وإنَّما لكلِّ امرئٍ ثوابُ ما نوى، فتكون الأولى قد نبَّهت على أنَّ الأعمال لا تصير مُعتَبرةً إلَّا بنيَّةٍ، والثَّانية: على أنَّ العامل يكون له ثواب العمل على مقدار نيَّته، ولهذا أخِّرَت عن الأولى لترتُّبها عليها، وتُعقِّب: بأنَّ الأعمال حاصلةٌ بثوابها للعامل لا لغيره، فهي عين معنى الجملة الأولى [11] ، وقال ابن عبد السَّلام: معنى الثَّانية: حصر ثواب الإجزاء [12] المرتَّب على العمل لعامله، ومعنى الأولى: صحَّة الحكم وإجزاؤه، ولا يلزم منه ثوابٌ، فقد يصحُّ العمل، ولا ثواب عليه؛ كالصَّلاة في المغصوب ونحوه على أرجح المذاهب، وعُورِض: بأنَّه [/ج1ص54/] يقتضي أنَّ العمل له نيَّتان: نيَّةٌ بها يصحُّ في الدُّنيا ويحصل الاكتفاء به، ونيَّةٌ بها يحصل الثَّواب في الآخرة، إلَّا أن يقدِّر في ذلك وصف النِّيَّة: إن لم يحصل؛ صحَّ ولا ثواب، وإن حصل؛ صحَّ وحصل الثَّواب، فيزول الإشكال، وقِيلَ: إنَّ الثَّانية تفيد اشتراط تعيين المنويِّ، فلا يكفي في الصَّلاة نيَّتُها من غير تعيينٍ، بل لابدَّ من تمييزها [13] بالظُّهر أو العصر مثلًا، وقِيلَ: إنَّها تفيد منع الاستنابة في النِّيَّة؛ لأنَّ الجملة الأولى لا تقتضي منعها، بخلاف الثَّانية، وتُعقِّب: بنحو نيَّة وليِّ الصبيِّ في الحجِّ، فإنَّها صحيحةٌ، وكحجِّ الإنسان عن غيره، وكالتَّوكيل في تفرقة الزَّكاة، وأُجِيب: بأنَّ ذلك واقعٌ على خلاف الأصل في الوضع [14] ، وذهب القرطبيُّ إلى أنَّ الجملة اللَّاحقة مؤكِّدةٌ للسَّابقة، فيكون ذكر الحكم بالأولى، وأكَّده بالثَّانية؛ تنبيهًا على سرِّ الإخلاص، وتحذيرًا من الرِّياء المانع من الإخلاص، وقد عُلِمَ أنَّ الطَّاعات في أصل صحَّتها وتضاعفها مرتبطةٌ بالنِّيَّات، وبها تُرفَع إلى خالق البريَّات.
(فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا) جملةٌ في موضع [15] جرٍّ صفةٌ لـ: «دنيا»؛ أي: يحصِّلها نيَّةً وقصدًا (أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ) ولأبي ذرٍّ ((أو امرأةٍ)) (يَنْكِحُهَا)؛ أي: يتزوَّجها، كما في الرِّواية الأخرى؛ (فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) من الدُّنيا والمرأة، والجملة جواب الشَّرط في قوله: «فمَنْ»، قال ابن دقيقٍ العيد: في قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله»؛ أي: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نيَّةً وقصدًا؛ فهجرته إلى الله ورسوله حكمًا وشرعًا، ونحو هذا في التَّقدير قوله: «فمن كانت هجرته إلى دنيا....» إلى آخره؛ لئلَّا يتَّحد الشَّرط والجزاء، ولابدَّ من تغايرهما، فلا يُقال: من أطاع الله؛ أطاع الله، وإنَّما يقال: من أطاع الله؛ نجا، وهنا وقع الاتِّحاد، فاحتيج إلى التَّقدير المذكور، وعُورِض: بأنَّه ضعيفٌ من جهة العربية؛ لأنَّ الحال المبيِّنة لا تُحذَف بلا دليلٍ، ومن ثمَّ منع بعضهم تعلُّق الباء في «بسم الله» بحالٍ محذوفةٍ؛ أي: أبتدئ متبرِّكًا، قال: لأنَّ حذف الحال لا يجوز، وأجاب البدر الدَّمامينيُّ منتصرًا لابن دقيقٍ العيد: بأنَّ ظاهرَ نصوصهم جوازُ الحذف، قال: ويؤيِّده أنَّ الحال خبرٌ في المعنى أو صفةٌ، وكلاهما يسوغ حذفه لا لدليلٍ [16] ، فلا مانع في الحال أن تكون كذلك. ا ه، وقِيلَ: لأنَّ التَّغاير يقع تارةً باللَّفظ، وهو الأكثر، وتارةً بالمعنى، ويُفهَم ذلك من السِّياق؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا} [الفرقان: 71] ؛ أي: مرضيًّا عند الله، ماحيًا للعقاب، محصِّلًا للثَّواب، فهو مؤوَّلٌ على إرادة المعهود المستقرِّ في النَّفس؛ كقولهم: أنت أنت؛ أي: الصَّديق، وقوله: [من الرَّجز]
أنا أبو النَّجم وشعري شعري
وقال بعضهم: إذا اتَّحد لفظ المبتدأ والخبر أو الشَّرط والجزاء؛ عُلِمَ منهما المبالغة، إمَّا في التَّعظيم؛ كقوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله»، وإمَّا في التَّحقير؛ كقوله: «فمن كانت هجرته إلى دنيا...» إلى آخره، وقِيلَ: الخبر في الثَّاني محذوفٌ، والتَّقدير: فهجرتُه _إلى ما هاجر إليه من الدُّنيا والمرأة_ قبيحةٌ غير صحيحةٍ، أو غير مقبولةٍ، ولا نصيب له في الآخرة، وتُعقِّب: بأنَّه يقتضي أن تكون الهجرة مذمومةً مُطلَقًا، وليس كذلك؛ فإنَّ من ينوي بهجرته مفارقة دار الكفر وتزويج المرأة معًا؛ لا تكون قبيحةً ولا غير صحيحةٍ، بل ناقصةً بالنِّسبة إلى من كانت هجرته خالصة، وإنَّما أشعرَ السِّياق بذمِّ من فعل ذلك بالنِّسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة، فأمَّا من طلبها مضمومةً إلى الهجرة؛ فإنَّه يُثَاب على قصده الهجرةَ، لكن دون ثواب مَنْ أخلص، وقد اشتُهِر أنَّ سبب هذا الحديث قصَّة مهاجر أمِّ قيسٍ المرويَّة [17] في «المعجم الكبير» للطَّبراني بإسنادٍ رجالُه ثقاتٌ من رواية الأعمش، ولفظه عن أبي وائلٍ عن ابن مسعودٍ قال: كان فينا رجلٌ خطب امرأةً يُقال لها: أمُّ قيسٍ، فأبت أن تتزوَّجه حتَّى يهاجرَ، فهاجر فتزوَّجها، قال: فكنَّا نسمِّيه مهاجر أمِّ قيسٍ، ولم يقف ابن رجب على من خرَّجه، فقال في شرحه «الأربعين» للنَّووي: وقد ذكر ذلك كثيرٌ من المتأخِّرين في كتبهم، ولم نَرَ له أصلًا بإسنادٍ يصحُّ. وذكر أبو الخطَّاب ابن دحية: أنَّ اسم المرأة قَيْلَة، وأمَّا الرَّجل فلم يسمِّه أحدٌ ممَّن صنَّف في الصَّحابة فيما رأيته، وهذا السَّبب، وإن كان خاصَّ المورد، لكن العبرة بعموم اللَّفظ، والتَّنصيص على المرأة من باب التَّنصيص على الخاصِّ [/ج1ص55/] بعد العامِّ للاهتمام؛ نحو: الملائكة وجبريل، وعُورِض: بأنَّ لفظ دنيا نكرةٌ، وهي لا تعمُّ في الإثبات، فلا يلزم دخول المرأة فيها، وأُجِيب: بأنَّها إذا كانت في سياق الشَّرط تعمُّ، ونكتة الاهتمام: الزِّيادة في التَّحذير؛ لأنَّ الافتتان بها أشدُّ، وإنَّما وقع الذَّمُّ هنا على مباحٍ، ولا ذمَّ فيه ولا مدحٌ؛ لكون فاعله أَبْطَنَ خلاف ما أظهر؛ إذ خروجه في الظَّاهر ليس لطلب الدُّنيا؛ لأنَّه إنَّما خرج في صورة طلب فضيلة الهجرة، و«الهجرة» بكسر الهاء: التَّرك، والمراد هنا: مَنْ هاجر من مكَّة إلى المدينة قَبْل فتح مكَّة، فلا هجرة بعد الفتح، «لكن جهادٌ ونيَّةٌ»، كما قال عليه الصلاة والسلام، نعم؛ حكمها من دار الكفر إلى دار الإسلام مستمرٌّ، وفي الحقيقة هي: مفارقة ما يكرهه الله تعالى إلى ما يحبُّه، وفي الحديث: «والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، و«دُنيا»؛ بضمِّ الدَّال مقصورةٌ غير منوَّنةٍ للتَّأنيث والعلميَّة، وقد تُكسَر وتُنوَّن، وحُكِيَ عن الكُشْمِيهَنِيِّ فأُنكِر عليه، وأنَّه لا يعرف في اللُّغة التَّنوين، ولم يكن الكُشْمِيهَنِيُّ ممَّن يُرجَع إليه في ذلك [18] ا ه. والصَّحيح جوازه، قال في «القاموس»: والدُّنيا نقيض الآخرة، وقد تُنوَّن، وجمعها دُنَى ا ه، واستدلُّوا له بقوله: [من البسيط]
~ إنِّي مقسِّمٌ ما ملكت فجاعلٌ أجرًا [19] لآخرتي ودنيا تنفع
فإنَّ ابن الأعرابيِّ أنشده منوَّنًا، وليس بضرورةٍ كما لا يخفى، و«الدُّنيا»: «فُعْلَى» من الدُّنوِّ؛ وهو القرب، سمِّيت بذلك؛ لسبقها للأخرى، وهي ما على الأرض من الجوِّ والهواء، أو هي كلُّ المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدَّار الآخرة، أو لدنوِّها من الزَّوال، ووقع في رواية الحُمَيْدِيِّ هذه حذف أحد وجهي التَّقسيم؛ وهو قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله» إلى آخره. وقد ذكره البخاريُّ من غير طريق الحُمَيْدِيِّ، فقال ابن العربيِّ: لا عذر للبخاريِّ في إسقاطه؛ لأنَّ الحُمَيْدِيَّ رواه في «مُسنَده» على التَّمام، قال: وقد ذكر قومٌ أنَّه لعلَّه استملاه من حفظ الحُمَيْدِيِّ، فحدَّثه هكذا، فحدَّث عنه كما سمع، أو حدَّثه به تامًّا، فسقط من حفظ البخاريِّ، قال: وهو أمرٌ مُستبعَد جدًّا عند من اطَّلع على أحوال القوم، وجاء من طريق بشر بن موسى، وصحيح أبي عوانة، ومُستخرَجي أبي نعيمٍ على الصَّحيحين من طريق الحُمَيْدِيِّ تامًّا، ولعلَّ المؤلِّف إنَّما اختار الابتداء بهذا السِّياق النَّاقص ميلًا إلى جواز الاختصار من الحديث، ولو من أثنائه، كما هو الرَّاجح، وقِيلَ غير ذلك.
وهذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال أبو داود: يكفي الإنسان لدينه أربعة أحاديث: «الأعمال بالنِّيَّة [20] »، و«من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» و«لا يكون المؤمن مؤمنًا حتَّى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه»، و«الحلال بيِّن والحرام بيِّن»، وذكر غيرُه غيرَها. وقال الشَّافعيُّ وأحمد: إنَّه [21] يدخل فيه ثلث العلم، قال البيهقيُّ: إذ كَسْبُ العبد إمَّا بقلبه أو بلسانه أو ببقيَّة جوارحه، وعن الشَّافعيِّ أيضًا: أنَّه يدخل فيه نصف العلم، ووُجِّه: بأنَّ للدِّين ظاهرًا وباطنًا، والنِّيَّة متعلِّقةٌ بالباطن، والعمل هو الظَّاهر، وأيضًا فالنِّيَّة عبوديَّةُ القلب، والعمل عبوديَّة الجوارح، وقد زعم بعضهم: أنَّه متواترٌ، وليس كذلك؛ لأنَّ الصَّحيح أنَّه لم يروِه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا عمر رضي الله عنه، ولم يروِه عن عمر إلَّا علقمة، ولم يروِه عن علقمة إلَّا محمَّد بن إبراهيم، ولم يروِه عن محمَّد بن إبراهيم إلَّا يحيى بن سعيد الأنصاريُّ، وعنه انتشر، فقِيلَ: رواه عنه أكثر من مئتي راوٍ، وقِيلَ: سبع مئةٍ، من أعيانهم: مالكٌ والثَّوريُّ والأوزاعيُّ وابن المبارك واللَّيث بن سعدٍ وحمَّاد بن زيدٍ وسعيدٌ وابن عيينة، وقد ثبت عن أبي إسماعيل [22] الهرويِّ، الملقَّب بشيخ الإسلام أنَّه كتبه عن سبعمئة رجلٍ أيضًا من [23] أصحاب يحيى بن سعيدٍ، فهو مشهورٌ بالنِّسبة إلى آخره، غريبٌ بالنِّسبة إلى أوَّله. نعم؛ المشهور مُلحَقٌ بالمتواتر عند أهل الحديث، غير أنَّه يفيد العلم النَّظريَّ، إذا كانت طرقه متباينةً سالمةً من ضعف الرُّواة ومن التَّعليل. والمتواتر يفيد العلم الضَّروريَّ، ولا يُشترَط فيه عدالة ناقله، وبذلك افترقا. وقد تُوبِع علقمة والتَّيميُّ ويحيى بن سعيدٍ على روايتهم.
قال ابن منده: هذا الحديث رواه عن عمر غير علقمة: ابنه عبد الله وجابر وأبو جحيفة وعبد الله بن عامر بن ربيعة وذو الكلاع وعطاء بن يسار وناشرة بن سُمَيٍّ وواصل بن عمرو الجذاميُّ ومحمَّد بن المنكدر، [/ج1ص56/] ورواه عن علقمة غير التَّيميِّ سعيد بن المسيِّب ونافعٌ مولى ابن عمر، وتابع يحيى بن سعيدٍ على روايته عن التَّيميِّ محمَّدِ بن [إبراهيم] محمَّدُ بن علقمة أبو الحسن اللَّيثيُّ وداود بن أبي الفرات ومحمَّد بن إسحاق بن يسار وحجَّاج بن أرطأة وعبد ربِّه بن قيس الأنصاريُّ. ورواة إسناده هنا ما بين كوفيٍّ ومدنيٍّ، وفيه تابعيٌّ عن تابعيٍّ يحيى ومحمَّدٍ التَّيميِّ، أو ثلاثةٌ إن قلنا: إنَّ علقمة تابعيٌّ، وهو قول الجمهور. وصحابيٌّ عن صحابيٍّ إن قلنا: إنَّ علقمة صحابيٌّ. وفيه الرِّواية بالتَّحديث والإخبار والسَّماع والعنعنة. وأخرجه المؤلِّف في «الإيمان» [خ¦54] ، و«العتق» [خ¦2529] ، و«الهجرة» [خ¦3898] ، و«النِّكاح» [خ¦5070] ، و«الأيمان والنُّذور» [خ¦6689] ، و«ترك الحيل» [خ¦6953] ، ومسلمٌ والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ وابن ماجه وأحمد والدَّارقطنيُّ وابن حبَّان والبيهقيُّ، ولم يخرجه مالكٌ في «موطَّئه»، وبقيَّة مباحثه تأتي _إن شاء الله تعالى_ في محالِّها.
وقد رواه من الصَّحابة غير عمر، قِيلَ: نحو عشرين صحابيًّا، فذكره الحافظ أبو يَعلى القزوينيُّ في كتابه «الإرشاد» من رواية مالكٍ عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيدٍ الخدريِّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «الأعمال بالنِّيَّة [24] »، ثمَّ قال: هذا حديثٌ غير محفوظٍ عن زيد بن أسلم بوجهٍ، فهذا ما أخطأ فيه الثِّقة. ورواه الدَّارقطنيُّ في أحاديث مالكٍ التي ليست في «الموطَّأ»، وقال: تفرَّد به عبد المجيد عن مالكٍ، ولا نعلم من حدَّث به عن عبد المجيد غير نوح بن حبيبٍ وإبراهيم بن محمَّدٍ العتقيِّ [25] ، وقال ابن منده في جمعه لطرق هذا الحديث: رواه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم غير عمر: سعد بن أبي وقَّاصٍ، وعليُّ بن أبي طالبٍ، وأبو سعيدٍ الخدريُّ، وعبد الله بن مسعودٍ، وأنسٌ، وابن عبَّاسٍ، ومعاوية، وأبو هريرة، وعبادة بن الصَّامت، وعتبة بن عبد السّلميُّ، وهلال بن سويدٍ، وعقبة بن عامرٍ، وجابر بن عبد الله، وأبو ذَرٍّ، وعتبة بن النُّدَّر [26] ، وعقبة بن مسلمٍ، وعبد الله بن عمر ا ه، وقد اتُّفق على أنَّه لا يصحُّ مُسنَدًا إلَّا من رواية عمر، إشارةً إلى أنَّ من أراد الغنيمة؛ صحَّح العزيمة، ومن أراد المواهب السَّنيَّة؛ أخلص النِّيَّة، ومن أخلص الهجرة؛ ضاعف [27] الإخلاصُ أجرَه، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، إنَّما تُنال المطالب على قدر همَّة الطَّالب، إنَّما تُدرَك المقاصد على قدر عناء [28] القاصد، على قدر هِمَّة أهل العزم تأتي العزائم.
1- (عَلَى الْمِنْبَرِ): اللَّامُ للعهدِ.
(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ): اختُلف هل تتعدَّى (سمعتُ) إلى مفعولين؟ فجوَّزَه الفارسيُّ، لكن لا بُدَّ أنْ يكونَ الثاني ممَّا يُسمَع؛ نحو: سمعتُ زيدًا يقولُ كذا، فلو قلتَ: سمعتُ زيدًا أخاك؛ لم يَجُز، والصحيحُ تعديتُها إلى واحدٍ، وما وقعَ بعدَه منصوبًا على الحال، والأوَّلُ على تقدير حذفِ مضافٍ؛ أي: سمعتُ كلامَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ السَّمْعَ لا يقعُ على الذوات، ثم بيَّن هذا الحذفَ بالحال المذكورة، وهي (يقولُ)، وهي حالٌ مبيِّنةٌ لا يجوزُ حذفُها.
(إِنَّمَا): الكلامُ فيها كثيرٌ، وقال النووي: («إنَّما» موضوعةٌ للحصر، تُثبِتُ المذكورَ، وتنفي ما عداه)، وهذا كلامٌ مستقيمٌ؛ إذ لم يتعرَّض في قوله أنَّ (إنَّ) للإثبات و (ما) للنفي كما صرَّح به الأكثرون، وهو غير مستقيمٍ؛ لأنَّ (ما) ليست نافيةً، بل هي كافَّةٌ مؤكِّدةٌ.
روى صاحب «المفتاح» عن عليِّ بن عيسى الربعي: أنَّ إفادة الحصر مِن (إنَّما) إنَّما كانت من (إنَّ) إنْ كانتْ لتأكيد إثباتِ المسندِ للمسندِ إليه، ثمَّ لمَّا اتصلتْ بها (ما) المؤكِّدةُ ـ لا النافيةُ على ما يظنُّه مَن لا وقوفَ له بعلمِ النَّحْو ـ ضاعفَتْ [1] تأكيدَها، فناسبَ أن تُضمَّن معنى الحصرِ.
(الْأَعْمَالُ): حرفُ التعريفِ ليس لتعريف الماهيَّة؛ لأنَّ المفتقرَ إلى النيَّةِ أفرادُ الأعمال، لا مُطلَقُ[/ص5/] الأعمالِ من حيثُ الإطلاقُ، فهو إذًا إمَّا للعمومِ خُصَّ منه البعضُ بالإجماع، أو للعهدِ فالمعهودُ هو الأعمالُ التي عُهِدَتْ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ، ويؤيِّدُه ما قيلَ: إنَّ المرادَ من (الأعمالِ): العباداتُ؛ لأنَّ غيرَها لا يفتقرُ إلى النيَّة.
(بِالنِّيَّاتِ): يَحتمل أن تكون باءَ السببيَّةِ، ويَحتمل أن تكون باءَ المصاحبةِ، و (إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّات) هو متعلِّقٌ بالخبر المحذوف، ولا جائزٌ أن يُقَدَّرَ وجودُها لوجود العمل ولا نِيَّةَ، فتعيَّن أن يُقَدَّرَ نفيُ الصِّحَّة أو الكمال، والأوَّلُ أظهرُ؛ لأنَّه أقربُ إلى حضورِه بالذِّهْن عند الإطلاق، فالحَمْلُ عليه أَولى، وقد يقدِّرونه بالاعتبار؛ أي: اعتبار الأعمال بالنِّيَّات، وقدَّر بعضُ المحدِّثين: القبول، وهو راجعٌ إلى ثواب الآخرة، وهو مرتَّبٌ على الصحَّة والكمال، وقد تنفكُّ الصحَّة عنِ القبول بالنسبة إلى أحكام الدنيا فقط.
وقال شيخنا في «الفتح»: (الباء للمصاحبة، ويَحتمل أن تكون للسببية؛ بمعنى أنَّها مقوِّمةٌ للعمل، فكأنَّها سببٌ في إيجاده، وعلى الأول: فهي من نفس العمل، فيشترط ألَّا تتخلَّف عن أوَّلِه).
(مَا نَوَى): (ما) بمعنى: (الَّذي)، وصلتُه (نَوَى)، والعائدُ محذوفٌ؛ أي: نواه، فإنْ قدَّرت (ما) مصدريَّة؛ لم يُحتج إلى حذفٍ، إذ (ما) المصدريَّة عند سيبويه حرفٌ، والحروف لا تعود عليها الضمائر؛ والتقدير: لكلِّ امرئٍ نيَّتُه.
(إِلَى دُنْيَا): هو إمَّا متعلِّقٌ بـ (الهجرة) إنْ قُدِّرَتْ (كانَ) تامَّةً، أو خبرُ لـ (كانتْ) إنْ كانتْ ناقصةً، قاله الكرمانيُّ، وقال البِرْماويُّ: (وبمحذوفٍ إنْ قُدِّرَتْ ناقصةً، ويكونُ هو خبرَها) انتهى.
و (دنيا) مقصورةٌ غيرُ منوَّنةٍ؛ لأنَّها (فُعْلى) من (الدُّنُوِّ)، وموصوفُها محذوفٌ؛ أي: الحياة الدنيا.
قال ابن مالك: (في استعمالها منكَّرًا إشكالٌ؛ لأنَّها تأنيث «أدنى»، وهو أفعل تفضيل، وكان حقَّها أنْ تستعملَ باللَّام؛ كـ«الكُبرى» و«الحُسنى»، إلَّا أنَّها خُلِعت عنها الوصفيَّةُ رأسًا، وأُجريتْ مُجرى ما لم يكن وصفًا؛ كـ«رُجْعى» و«بُهْمى»، ونحوُه قولُ الشاعر: [من البسيط]
~ وإنْ دعوتِ إلى جُلَّى ومَكْرُمةٍ يومًا سَراةَ كِرامِ الناسِ فادْعِينا
فإنَّ «الجُلَّى» مؤنَّث «الأجلِّ»، فخُلِعتْ عنها الوصفيَّةُ، وجُعِلت اسمًا للحادثة العظيمة).
قال الكرمانيُّ: (والدليلُ على جعلها اسمًا ـ أي: عَلَمًا ـ قلب الواو ياءً؛ لأنَّه لا يجوزُ القلبُ إلَّا في الفُعْلى الاسميَّة).
وقال الأصفهانيُّ: («الدنيا» تأنيث «الأدنى» مثل: «حُبْلى» لا ينصرف؛ لاجتماع أمرين؛ أحدهما: الوصفيَّة، والثاني: لزوم حرف التأنيث).
وقال الكرمانيُّ: (ليس ذلك لاجتماع أمرين فيها؛ إذ لا وصفيَّة ههنا، بلِ امتناع صرفه للزوم التأنيث للألف المقصورة، وهو قائمٌ مَقام العِلَّتين، فهو سَهْوٌ منه).
(إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ): إمَّا أن يكون متعلِّقًا بـ (الهجرة)، والخبرُ محذوفٌ؛ أي: هجرته إلى ما هاجر إليه غيرُ صحيحةٍ أو غيرُ مقبولةٍ، وإمَّا أن يكون خبرَ (فهجرتُه)، والجملةُ خبرَ المبتدأ؛ وهو (من كانت)، وأدخل (الفاء) في الخبر؛ لتضمُّنِ المبتدأ معنى الشرط، قاله الكرماني، وتتمَّة كلامه سيأتي في أوَّل [2] (كتاب النكاح) [خ¦5070] .
1- قوله: (حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ): هو عبد الله بن الزُّبير [1] ، وقد ورد مُسمًّى في بعض الطرق في هذا المكان، ترجمتُه معروفةٌ؛ فلا نُطَوِّل بها، وهو الفقيه، أحدُ الأعلام، صاحبُ ابن عُيينةَ، وسمع مِنَ الزِّنجيِّ، وإبراهيمَ بنِ سَعْدٍ [2] ، وغيرِهما، وعنه: البخاريُّ، وأبو زُرعةَ، وأبو حاتمٍ، وخلقٌ، قال الفَسويُّ: (ما لقيتُ أنصحَ للإسلامِ منه) [3] ، ماتَ سنةَ (219 هـ ) [4] ، أخرج له البخاريُّ، وأبو داودَ، والتِّرمذيُّ، والنَّسائيُّ.
وهو نسبةٌ إلى حُميد -بضمِّ الحاء المهملة- بطنٌ مِن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصيٍّ.
وقال النوويُّ في «إملائه»: (هو نسبةٌ إلى جدِّه حُميد) .
وقال السَّمعانيُّ: (سمعتُ شيخَنا أبا القاسم إسماعيلَ بنَ محمَّدٍ الحافظ يقول: هو منسوبٌ إلى الحُميدات، وهي قبيلةٌ) انتهى [5] .
وسيجيءُ في تفسيرِ (براءةَ) أنَّ الحُميدات: بطنٌ مِنْ قُريشٍ.
قولُه: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ): هو ابنُ عُيينةَ [6] ؛ وهو بضمِّ السين، وحُكِي كسرُها، وفتحُها أيضًا.
و (عُيَينة) [7] : بضمِّ العين وكسرها أيضًا، ترجمته معروفةٌ؛ فلا نُطوِّلُ بها، وقد صرَّح بالتحديث هنا، وهو مُدَلِّسٌ، ولكن لا يُدَلِّسُ إلَّا عن ثقةٍ، وقد ذكرتُ المُدلِّسينَ في جزء مفردٍ مرتَّبٍ على حروف [المعجم] ، وذكرتُ طبقاتِهِم في التدليس، فمَن أراده؛ فلينظرْه.
هذا الخلاف في عنعنة المدلِّس إنَّما يكون في غير ابن عيينة، وذلك أنَّ ابن عبد البرِّ قد [8] حكى عن أئمَّة الحديث أنَّهم قالوا: يُقبَلُ تدليسُ ابنِ عُيينةَ؛ لأنَّه إذا وقف؛ أحال على ابنِ جُريجٍ ومَعْمَرٍ ونظرائِهما [9] ، وهذا ما رجَّحَه ابنُ حِبَّان، وقال: هذا شيءٌ ليس في الدنيا إلَّا لسُفيان بن عُيينةَ؛ فإنَّه كان لا يُدلِّسُ إلَّا عن ثقةٍ متقنٍ،ولا يكاد يوجد لابن عُيينةَ خبرٌ دلَّس فيه إلَّا وقد بيَّن سماعه عن ثقةٍ [10] مثل ثقته، ثمَّ مثَّل ذلك بمراسيلِ كبار الصحابة؛ فإنَّهم لا يُرسلونَ إلَّا عن صحابيٍّ، وقد سبقَ ابنَ عبد البرِّ إلى ذلك الحافظُ أبو بكرٍ البزَّار -بالراء في آخره- وأبو الفتح الأزديُّ؛ قال البزَّارُ: مَن كان يُدلِّسُ عنِ الثقات؛ كان تدليسُه عند أهل العلم مقبولًا، وعن أبي بكرٍ الصيرفيِّ من الشافعيَّة في كتاب «الدلائل» مثلَه، ولفظُه: (كلُّ مَن ظهر تدليسُه عن غير الثقات؛ لم يقبلْ خبرُه حتى يقول: حدَّثني أو سمعتُ) انتهى.
وقد نَظَمَ ذلك في بيتين بعضُ أصحابنا، فقال:
~أمَّا الإمامُ ابنُ عُيينة فقدْ اغتفروا تدليسَه مِن غيرِ رَدّْ [/ج1ص6/]
قوله: (أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيمِيُّ [11] ): سيأتي بعضُ ترجمته في آخر (كتاب الصوم) قُبيل (الاعتكاف) إن شاء الله تعالى وقدَّره [خ¦2018] .
قوله: (بِالنِّيَّاتِ): هي جمعُ (نِيَّة) ، و (النِّيَّة) بالتشديد والتخفيف.
قوله: (إِلَى دُنْيَا): هي بضمِّ الدال على المشهور، وحُكي كسرُها، وجمعُها: دُنًا، وسُمِّيت بذلك؛ لدنوِّها، والنسبةُ إليها: دُنيويٌّ، ودُنييٌّ، ودُنياويٌّ، وهي مقصورةٌ غيرُ منوَّنةٍ على المشهور، وهو الذي جاءت به الرواية، ويجوزُ في لغةٍ غريبةٍ تنوينُها.
قال شيخنا الشَّارح: (وفي حقيقتِها قولان للمتكلِّمين؛ أحدُهما: ما على الأرض مِنَ الجوِّ والهواء، وأظهرُهما: كلُّ المخلوقات مِنَ الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدار الآخرة) [12] .
قوله: (أَوْ إِلَى امْرَأَة يَنْكِحُهَا): قال شيخنا الشَّارح: (هذا الحديث ورد على سببٍ؛ وهو أنَّه لمَّا أُمر بالهجرة إلى المدينة؛ تخلَّف جماعةٌ عنها، فذمَّهُمُ الله تعالى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ}؛ الآية [النساء: 97] ، ولم يُهاجر جماعةٌ؛ لفقدان استطاعتِهِم، فعَذَرَهُمُ اللهُ واستثناهم بقوله: {إِلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ}؛ الآية [النساء: 98] ، وهاجر المخلصون إليه، فمدحَهُم في غير موضعٍ مِنْ كتابه، وكان في المهاجرين جماعةٌ خالفتْ نِيَّتُهم نِيَّةَ المخلصين، منهم مَن كانت نِيَّتُه تزوُّجَ امرأةٍ كانت بالمدينة يُقال لها: أمُّ قيسٍ -وعن ابن دحيةَ: أنَّ اسمها قَيلة- فسُمِّي: مهاجرَ أمِّ قيسٍ، ولا يُعرف اسمُه) انتهى [13] .
و (أُمُّ قيسٍ) هذِه: معدودةٌ في الصحابيَّات، قال الذهبيُّ في «تجريده» ما لفظُه: (قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: كان فينا رجلٌ خطب امرأة يُقال لها: أُمُّ قيسٍ، فأبتْ [14] أن تَزوَّجه حتى يُهاجِر [15] ، فهاجَرَ فتزوَّجَها، فكُنَّا نُسمِّيه: مهاجرَ أُمِّ قيسٍ) [16] .
قال شيخُنا الحافظ العراقيُّ: (رواه الطبرانيُّ بإسنادٍ جيِّدٍ من حديث ابن مسعود) انتهى.
وهذا يدُلُّ على أنَّهما صحابيَّان، والله أعلم.
1- ( سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ) هذا مما يتكرَّر كثيرًا، وقد اختلف هل يتعدى ( سَمِعْتُ ) إلى مفعولين؟ فجوَّزه الفارسي، لكن لا بد أن يكون الثاني مما يسمع، نحو: سمعت زيدًا يقول كذا، فلو قلت: سمعتُ زيدًا أخاك؛ لم يجز. [/ج1ص3/]
والصحيح: تعديتها إلى واحد، وما وقع بعده منصوبًا فعلى الحال، والأول على تقدير مضاف، أي: سمعت كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن السمع لا يقع على الذوات، ثم بيَّن هذا المحذوف بالحال المذكورة وهي ( يَقُولُ ): وهي حال مُبَيَّنة ولا يجوز حذفها.
( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ) فيه إضمار، ويَحتمل وجوهًا: تعتبر بالنيات، تصح، تُجتَلب، والثاني: وهو المشهور، والثالث: أقلُّ تخصيصًا، والأول أعم فائدة؛ لأن العمل إذا لم يكن معتبرًا إلا بالنية لا يكون صحيحًا، ولا يتعلق به حكم.
واللام في ( الأَعْمَالُ ) للجنس على المشهور؛ أي: كل عمل.
ومقابلة الأعمال بالنيات مقابلة الآحاد بالآحاد؛ أي: لكل عمل نية، أو إشارة إلى تنوع النيات. يعني: إن كان القصد رضا الله فله مزية، وإن كان القصد دخول الجنة فله مزية، وإن كان القصد الدنيا فهو بقدْرَها يتشرَّف الفعل، ذكره الخويي [1] .
و ( النِّيَّاتِ ) جمع نيَّة بالتشديد والتخفيف، والتشديد من: نوى ينوي: قصد، وأصله: نوية، قُلِبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء بعدها لتقاربهما، ومن خفَّف فمن وَنَى يَنِي: أبطأ وتأخر؛ لأن النية تحتاج في تصحيحها إلى إبطاء.
والباء في ( بالنيات ) تحتمل السببية والمصاحبة. [2]
( وَإِنَّمَا لِكُلِّ [امْرِئٍ] مَا نَوَى ) هذه الجملة غير الأولى، فإن الأولى نبهت على أن الأعمال لا [/ج1ص4/] تصير حاملة لثوابٍ وعقابٍ إلا بالنية، والثانية: أن العامل يكون له من العمل على قدر نيته؛ ولهذا أُخِّرت عن الأولى لترتبها عليها.
وقال الخطابي: أفادت الثانية تعيين العمل بالنية؛ لأنَّه لو نوى صلاة إن كانت فائتة وإلا فهي تطوع لم تجزئه عن فرضه؛ لأنَّه لم يمحِّض النية ولم يعيَّن بها.
( فَمَنْ كَاْنَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِه ) هذا سقط هنا في رواية البخاري من جهة سفيان، فيشبه أن يكون هذا من صنيع البخاري واختصاره، وإلا فقد أثبتها من جهة سفيان الإسماعيلي في «مستخرجه».
ولا بدَّ فيه من تقدير؛ لأنَّ الشرط والجزاء والمبتدأ والخبر لا بد من تغايرهما وهنا قد اتحدا، فالتقدير: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نيةً وقصدًا فهجرته إلى الله ورسوله حكمًا وشرعًا. قاله ابن دقيق العيد في «شرح العمدة»، وفيه نظر؛ فإن المقدَّر حينئذٍ حال مبينة فكيف تحذف!
ولهذا منع الرُّنْدي في «شرح الجمل» جعل «بسم الله» متعلقًا بحال محذوفة، أي أبتدئ متبرِّكًا، قال: لأن حذف الحال لا يجوز، فالأولى أن تكون «نية» و«قصدًا» نصبًا على التمييز، ويجوز حذفه إذا دل عليه دليل كقوله تعالى: { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ } [ الأنفال: 65 ] أي: رجلًا. [/ج1ص5/]
ويمكن تأويله على إرادة المعهود المستقر في النفوس من غير ملاحظة حذف، كقولك: أنت أنت، أي: الصديق الذي لم يتغير، وقول الشاعر:
~ أنا أبو النجم وشعري شِعري
أو أنَّه مؤول على إقامة السبب مقام المسبَّب لاشتهار السبب، أي: فقد استحق الثواب العظيم المستقر للمهاجرين.
وفيه: وضع الظاهر موضع المضمر، فإن الأصل فهجرته إليهما، وفيه وجهان: أحدهما: قصد الاستلذاذ بذكره؛ ولهذا لم يُعَد في الجملة الثانية، وهي قوله: ( وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا ) إعراضًا عن تكرير لفظ الدنيا، وثانيهما: عدل عن ذلك؛ لئلا يجمع بينهما في ضمير واحد، وفيه بحث.
( دُنْيَا ) بضم الدال، وحكى ابن قتيبة كسرَها، وهو مقصور غير منون على المشهور، وحُكِيَ تنوينها، قال ابن جني: وهي نادرة.
وأورد ابن مالك أنَّها في الأصل مؤنث أدنى، وأدنى أفعل تفضيل، وأفعل التفضيل إذا نُكِّرَ لزم الإفراد والتذكير فامتنع تأنيثه، ففي استعمال دنيا بتأنيث مع كونه منكَّرًا إشكال، وكان حقه أن لا يستعمل كما لا يستعمل قصوى ولا كبرى، وأجاب بأنه خُلعت عنها الوصفية غالبًا، وأجريت مُجرى ما لم يكن قط وصفًا كـ «رُجعى».
1- ( حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيْدٍ ) هو من صغار التَّابعين.
( أَخْبَرَنِي محمَّد بْنُ إِبْرَاهِيْمَ ) هو من أوساطهم، ( أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ ) هو من كبارهم.
ففي الإسناد ثلاثة من التَّابعين في نسق.
قال ابن حجر: وفي «المعرفة» لابن منده ما ظاهره أنَّ علقمة صحابيٌّ، فإنَّ ثبت كان فيه تابعيَّان وصحابيَّان.
( سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخطَّاب عَلَى / الْمِنْبَرِ ): بكسر الميم، واللَّام للعهد، أي: منبر المسجد النَّبويِّ. [/ج1ص116/]
قيل: ولهذا أقام المصنَّف هذا الحديث مقام الخطبة للكتاب، لأنَّه إذا صلح أن يكون في خطبة المنبر صلح أن يكون في خطبة الكتاب.
( سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّم يَقُوْلُ ) ذهب الفارسيُّ إلى تعدِّي ( سمعت ) إلى مفعولين ثانيهما ممَّا يُسمع، نحو: سمعت زيدًا يقول كذا، فلا يجوز: سمعت زيدًا أخاك، والجمهور على منع ذلك، وأنَّ الثَّاني حال.
( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ) هو من مقابلة الجمع بالجمع، أي: كلُّ عمل بنيَّته.
قال الخُوئيُّ: وكأنَّه أشار بذلك إلى أنَّ النِّيَّة تتنوَّع كما تتنوَّع الأعمال؛ كمن قصد بعمله وجه الله أو تحصيل موعده أو الاتِّقاء لوعيده. وفي معظم الرِّوايات بالنِّيَّة مفردًا؛ قيل: ووجهه أنَّ محلَّها القلب وهو [متَّجه] [1] فناسب إفرادها بخلاف الأعمال، فإنَّها متعلِّقة بالظَّواهر فناسب جمعها.
وفي «صحيح ابن حبَّان»: «الأعمال بالنِّيَّات» بحذف «إنَّما»، وعند البخاريِّ في النِّكاح: «العمل بالنِّيَّة»، [خ:5070] [/ج1ص117/]
[وعندي] [2] أنَّ ذلك من تغييرات الرُّواة.
والباء للمصاحبة وتحتمل السَّببيَّة ومتعلَّقها مقدَّر، قيل: تصحُّ، وقيل: تعتبر، وقيل: تكمل، وقيل: تستقرُّ، وقيل: الكون المطلق.
قال البُلْقينيُّ: وهو الأحسن.
واللَّام في ( الأعمال ) للجنس، وفي ( النِّيَّات ) بدل عن الضَّمير، أي: بنياتها.
والنِّيَّة بالتَّشديد من نوى بمعنى: قصد، والأصل: نويَّة، قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء، وتخفيفها لغة من وَنَى يني؛ أي: أبطأ؛ لأنَّ النِّيَّة تحتاج في تصحيحها إلى إبطاء.
( وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ) قال الخطَّابُّي وغيره: أفادت هذه الجملة تعيين العمل بالنِّيَّة.
( فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا ) كذا في جميع الأصول هنا بحذف أحد وجهي التَّقسيم، وهو قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» وهو من البخاريِّ؛ لأنَّ شيخه الحميديَّ رواه في «مسنده» تامًّا، ورواه عنه غير البخاريِّ كذلك.
والبخاريُّ اختصر الحديث كعادته: إمَّا من أثنائه وإمَّا من آخره؛ فإنَّ في رواية حمَّاد بن زيد في باب الهجرة تأخَّر قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله» عن قوله: «فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها»؛ فيحتمل أن تكون رواية الحميديِّ وقعت عند البخاريِّ كذلك، فحذف الجملة الأخيرة. [/ج1ص118/]
( دُنْيَا ) بضمِّ الدَّال - وحكى ابن قتيبة كسرها - فُعْلَى من الدُّنوِّ؛ أي: القرب لسبقها للآخرة، وقيل: لدنُّوِّها من الزَّوال، وهي ما على الأرض من الهواء والجوِّ، وقيل: كلُّ المخلوقات من الجواهر والأعراض، وتطلق على كلِّ جزء من ذلك مجازًا، ولفظها مقصور غير منوَّن، وحُكِيَ تنوينها، وعزاه ابن دحية إلى رواية الكُشْمِيهنيِّ وضعفها.
قال ابن مالك: واستعمال ( دنيا ) منكرًا فيه إشكال، لأنَّها مؤنَّث أدنى أفعل التَّفضيل، فحقُّه أن يستعمل باللَّام كالكبرى والحسنى، قال: إلَّا أنَّها خُلِعَتْ عنها الوصفيَّة وأجريت مُجرَى ما لم يكن وصفًا قط؛ كـ رجعى.
( يُصِيبُهَا ) أي: يحصِّلها؛ لأنَّ تحصيلها كإصابة الغرض بالسَّهم بجامع حصول المقصود.
( أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا ) قيل: التَّنصيص عليها من الخاصِّ بعد العامِّ للاهتمام به، وتعقبَّه النَّوويُّ بأنَّ دنيا نكرة، وهي لا تعمُّ في الإثبات، فلا يلزم دخول المرأة فيها.
وأجيب بأنَّها في سياق الشَّرط فتعمُّ، ونكتة الاهتمام بها الزِّيادة في التَّحذير؛ لأنَّ الافتتان بها أشدَّ.
وقيل: إنَّ الحديث ورد على سبب، وهو أنَّ رجلًا هاجر من مكَّة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة بل ليتزوَّج امرأة تُسمَّى أمَّ قيس، فلهذا خصَّ ذكر المرأة في الحديث، ذكره ابن دقيق العيد.
وقصَّة مهاجر أمِّ قيس رواه سعيد بن منصور في «سننه» بسند على شرط الشَّيخين عن ابن مسعود قال: «من هاجر يبتغي شيئًا فإنَّما له ذلك، هاجر رجل ليتزوَّج امرأة يقال لها أمُّ قيس فكان يقال مهاجر أمِّ قيس». [/ج1ص119/]
( فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ) أتى بالضَّمِّير ليتناول ما ذكر من المرأة وغيرها، وإنَّما جيء بالظَّاهر في الجملة المحذوفة في قوله: «فهجرته إلى الله ورسوله» لقصد الالتذاذ بذكر الله ورسوله، وعِظَمِ شأنهما، بخلاف الدُّنيا والمرأة؛ فإنَّ السِّياق يشعر بالحث على الإعراض عنهما. [/ج1ص120/]
1- ((حدثنا الحميدي)) : بضم المهملة وفتح الميم؛ نسبة إلى جده الأعلى حميد، أو إلى حميدات قبيلةٌ، المتوفى سنة تسع عشرة ومئتين، وليس هو صاحب «الجمع بين الصحيحين»، ولغير أبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر: (حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير) .
((قال: حدثنا سفيان)) بن عيينة التابعي المكي المتوفى سنة ثمان وتسعين ومئة، ولأبي ذر عن الحموي: (عن سفيان) .
((قال: حدثنا يحيى بن سعيد)) : وهو ابن قيس ((الأنصاري)) المدني التابعي المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومئة، ولأبي ذر: (عن يحيى) .
((قال: أخبرني)) : بالإفراد؛ لأنَّه قرأ على الشيخ وحده ((محمد بن إبراهيم)) بن الحارث ((التيمي)) ؛ نسبة إلى تيم قريش، المتوفى سنة عشرين ومئة: ((أنه سمع علقمة)) أبا واقد؛ بالقاف ((ابن وقَّاص)) بتشديد القاف ((الليثي)) بالمثلثة؛ نسبة إلى ليث بن بكر، قيل: صحابي، وقيل: تابعي، المتوفى بالمدينة أيام عبد الملك بن مروان، ((يقول: سمعت)) أمير المؤمنين ثاني خلفاء سيد المرسلين ((عمر بن الخطاب)) بن نُفَيل؛ بضم النون، وفتح الفاء، المتوفى سنة ثلاث وعشرين رضي الله عنه؛ أي: سمعت كلامه حال كونه ((على المنبر)) النبوي المدني؛ وهو بكسر الميم من النبرة؛ وهي الارتفاع؛ أي: سمعته حال كونه ((قال)) ، ولأبي الوقت والأصيلي وابن عساكر: (يقول) : ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ؛ أي: سمعت كلامه حال كونه ((يقول)) ، فـ (يقول) : في موضع نصب حالًا من (رسول الله عليه السلام) ؛ لأنَّ (سمعت) لا يتعدَّى إلى مفعولين؛ فهي حال مبيِّنة للمحذوف المقدَّر بكلام؛ لأنَّ الذات لا تسمع، وأتى بالمضارع في رواية من ذكرها بعد سمع الماضي؛ إما بحكاية الحال وقت السماع، أو لإحضار ذلك في الذهن.
((إنَّما الأعمال)) الصادرة من المكلفين كاملة ومثاب عليها، ((بالنيات)) بالجمع، وفي بعض الروايات بالإفراد، وتقدير الكمال أو الثواب هو المطرد؛ لأنَّ كثيرًا من الأعمال يوجد ويعتبر شرعًا بدون النية، ولأنَّ إضمار الثواب متفق عليه على إرادته، ولأنَّه يلزم بها من انتفاء الصحة انتفاء الثواب دون العكس، فكان أقل إضمارًا، فهو أولى، ولأنَّ إضمار الجواز والصحة يؤدي إلى نسخ الكتاب بخبر الواحد، وهو ممنوع، ولأن العامل في قوله: (بالنيات) مقدر بإجماع النحاة، فلا يجوز أن يتعلَّق بـ (الأعمال) ؛ لأنَّها رفع بالابتداء، فيبقى بلا خبر، فلا يجوز، فالمقدر إما مجزئة أو صحيحة أو مثيبة، فالمثيبة أولى لوجهين:
أحدهما: أنَّ عدم النية لا يُبطل أصل العمل، وعلى إضمار الصحة والإجزاء يبطل.
الثاني: أنَّ قوله: (لكلِّ امرئ ما نوى) يدُلُّ على الثواب والأجر، وعلى كلٍّ فالحديث متروك الظاهر بالإجماع، والذوات لا تنتفي بلا خلاف، فيحتاج إلى الإضمار، وإنما يكون الإضمار على خلاف الأصل، فالمراد بـ (الأعمال) حكمها، والحكم نوعان: نوع يتعلق بالآخرة؛ وهو الثواب أو العقاب، ونوع يتعلق بالدنيا؛ وهو الصحة أو الفساد، والنوعان مختلفان المبنى؛ فالأول: على صدق العزيمة، والثاني: على وجود الأركان والشرائط، ولما اختلف الحكمان؛ صار الإثم بعد كونه مجازًا مشتركًا، ولا يكفي في تصحيحه ما هو المتفق عليه [/ص4/] وهو الحكم الأخروي، ولا دليل على ما اختلف فيه، فبقي الثواب أو العقاب، وانتفى الصحة أو الفساد، وهذا مذهب إمامنا الأعظم وأصحابه: أبي [1] يوسف ومحمد وزفر، والثوري، والأوزاعي، والحسن بن حي، ومالك في رواية.
وكذا الغسل، وعند الأوزاعي والحسن التيمم أيضًا، وقال عطاء ومجاهد: إن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية إلَّا أن يكون مسافرًا أو مريضًا، وقال مالك في رواية عنه وتلميذ الشافعي وتلميذه أحمد ابن حنبل: إنَّ النية في الأعمال كلِّها فرض لهذا الحديث، ولا دلالة لهم فيه لما علمت، وتمامه في شرحنا على «القدوري».
واختلف في (إنَّما) هل تفيد الحصر أم لا، وهل تفيده بالمنطوق أو بالمفهوم، وأصلها: (إنَّ) التوكيدية، دخلت عليها (ما) الكافة؛ وهي حرف زائد، وقيل: إنَّ (ما) نافية.
و (الباء) في (بالنيات) للمصاحبة أو للاستعانة، وقيل: للسببية، ولم يذكر سيبويه في معنى الباء إلَّا الإلصاق؛ لأنَّه معنى لا يفارقها.
و (النِّيَّات) بتشديد الياء: جمع نِيَّة؛ مِن نوى ينوي من باب ضرب، وهي لغة: القصد، وشرعًا: قصد الطاعة والتقرب إلى الله تعالى في إيجاد الفعل، وإنما قال: (الأعمال) ، ولم يقل الأفعال؛ لأنَّ الفعل يكون زمانه يسيرًا، ولم يتكرر، بخلاف العمل؛ فإنَّه على الاستمرار، ويتكرر.
((وإنَّما لكلِّ امرِئ)) : بكسر الراء، والمرء مثلث الميم: الإنسان أو الرجل، كما في «القاموس».
((ما نوى)) ؛ أي: الذي نواه أو نيته، وكذا لكل امرأة ما نوت؛ لأنَّ النساء شقائق الرجال، وهذه الجملة تأكيد للجملة السابقة، وحمله على التأسيس أولى؛ لإفادته معنى لم يكن في الأولى، وما ذكره بعض الشراح فليس بشيء؛ فافهم.
((فمن كانت هِجرته)) : بكسر الهاء؛ أي: خروجه من أرضٍ إلى أرض، ((إلى دنيا يصيبها)) : جملة محلها الجر؛ صفة لدنيا؛ أي يحصِّلُها، ((أو إلى امرأة)) ولأبي ذر: (أو امرأة) ، ((ينكحها)) أي: يتزوجها كما في الرواية الأخرى، ((فهجرته)) بالكسر؛ أي: خروجه، ((إلى ما هاجر إليه)) : من الدنيا والمرأة، والجملة: جواب الشرط في قوله: (فمن) .
وسبب هذا الحديث: قصة مُهاجر أمِّ قيس، المروية في «معجم الطبراني الكبير» بإسناد رجاله ثقات من رواية الأعمش، ولفظه عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أم قيس؛ فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر؛ فهاجر فتزوجها، قال: فكنا نسميه مهاجر أم قيس.
قال في «شرح الأربعين»: ولم نر له أصلًا بإسناد يصح.
قال بعض الشراح: ولم يسم الرجل؛ فتأمل.
والمهاجرة المذمومة؛ إذا كانت على هذه الصفة، أما من هاجر من دار الكفر وتزوَّج [2] المرأة؛ فإنه لا يكون مذمومًا.
و (الدُّنيا) بضم الدال: مقصورة غير منونة للتأنيث والعلمية، وقد تكسر وتنون، قال في «القاموس»: (الدنيا ضد الآخرة، وقد تنون، وجمعها: دنى) اهـ، وإنما سميت بذلك لدنوِّها؛ أي: قربها من الزوال.
وفيه الرواية بالتحديث، والإخبار، والسماع، والعنعنة.
وأخرجه المؤلف في (الإيمان) ، و (العتق) ، و (الهجرة) ، و (النكاح) ، وستأتي بقية الكلام عليه إن شاء الله تعالى، واحتج بهذا الحديث الإمام الأعظم، ومالك، وأحمد: في أنَّ من أحرم بالحج في غير أشهر الحج؛ أنَّه لا ينعقد عمرة؛ لأنَّه لم ينوها، وخالفهم [3] الشافعي، واحتج به أيضًا الإمام الأعظم، ومالك، والثوري: أنَّ الرجل يصح حجه عن غيره ولا يصح عن نفسه، خلافًا للشافعي، وأحمد، والأوزاعي.