إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إني كنت اصطنعته وإني لا ألبسه

          5876- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ) أبو سلمة التَّبوذكيُّ الحافظ قال: (حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ) ابن أُسامة (عَنْ نَافِعٍ) مولى ابن عُمر (أَنَّ عَبْدَ اللهِ) بن عمر بن الخطَّاب (حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلعم اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ) الأصل اصتَنع _بالمثناة الفوقية_ فلما جاورت التاء الصاد، والتاء حرف مستفل والصاد حرف مستعل مطبق منافر للفوقية، أبدلوا منها حرفًا مناسبًا للصَّاد، وكانت الطاء أولى من غيرها لأنَّها من مخرجِ الفوقية، وإن كانت الدال أيضًا من ذلك المخرج لكن التاء إلى الطاء أقرب منها إلى الدال على ما هو مقرَّر عند النُّحاة (ويَجْعَلُ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”وجعلَ“ (فَصَّهُ) بفتح الفاء (فِي بَطْنِ كَفِّهِ إِذَا لَبِسَهُ، فَاصْطَنَعَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ) ولأبي ذرٍّ: ”الخواتيمُ من ذهب“ (فَرَقِيَ) بكسر القاف، صَعِدَ صلعم (المِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَالَ) بعد ذلك: (إِنِّي كُنْتُ اصْطَنَعْتُهُ) يعني خاتم الذَّهب (وَإِنِّي لَا أَلْبَسُهُ) أبدًا لكونه حُرِّمَ حينئذٍ (فَنَبَذَهُ) أي: طرحهُ (فَنَبَذَ النَّاسُ) خواتيمهُم جملةٌ مِن فعلٍ وفاعل حُذف مفعوله للعلمِ به.
          (قَالَ جُوَيْرِيَةُ) بن أسامة، المذكور بالسَّند السَّابق: (وَلَا أَحْسِبُهُ) أي: ولا أحسب نافعًا (إِلَّا قَالَ): وجعله (فِي يَدِهِ اليُمْنَى) أخرج الإسماعيليُّ عن الحسن(1) بن سفيان، عن عبدِ الله بن محمد ابنِ أسماء‼، وابنِ سعد عن مسلمِ بن إبراهيم كلاهما، عن جويرية «أنَّه لبسَه في يدهِ اليمنى»، ولم يشكَّا. وأخرجه مسلم كذلك أيضًا من طريقِ عقبةَ بن خالدٍ، عن عبيدِ الله بنِ عمر عن نافعٍ، عن ابن عمر. والتِّرمذيُّ وابنُ سعد من طريق موسى بنِ عقبة، عن نافعٍ بلفظ صنع النَّبيُّ صلعم خاتمًا من ذهبٍ فتختَّم به في يمينهِ، ثمَّ جلسَ على المنبرِ، فقال: «إنِّي كنتُ اتَّخذت هذا الخاتم في يمينِي» ثمَّ نبذهُ... الحديث، وهذا صريحٌ من لفظه صلعم دافع للَّبس، وموسى بن عقبة أحد الثِّقات / الأثبات، والأفضل عند الشَّافعيَّة جعلُ الخاتم في اليمين(2) وجعلُ فَصِّه من باطن كفِّه. ولم يعين في(3) «البخاريِّ» موضع الخاتم من أيِّ اليدين إلَّا في رواية جويريَّة هذه _كما قاله الحافظ أبو ذرٍّ_ وقد جزمَ غيره _كما مرَّ_ باليمين، وأمَّا رواية محمَّد بن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى، عن نافعٍ، عن ابنِ عمر المرويَّة عند(4) ابن عديٍّ، وروايةُ عبد العزيز بن أبي روَّاد، عن نافعٍ، عن ابنِ عمر «كان صلعم يتختَّم في يسارهِ». فقال الحافظ: إنَّها شاذَّة، ورواتها أقلُّ عددًا وألينُ حفظًا ممَّن روى اليمين. ووردَ عن جماعةٍ من الصَّحابة والتَّابعين من أهلِ المدينة وغيرهم التَّختُّم في اليمين، وجمع البيهقيُّ بينهما بأنَّ الَّذي لبسه في اليمين هو خاتم الذَّهب، كما صُرِّحَ به في حديثِ ابن عمر، والَّذي لبسَه في اليسار هو خاتمُ الفضَّة.
          وقال البغويُّ في «شرح السُّنة»: إنَّه تختَّم أوَّلًا في يمينه، ثمَّ تختَّم في يساره، وكان ذلك آخر الأمرين، ويترجَّح جعله في اليمين مطلقًا بأنَّ اليسار آلةٌ للاستنجاءِ، فيُصان الخاتم إذا كان في اليمين عن أن تصيبه النَّجاسة، ونقل النَّوويُّ الإجماع على الجوازِ، ولا كراهة فيه عند الشَّافعيَّة، وإنَّما الخلاف عندهم في الأفضليَّة، والله أعلم.


[1] وقع في الأصول: «الحسين»، والمثبت موافق للفتح (10/326) وكتب التراجم.
[2] في (م): «يده اليمنى».
[3] «في»: ليست في (س).
[4] في (ب): «عن».