إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه

          5765- وبه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ(1)) المسنَديُّ (قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ) سفيان (يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك (يَقُولُ‼: حَدَّثَنِي) بالإفراد (آلُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ) بن الزُّبير (فَسَأَلْتُ هِشَامًا عَنْهُ) أي: عن الحديثِ (فَحَدَّثَنَا عَنْ أَبِيهِ) عروةَ (عَنْ عَائِشَةَ ♦ ) أنَّها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم سُحِرَ) مبنيٌّ(2) للمفعول (حَتَّى كَانَ يَرَى) ولأبي ذر: ”يُرَى“ بضمِّ الياء، يظنُّ (أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ لَا(3) يَأْتِيهِنَّ) أي: وطئ زوجاته ولم يكن وطئهنَّ، وفي رواية الحميديِّ «أنَّه كان يأتي أهلَهُ ولا يأتيهم». وفي روايةِ أبي ضمرةَ _عند الإسماعيليِّ_ «أنَّه صلعم أقام أربعين»(4). وفي رواية وُهَيب، عن هشام(5) _عند أحمدَ_ «ستَّة أشهرٍ» وجمع بأنَّ ستَّة الأشهر(6) من ابتداء تغيُّر مزاجه، والأربعين يومًا من استحكامهِ، لكن في «جامع معمر» عن الزُّهريِّ أنَّه لبث سنةً. وإسناده صحيحٌ. قال ابنُ حجر: فهو المعتمدُ (قَالَ سُفْيَانُ) بن عيينةَ، بالسَّند السَّابق: (وَهَذَا) النَّوع المذكور هنا (أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ إِذَا كَانَ كَذَا فَقَالَ) صلعم : (يَا عَائِشَةُ، أَعَلِمْتِ أَنَّ اللهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟) وفي رواية عمرة عن عائشةَ عند البيهقي: «إنَّ اللهَ أَنْبأنِي(7) بمرضي» أي: أخبرني (أَتَانِي رَجُلَانِ) هما جبريل وميكائيل (فَقَعَدَ(8) أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي) وهو جبريل (وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ) بتشديد التَّحتيَّة، وهو ميكائيل (فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلآخَرِ) وللحميديِّ(9) «فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلِي لِلذي عِنْدَ رأسي». قال ابنُ حجر: وكأنَّها أصوبُ: (مَا(10) بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ) أي: مسحورٌ (قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ(11)) بهمزةٍ مفتوحةٍ فعين ساكنةٍ (رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفٌ لِيَهُودَ كَانَ مُنَافِقًا) وسبقَ أنَّ في «مسلمٍ» أنَّه كان كافرًا(12)، وجمع بينهما بأنَّ من أطلق أنَّه يهوديٌّ نظر إلى ما في نفسِ الأمر، ومن أطلقَ عليه(13) منافقًا نظر إلى ظاهرِ أمره، وحكى عياضٌ في «الشِّفاء» أنَّه كان أسلم، وعند ابن سعدٍ عن الواقديِّ من مرسلِ عمر بن الحكم لمَّا رجع رسولُ الله صلعم من الحديبية في ذي الحجَّة ودخل المحرَّم من سنة سبعٍ جاء رؤساءُ اليهود إلى لبيدِ بن أعصم(14) وكان حليفًا في بني زُرَيقٍ وكان ساحرًا، فقالوا له: أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمَّدًا فلم نصنع شيئًا، ونحن نجعلُ لك جُعْلًا على أن تسحرَه لنا سحرًا يَنْكَؤُهُ(15)، فجعلوا له ثلاثةَ دنانير (قَالَ: وَفِيمَ؟) سحرهُ (قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ) بالقاف (قَالَ: وَأَيْنَ؟ قَالَ: فِي جُفِّ طَلْعَةٍ) بإضافة جفٍّ لطلعة وتنوينها / (ذَكَرٍ) بالتَّنوين صفةٌ للجُفِّ، وهو وعاءُ الطَّلع (تَحْتَ رَعُوفَةٍ)‼ ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهَنيِّ: ”راعوفة“ بزيادة ألف بعد الرَّاء. قال في «الفتح»: وهو كذلك لأكثر الرُّواة، وعكس ابن التِّين، وهو حجر يترك في البئرِ عند الحفر ثابتٌ لا يستطاع قلعه يقومُ عليه المستقي، وقيل: حجرٌ على رأس البئر يستقِي عليه المستقي، وقيل: حجرٌ بارزٌ من طيِّها يقفُ عليه المستقي والنَّاظر فيها، وقيل: في أسفلِ البئر يجلسُ عليه الَّذي ينظفها لا يمكن قلعه لصلابتهِ (فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ. قَالَتْ) عائشةُ ♦ : (فَأَتَى النَّبِيُّ صلعم البِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ) وفي روايةِ ابن نُمير قالت(16): أفلا أخرجتَه؟ قال: «لا». وفي «باب السِّحر» من طريق عيسى بن يونس أفلا استخرجتَه؟ قال: «قد عافانِي الله» [خ¦5763].
          قال ابن بطَّال _فيما ذكرهُ عنه في «فتح الباري» عن المهلَّب_: وقد اختلف الرُّواة على هشام في إخراجِ السِّحر المذكور، فأثبتَه سفيان وجعلَ سؤالَ عائشة عن النُّشرة، ونفاهُ عيسى بن يونس وجعل سؤالها عن الاستخراجِ، ولم يذكرِ الجواب. وصرَّح به أبو أسامة، قال: والنَّظر يقتضِي ترجيحَ رواية سفيان(17) لتقدِّمه في الضَّبط، ويؤيِّده أنَّ النُّشرة لم تقع في رواية أبي أسامة، والزِّيادة من سفيان مقبولةٌ لأنَّه أثبتهم، ولا سيَّما أنَّه كرَّر استخراج السِّحر في روايته مرَّتين يعني بالمرَّة الأخرى في قوله: قال: فاستخرجه(18)، فبعُدَ من الوهم، وزادَ ذكر النُّشرة وجعلَ جوابه صلعم عنها بـ«لا» بدلًا عن الاستخراج، قال: ويحتمل وجهًا آخر فذكر ما محصله أن الاستخراجَ(19) المنفيَّ في رواية أبي أسامة غير الاستخراج المثبت في رواية سفيان، فالمثبتُ هو استخراج الجُفِّ، والمنفيُّ استخراجُ ما حواه. قال: وكأن السِّرَّ في ذلك أنْ لا يراه النَّاس فيتعلَّمه من أراد السِّحر. انتهى.
          وفي حديثِ عَمرة عن عائشة من الزِّيادة أنَّه وجد في الطَّلعة تمثالًا من شمعِ، تمثال رسول الله صلعم ، وإذا فيه إبرٌ مغروزةٌ، وإذا وَتَرٌ فيه إحدى عشرة عقدةً، فنزلَ جبريلُ بالمعوِّذتين، وكلَّما(20) قرأ آية انحلَّت عقدة، وكلَّما نزع إبرةً وجد لها ألمًا ثمَّ يجدُ بعدها راحة.
          (فَقَالَ) صلعم لعائشة: (هَذِهِ البِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا) بهمزة مضمومة فراء مكسورة، وللكُشمِيهنيِّ: ”رأيتُها“ براء فهمزة مفتوحتين (وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ) في حمرةِ لونه، وعند ابنِ سعدٍ وصحَّحه الحاكم من حديث زيدِ بن أرقم: «فوجدوا الماء أخضر» (وَكَأَنَّ نَخْلَهَا) أي: نخل البستان الَّتي(21) هي فيه (رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ) وفي رواية عَمرة عن عائشة: «فإذا نخلها الَّذي يَشربُ‼ من مائها قد التوَى سعفُه كأنَّه رؤوس الشَّياطين»، أي: في(22) قبحِ مَنظرها أو الحيَّات إذ العرب تسمِّي بعضَ الحيَّات شيطانًا، وهو ثعبانٌ قبيحُ الوجه (قَالَ) صلعم : (فَاسْتُخْرِجَ) بضم التاء وكسر الراء، من البئرِ (قَالَتْ) عائشة ♦ : (فَقُلْتُ) له صلعم : (أَفَلَا أَيْ تَنَشَّرْتَ؟) وسقطتْ لفظة «أي» في بعض النُّسخ، والنُّشرة: الرُّقية التي يحلُّ بها(23) عقد الرَّجل عن مباشرةِ امرأته (فَقَالَ: أَمَا) بالتَّخفيف (وَاللهِ) جرٌّ بواو القسم، ولابنِ عساكرَ وأبوي الوقتِ وذرٍّ(24): ”أمَّا الله“ بتشديد الميم وحذف الواو والرفع (فَقَدْ شَفَانِي) أي: من ذلك السِّحر (وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرًّا).


[1] في (د): «محمد بن عبد الله».
[2] في (د): «مبنيًا».
[3] في (م): «لم»، وفي (د): «ولا».
[4] في (ص) زيادة: «أي يومًا».
[5] هكذا قال ☼ وليس هذا في رواية وهيب عند أحمد (24650) وإنما هو عنده من رواية معمر عن هشام (24347).
[6] في (د): «الستة أشهر».
[7] في (م) و(د): «أفتاني».
[8] في (د): «قعد».
[9] في (م): «للحمويي».
[10] في (د): «قال ما».
[11] في (د): «لبيد الأعصم».
[12] سبق في [خ: 5763] أنه كان يهوديًا، وهو الموافق لما في مسلم (2189).
[13] في (م) زيادة: «أنه».
[14] في (د): «لبيد الأعصم».
[15] في (م): «نكاية».
[16] «قالت»: ليست في (د).
[17] في (م): «هشام».
[18] في (د): «فاستخرج».
[19] قوله: «قال ويحتمل وجهًا آخر فذكر ما محصله أن الاستخراج»: ليس في (س).
[20] في (د): «فكلما».
[21] في (ب) و(س): «الذي».
[22] في (د): «من».
[23] في (د): «التي بها تحلُّ».
[24] في (د): «وأبوي ذر والوقت».