إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: عرضت علي الأمم فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط

          5705- وبه قال: (حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ) ضدُّ الميمنة، أبو الحسن البصريُّ قالَ: (حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ) محمَّدٌ الضَّبيُّ قال: (حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين، ابن عبد الرَّحمن الواسطيُّ (عَنْ عَامِرٍ) هو: ابنُ شَرَاحيل الشَّعبيُّ (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) الخُزاعيِّ، من فضلاءِ الصَّحابة ( ☻ (1)) أنَّه (قَالَ: لَا رُقْيَةَ) بضم الراء وسكون القاف، أي: لا عُوْذَةَ (إِلَّا مِنْ عَيْنٍ) يصيبُ العائنُ بها غيرَه إذا استحسنهُ عند رؤيتهِ له، فتضرَّر منه ذلك المرئيُّ (أَوْ) من (حُمَةٍ) بالحاء المهملة وفتح الميم المخففة، سمُّ عقربٍ أو الإبرةُ الَّتي تضربُ بها العقرب، أو كلُّ هامَّةٍ ذات سمٍّ من حيَّةٍ أو عقربٍ، وإطلاقُه على الإبرةِ للمجاورةِ؛ لأنَّ السُّمَّ يخرجُ منها، وأصلها حُمَوٌ أو حُمَيٌ، بوزن صُرَد(2)، والهاء فيه عوضٌ من الواو أو الياء المحذوفةِ، وليس المرادُ نفي جوازِ الرُّقية في غيرهما، بل تجوزُ الرُّقيةُ بذكر الله تعالى في جميع الأوجاعِ، فالمعنى لا رقيةَ أولى وأنفعُ منهما، كما تقول: لا فتى إلَّا عليٌّ، ولا سيف إلَّا ذو الفقارِ. قال حصينُ بن عبد الرَّحمن: (فَذَكَرْتُهُ) أي: «لا رقيةَ...» إلى آخره (لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : عُرِضَتْ) بضم العين مبنيًّا للمفعول (عَلَيَّ الأُمَمُ) والأممُ رفع نائب عن الفاعلِ، وعند التِّرمذيِّ والنَّسائيِّ من طريق عَبْثَر / بن القاسمِ _بمهملة فموحدة ثمَّ مثلثة، بوزن جعفر_ في روايتهِ عن حصينِ بن عبد الرَّحمنِ أنَّ ذلك كان ليلة الإسراءِ، وهو محمولٌ على القول بتعدُّد الإسراءِ وأنَّه وقع بالمدينةِ غير الَّذي وقع بمكَّة، فعند البزَّار بسندٍ صحيحٍ، قال: أكثرنا الحديث عندَ رسول الله صلعم ثمَّ عُدنا إليه، قال: «عُرِضتْ عليَّ الأنبياءُ اللَّيلة بأممها» (فَجَعَلَ النَّبِيُّ) بالإفراد (وَالنَّبِيَّانِ) بالتَّثنية‼ (يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ) ما دون العشرةِ من الرِّجال أو إلى الأربعين (وَالنَّبِيُّ) يمرُّ (لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ) ممَّن أخبرهم عن الله لعدم إيمانهم (حَتَّى رُفِعَ لِي) براء مضمومة وكسر الفاء (سَوَادٌ عَظِيمٌ) ضدُّ البياضِ، الشَّخصُ يرى من بعدٍ، وفي «الرِّقاق»: «سوادٌ كثيرٌ» [خ¦6541] بدل قوله هنا: «عظيمٌ» وأشار به إلى أنَّ المرادَ الجنس لا الواحد، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”حتَّى وقعَ لي سوادٌ عظيمٌ“ «بواو وقاف» مفتوحتين بدل: «الراء والفاء»، والأوَّلُ هو المحفوظُ في جميع طُرقِ هذا الحديث كما قالهُ في «الفتح» (قُلْتُ: مَا هَذَا) السَّواد الَّذي أراهُ؟ (أُمَّتِي هَذِهِ. قِيلَ: هَذَا) ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: ”بل هذَا(3)“ (مُوسَى وَقَوْمُهُ، قِيلَ: انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ) فنظرتُ إليه (فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلأُ الأُفُقَ، ثُمَّ قِيلَ لِي: انْظُرْ هَهُنَا وَهَهُنَا فِي آفَاقِ السَّمَاءِ) فنظرتُ (فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلأَ الأُفُقَ، قِيلَ: هَذِهِ أُمَّتُكَ) المؤمنون (وَيَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ).
          فإن قلت: قد ثبتَ أنَّه صلعم قال: إنَّه يعرفُ أمَّتهُ من بين الأُمم بأنَّهم غرٌّ محجَّلونَ، فكيف ظنَّ هنا أنَّهم أمَّةُ موسى؟ أُجيب بأنَّ الأشخاص الَّتي رآها هنا في الأُفق لا يُدْرِكُ منها إلَّا الكثرةَ من غير تمييزٍ لأعيانهم لبُعدهم، وأمَّا الأُخرى فمحمولةٌ على ما إذا قرُبوا منهُ كما لا يخفى.
          (ثُمَّ دَخَلَ) صلعم حجرتهُ (وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ) لأصحابه مَن السَّبعون ألفًا الدَّاخلونُ الجنَّة بغير حسابٍ (فَأَفَاضَ القَوْمُ) في الحديث، اندفَعوا فيه، وناظرُوا عليه (وَقَالُوا: نَحْنُ الَّذِينَ آمَنَّا بِاللهِ) تعالى (وَاتَّبَعْنَا رَسُولَهُ) صلعم (فَنَحْنُ) معشر الصَّحابة (هُمْ أَوْ) هم (أَوْلَادُنَا الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلَامِ، فَإِنَّا وُلِدْنَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَبَلَغَ) ذلك القول (النَّبِيَّ صلعم فَخَرَجَ) من حجرتهِ (فَقَالَ) الَّذين يدخلون الجنَّة بغيرِ(4) حسابٍ (هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ) مُطلقًا، أو لا يسترقُون برُقى الجاهليَّة (وَلَا يَتَطَيَّرُونَ) ولا يتشاءمونَ بالطُّيورِ ونحوها، كما هو عادتُهم قبل الإسلامِ (وَلَا يَكْتَوُونَ) يعتقدون أنَّ الشِّفاء من(5) الكيِّ كما كان يعتقدُ أهلُ الجاهليَّة (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي: يفوِّضون إليه تعالى في ترتيب المسبَّبات على الأسبابِ، أو يتركُون الاسترقاء والطِّيَرة والاكتواء، فيكون من باب العامِّ بعد الخاصِّ لأنَّ كلَّ واحدٍ منها صفةٌ خاصَّةٌ من التَّوكل، وهو أعمُّ من ذلك، وقولُ بعضهم: لا يستحقُّ اسم التَّوكُّل إلَّا من لم يُخالط قلبَه خوفُ غيرِ الله حتَّى لو هجم عليه الأسدُ لا ينزعج، وحتَّى‼ لا يسعى في طلب الرِّزق؛ لكون الله ضمنه له. ردَّه الجمهورُ وقالوا: يحصلُ التَّوكلُ بأن يثقَ بوعدِ الله ويوقن بأنَّ قضاءه واقعٌ، ولا يتركُ اتِّباعَ السُّنَّة في اتِّباع الرِّزق ممَّا لابدَّ له منه من مطعمٍ ومشربٍ(6) وتحرُّزٍ من عدوٍّ بإعداد السِّلاح وإغلاق الباب، لكنَّه مع ذلك لا يطمئنُّ إلى الأسبابِ بقلبهِ بل يعتقدُ أنَّها لا تجلبُ نفعًا ولا تدفعُ ضررًا، بل السَّببُ والمسبَّب فعله، والكلُّ بمشيئته لا إله إلَّا هو، فإذا وقع من المرءِ رُكونٌ إلى السَّبب قدح في توكُّله (فَقَالَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ) بضم العين المهملة وتشديد الكاف وتخفف، ومِحْصَن: بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين ثم نون، وكان من أجملِ الرِّجال وممَّن شهد بدرًا: (أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟) بهمزة الاستفهامِ الاستخباريِّ، وفي رواية «الرِّقاق» وغيرها: «ادعُ اللهَ أن يجعلَني منهُم» [خ¦6541] وجمع بينهما بأنَّه سألَ الدُّعاء أولًا فدعا له، ثمَّ استفهمَ هل أُجيب(7) فقال: أمنهم أنا؟ (قَالَ) صلعم : (نَعَمْ) أنت منهم (فَقَامَ آخَرُ) قال الخطيبُ: هو سعدُ بن عُبادة (فَقَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا) يا رسول اللهِ؟ (قَالَ) صلعم : (سَبَقَكَ بها عُكَّاشَةُ) قال ذلك له حسمًا للمادَّةِ لأنَّه لو قال: نعم لأوشك أن يقول ثالثٌ ورابعٌ وخامسٌ(8) وهلمَّ جرًّا، وليس كلُّ / النَّاس يصلُح لذلك.
          وهذا الحديثُ قد مرَّ باختصارٍ في: «باب وفاةِ موسى ╕ » من «أحاديث الأنبياءِ» [خ¦3410] وأخرجهُ أيضًا في «الرِّقاق» [خ¦6541]، ومسلمٌ في «الإيمانِ»، والتِّرمذيُّ في «الزُّهدِ»، والنَّسائيُّ في «الطِّبِّ».


[1] وفي (ص): «عنه»، وفي (ص) زيادة: «قال قال رسول الله صلعم ».
[2] في (ب): «سرد».
[3] في (د): «بل هو».
[4] في (د): «يدخلون بلا».
[5] في (م): «في».
[6] في (د): «وملبس».
[7] في (م): «أجيبت».
[8] «وخامس»: ليست في (س).