إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب التسمية على الذبيحة ومن ترك متعمدًا

          ░15▒ (بابُ) حكمِ (التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَ) حكم (مَنْ تَرَكَ) التَّسمية، حال كونه (مُتَعَمِّدًا) وتقييدُه بالعمدية مشعرٌ بالتَّفرقة بين العمد والنِّسيان، ويدلُّ لذلك قولهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ : (مَنْ نَسِيَ) التَّسمية عند الذَّبح (فَلَا بَأْسَ) يأكل ما ذبح. ومفهومه: عدم الحلِّ مع العمديَّة وهذا وصله الدَّارقطنيُّ، وأخرجه سعيد بن منصور، عن ابن عبَّاس فيمن ذبحَ ونسي التَّسمية فقال: «المسلمُ فيه اسم الله، وإن لم يذكر التَّسمية» وسندهُ صحيحٌ، وهو موقوفٌ، وأخرجهُ الدَّارقطنيُّ‼ من وجهٍ آخر عن ابن عبَّاسٍ مرفوعًا.
          (وَقَالَ(1) اللهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ}) عند الذَّبح ({وَإِنَّهُ}) وإنَّ أكلَه ({لَفِسْقٌ}) وسقط لأبي ذرٍّ «{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ(2) (وَالنَّاسِي لَا يُسَمَّى فَاسِقًا) كما هو ظاهرٌ من(3) الآية؛ لأنَّ ذكر الفسقِ عقبه إنْ كان عن فعلِ المكلَّف وهو إهمالُ التَّسمية، فلا يدخلُ النَّاسي لأنَّه غيرُ مكلَّفٍ، فلا يكون فعله فسقًا، وإن كان عن نفسِ الذَّبيحة الَّتي لم يسمَّ عليها، وليستْ مصدرًا فهو منقولٌ من المصدرِ، والذَّبيحة المتروك التَّسمية عليها نسيانًا لا يصحُّ تسميتها فسقًا؛ إذ الفعل الَّذي نقل منه هذا الاسم ليس بفسقٍ، فإمَّا أن نقولَ(4): لا دليلَ في الآيةِ على تحريم المنسيِّ(5) فبقِي على الأصلِ الإباحة، أو نقول: فيها دليل من حيث مفهومُ تخصيص النَّهي بما هو فسقٌ، فما ليس بفسقٍ ليس بحرامٍ، قاله صاحب «الانتصاف» من المالكيَّة.
          وقال في «المدارك»: وظاهرُ الآية تحريمُ متروك التَّسمية، وخصَّت حالة النِّسيان بالحديثِ، أو يجعل النَّاسي ذاكرًا تقديرًا، ومن أوَّل الآية بالميتة، أو بما ذُكِر غيرُ اسم الله عليه، فقد عدلَ عن ظاهر اللَّفظ، ولعلَّ المؤلِّف أشار إلى الزَّجر عن الاحتجاج لجواز(6) ترك التَّسمية بتأويلِ الآية، وحملها على غيرِ ظاهرها(7) حيث قال:
          (وَقوْلِهِ) تعالى: ({وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ}) قال في «اللباب»: إبليس وجنوده ({لَيُوحُونَ}) ليوسوسونَ ({أَوْلِيَآئِهِمْ}) من المشركين ({لِيُجَادِلُوكُمْ}) ليخاصموا محمَّدًا صلعم وأصحابه بقولهم: ما ذُكِر اسم الله عليه فلا تأكلوهُ، وما لم يذكرِ اسمُ الله عليه فكلوهُ. رواه(8) أبو داود وابن ماجه والطَّبريُّ بسندٍ صحيحٍ عن ابن عبَّاس ({وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ}) في استحلالِ ما حرَّمه الله ({إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام:121]) لأنَّ مَن اتَّبع غير الله في دينهِ فقد أشركَ به، ومن حقِّ المتديِّن أن لا يأكلَ ممَّا لم يذكرِ اسم الله عليه؛ لِمَا في الآية من التَّشديد العظيمِ.
          وقال عكرمةُ: المرادُ بــ{الشَّيَاطِينَ}: مردةُ المجوسِ {لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ} من مُشركي قريش، وذلك لأنَّه(9) لما نزلَ تحريمُ الميتة سمعَهُ المجوس من أهل فارس، فكتبوا إلى قريشٍ وكانت بينهم مُكاتبة: إنَّ محمَّدًا وأصحابه يزعمون أنَّهم يتَّبعون أمرَ الله، ثمَّ يزعمون أنَّ ما يذبحونَه حلالٌ، وما يذبحه الله حرامٌ، فوقعَ في نفس ناس من المسلمين شيءٌ من ذلك، فأنزل اللهُ هذه الآية.
          والحاصل من اختلافِ العلماء: تحريمُ تركها عمدًا ونسيانًا، وهو قولُ ابن سيرين، والشَّعبيِّ، وطائفةٍ من المتكلِّمين، ورواية عن أحمد لظاهر الآية. أو تخصيص التَّحريم بغير النِّسيان وهو مذهب‼ الحنفيَّة ومشهور مذهب المالكيَّة والحنابلة لما سبقَ. والإباحة مطلقًا عمدًا أو نسيانًا وهو مذهب الشَّافعيَّة.
          وروي عن مالك وأحمد محتجَّين بأنَّ المراد من الآية: الميتات وما ذُبح على غير اسم الله لقولهِ تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} والفسقُ في ذكر غير اسم الله، كما قال في آخر السُّورة: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} إلى قولهِ: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ}[الأنعام:145] / وأجمع المسلمون على أنَّه لا يفسق آكل ذبيحة المسلم التَّارك للتَّسمية. وأيضًا قولهُ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} فإنَّ هذه المناظرة كانت في الميتة كما مرَّ. وقال تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وهذا مخصوصٌ بما ذبح على اسم النُّصب؛ يعني: لو رضيتُم بهذه الذَّبيحة الَّتي ذبحتْ على اسم إلَهيَّة(10) الأوثان فقد(11) رضيتُم بإلَهيَّتِها(12) وذلك يوجب الشِّرك.
          قال إمامنا الشَّافعيُّ ☼ : فأوَّل الآية وإن كان عامًّا بحسب الصِّيغة إلَّا أنَّ آخرها لمَّا حصلتْ فيه هذه القيود الثَّلاثة علمنا أنَّ المراد من العمومِ الخصوص. وقال صاحب «فتوح الغيب» ⌂ : والمجادلةُ هي قولهم: لم لا تأكلونَ ما قتله الله، وتأكلون ما قتلتموهُ أنتم؟ وذلك إنَّما يصحُّ في الميتة، فدخل بقولهِ: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ما أهلَّ لغير الله فيه. وبقولهِ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ} الميتة، فتحقَّق قول الشَّافعيِّ ☼ : إنَّ النَّهي مخصوصٌ بما ذُبح على النُّصب، أو مات حتفَ أنفهِ. واختُلف في قوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فقيل: جملةٌ مستأنفةٌ، قالوا: ولا يجوزُ أن تكون منسوقة(13) على سابقتها لأنَّ الأولى طلبيَّة وهذه خبريَّة. وقيل: إنَّها منسوقةٌ على السَّابقة، ولا يضرُّ تخالفهما(14)، وهو مذهب سيبويه. وقيل: إنَّها حاليَّة، أي: لا تأكلوه والحال أنَّه فسقٌ.
          قال في «اللباب»: وقد تبجَّح الرَّازي بهذا الوجه على الحنفيَّة حيث قلبَ دليلهم عليهم بهذا الوجه، وذلك لأنَّهم يمنعونَ مِنْ أكْلِ متروك التَّسمية، والشَّافعيَّة لا يمنعون منه، استدلَّ الحنفيَّة بظاهر الآية، فقال الرَّازيُّ: هذه الجملة حاليَّة ولا يجوز أن تكون معطوفة لتخالفهما طلبًا وخبرًا، فتعيَّن أن تكون حاليَّة، وإذا كانت حاليَّة كان المعنى: لا تأكلوه حال كونه فسقًا، ثمَّ هذا الفسق(15) مجملٌ فسَّره الله تعالى في موضعٍ آخر، فقال: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ} يعني: أنَّه إذا ذكر غير اسم الله على الذَّبيحة فإنَّه لا يجوزُ أكلها لأنَّه فسق. وقد يجابُ بأن يقال: سلمنا أنَّ ما أهلَّ لغير الله به يكون فسقًا، ونحن نقول به، ولا يلزم من ذلك أنَّه إذا لم يذكر اسم الله عليه ولا اسم غيره أن يكون حرامًا، وللنِّزاع‼ فيه مجالٌ من وجوه منها:
          أنَّا لا نسلِّم امتناع عطف الخبر على الطَّلب والعكس، كما مرَّ عن(16) سيبويه، وإن سُلِّم فالواو للاستئناف وما(17) بعدها مستأنفٌ، وإن سلِّم أيضًا فلا نسلِّم أنَّ {فِسْقًا} في الآية الأُخرى مبيِّن(18) للفسقِ في هذه(19) الآية، فإنَّ هذا ليس من باب المجملِ والمبيَّن لأنَّ له شروطًا ليست موجودة هنا، وسقط قوله: «{لِيُجَادِلُوكُمْ}...» إلى آخره لأبي ذرٍّ.


[1] في (م): «قول».
[2] «وسقط لأبي ذر وإنه لفسق»: ليست في (د).
[3] في (م): «عن».
[4] في (م): «يقول».
[5] في (م): «الفسق».
[6] في (م): «بجواز».
[7] في (ص): «غيرها».
[8] في (م): «زاد»، وفي (د): «ورواه».
[9] في (د): «أنه».
[10] «إلهية»: ليست في (د).
[11] في (س): «لقد».
[12] في (م): «بآلهتها».
[13] في (م): «مسوقة».
[14] في (د) و(م): «مخالفتهما».
[15] في (م): «التعلق».
[16] في (ص): «عند».
[17] «وما»: ليست في (د).
[18] في (د): «مبينًا».
[19] «هذه»: ليست في (س).