إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر}

          ░21▒ (بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ}) يقسمون، وهي قراءةُ ابن عبَّاسٍ ☻ ، و{مِن} في ({مِن نِّسَآئِهِمْ}) متعلِّق بالجار والمجرور، أي: للَّذين، كما تقول: لك منِّي نصرةٌ، ولك منِّي معونةٌ، أي: للمولين من نسائهم / ({تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ})‼ أي: استقرَّ للمولين ترقُّب أربعة أشهرٍ، لا بـ {يُؤْلُونَ}(1) لأن آلى يعدَّى(2) بعلى، يقال: آلى فلانٌ على امرأتهِ، ويجوزُ أن يقال: عدِّي بمن لما في هذا القسم من مَعنى البعدِ، فكأنَّه قيل: يبعدونَ من نسائهم مولين، و{تَرَبُّصُ} مبتدأ خبره {لِّلَّذِينَ} وآلى♠ أصله: إئلاء، فأُبدلت الثَّانية ياء(3) لسكونها وانكسار(4) ما قبلها نحو إيمان(5)، وإضافة التربُّص اللَّاحقة من إضافة المصدر لمفعوله على الاتِّساع في الظَّرف حتَّى صار مفعولًا به.
          وكان الإيلاء في الجاهليَّة طلاقًا، فغيَّر الشَّرع حكمه وخصَّه بالحلف على الامتناعِ من وطء الزَّوجة مطلقًا، أو أكثر من أربعة أشهرٍ، وهو حرامٌ لما فيه من منعِ حقِّ الزَّوجة في الوطء. وأركانُه حالفٌ، ومحلوفٌ به، ومحلوفٌ عليه، ومدَّةٌ، وصيغةٌ، وزوجةٌ.
          فالحالف(6) شرطه زوجٌ مكلَّفٌ مختارٌ يتصوَّر منه الجماع، فلا يصحُّ من أجنبيٍّ كسيِّدٍ، ولا من غير مكلَّفٍ إلَّا السَّكران، ولا من مكرهٍ، ولا ممَّن لم يُتصوَّر منه الجماع كمجبوبٍ.
          وشرطه في المحلوفِ به كونه اسمًا أو صفةً لله تعالى، كقوله: والله أو والرَّحمن(7) لا أطؤكِ، أو كونه التزام ما يلزم بنذرٍ، أو تعليق طلاقٍ، أو عتقٍ، كقوله: إن وطئتكِ فللَّه عليَّ صلاةٌ، أو حجٌّ، أو صومٌ، أو عتقٌ، أو إن وطئتكِ فضرَّتك طالقٌ، أو فعبدي حرٌّ.
          وشرطه في المحلوف عليه ترك وطءٍ شرعيٍّ، فلا إيلاءَ بحلفهِ على امتناعه من تمتُّعه بها بغير وطءٍ.
          وفي المدَّة زيادة على أربعة أشهرٍ بأن يُطْلِق كأن يقول: والله لا أطؤكِ، أو يؤبِّد كقوله: واللهِ لا أطؤكِ أبدًا(8)، أو يقيَّد بزيادةٍ على أربعةِ(9) أشهرٍ(10)، كقوله: واللهِ لا أطؤك خمسةَ أشهرٍ، أو يقيِّد بمستبعدِ الحصول فيها، كقولهِ: واللهِ لا أطؤك حتَّى ينزلَ عيسى ابن مريم ╕ ، أو حتَّى أموت، فلو قُيِّد بالأربعة أو نقص عنها لا يكون إيلاءً بل مجرَّد حلفٍ لأنَّ المرأة تصبر عن الزَّوج أربعة أشهرٍ، وبعدها يفنى صبرها أو يقلُّ.
          وفي الصِّيغة لفظٌ يُشعر بالإيلاء، إمَّا صريحٌ كتغييبِ حشفةٍ بفرجٍ وجماعٍ، كقوله: والله لا أُغيِّب حشفتِي بفرجكِ، أو لا أطؤكِ، أو كنايةٌ كملامسةٍ ومباضعةٍ، كقوله: والله لا أُلامسكِ، أو لا أباضعُكِ.
          وفي الزَّوجة تصوُّر وطءٍ، فلا يصحُّ من رتقاء وقَرْناء ({فَإِنْ فَآؤُوا}) أي: (رَجَعُوا) إلى الوطء عن الإصرار بتركه ({فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}) حيث شرع الكفَّارة ({وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ}) بترك الفيءِ ({فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ}) لإيلائه ({عَلِيمٌ}[البقرة:226_227]) بنيَّته، وهو وعيدٌ على إصرارهِم وتركهم الفيئة، والمعنى عند إمامنا الشَّافعيِّ رحمة الله عليه: فإن فاؤوا وإن عزموا بعد مضيِّ المدَّة لأنَّ الفاء للتَّعقيب، فيكون الفيءُ قبل مضيِّ المدَّة وبعدها، وعند مضيِّها‼ يوقف إلى أن يفيءَ أو يطلِّق، وعبارته كما في «المعرفة» للبيهقيِّ: ظاهرُ كتاب الله يدلُّ على أنَّ له أربعة أشهرٍ، ومن كانت له أربعة أشهرٍ أجلًا له، فلا سبيلَ عليه فيها، حتَّى تنقضيَ الأربعة الأشهر كما لو أجلتني أربعةَ أشهرٍ لم يكن لك أخذ حقِّك منِّي حتَّى تنقضيَ الأربعة الأشهر(11)، ودلَّ على أنَّ عليه إذا مضتِ الأربعة الأشهر واحدًا من حكمين إمَّا أن يفيءَ أو يطلِّق، فقلنا بهذا، وقلنَا: لا يلزمُه طلاقٌ بمضيِّ أربعة أشهرٍ حتَّى يحدثَ فيئةً أو طلاقًا. قال: والفيئةُ الجماعُ إلَّا من عُذرٍ. انتهى.
          وعند الحنفيَّة: الفيء في المدَّة لا غير.
          وأجاب الشَّيخ كمال الدِّين بأنَّ الفاء لتعقيب المعنى في الزَّمان في عطف المفرد كجاء زيدٌ فعمرٌو، وتدخل الجمل لتفصيل مجملٍ قبلها وغيره(12)، فإن كانت للأوَّل نحو: {فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً}[النساء:153] {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي}[هود:45] ونحو: «توضَّأ فغسل وجهه ويديه ورجليه ومسح رأسه» فلا يفيدُ ذلك التَّعقيب، بل التَّعقيب الذِّكري بأنْ ذكر التَّفصيل بعد الإجمال وإن كانت لغيره فكالأوَّل، كجاء زيدٌ فقام عمرٌو، فكلٌّ من التَّعقيبين جائزُ الإرادةِ في الآية: المعنويِّ بالنِّسبة إلى الإيلاءِ {فَإِنْ فَآؤُوا} بعد الإيلاء، والذِّكري فإنَّه لمَّا ذكر تعالى أنَّ لهم من نسائهم أن يتربَّصوا أربعة أشهرٍ من غير بينونةٍ مع عدم الوطء كان موضعُ تفصيل الحالِ في الأمرين، فقوله تعالى: {فَإِنْ فَآؤُوا} إلى قوله: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} واقعٌ(13) لهذا الغرض، فيصحُّ كون المراد {فَإِنْ فَآؤُوا}، أي: رجعوا عمَّا استمرُّوا عليه بالوطءِ في المدَّة تعقيبًا على الإيلاء التَّعقيب الذِّكري، أو / بعدها تعقيبًا على التَّربُّص {فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لِمَا حدث منهم من اليمين على الظُّلم وعَقْدِ القلب. انتهى.
          وسياق الآية كلِّها لابنِ عساكرَ، وقال في «الفتح»: لكريمة. ولغيرهما(14) بعد قوله: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}: ”إلى قوله: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}“ لكنَّه في الفرع رقمَ عليه علامةَ السُّقوط لأبي ذرٍّ.


[1] في (د): «يؤولون».
[2] في (د): «يتعدى».
[3] في (س): «ألفًا».
[4] في (س): «وانفتاح».
[5] في (س): «آمن».
[6] في (د): «والحالف».
[7] في (د): «والرحمن».
[8] «أو يؤبد كقوله والله لا أطؤك أبدًا»: ليست في (د).
[9] في (م) و(ص): «الأربعة».
[10] «بزيادة على الأربعة أشهر»: ليست في (د).
[11] قوله: «كما لو أجلتني ... أربعة أشهر» ليس في (د).
[12] في (د): «أو غيره».
[13] في (د): «دافع».
[14] في (د): «لغيرها».