إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب: لا طلاق قبل النكاح

          ░9▒ هذا (بابٌ) بالتَّنوين: (لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ) لو(1) قال لأجنبيَّةٍ: إن تزوَّجتك فأنت طالقٌ فلغوٌ للحديث المرويِّ عند أبي داودَ وقال التِّرمذيُّ: حسنٌ صحيح: «لا طلاق إلَّا بعد نكاحٍ»، وللحاكم من رواية جابر: «لا طلاقَ لمن لا يملكُ» وقال: صحيحٌ على شرطهما، أي: لا طلاق واقعٌ (وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}) أي: تزوَّجتم، والنِّكاح هو الوطءُ في الأصل، وتسميةُ العقد نِكاحًا لملابسته(2) له من حيث إنَّه طريقٌ له كتسميةِ الخمر إثمًا لأنَّها سببه، ولم يردْ لفظ النِّكاح في القرآنِ إلَّا في معنى العقدِ لأنَّه في معنى الوطءِ من باب التَّصريح به، ومنْ آداب القرآن الكناية عنه ({ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}[الأحزاب:49]) فلا(3) تمسكوهنَّ ضرارًا، وسقط لأبي ذرٍّ قوله «باب» إلى آخر قوله: «وقول الله تعالى» وثبتَ عنده: ”{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}“ لكن قال الحافظ ابن حجرٍ: إنَّ لفظ الباب أيضًا ثابتٌ عندهُ، وذكر الآية إلى قوله: ”{مِنْ عِدَّةٍ}“ وحذف الباقي وقال: ”الآيةَ“. قلت: وكذا هو ثابتٌ في «اليونينيَّة»(4).
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ فيما أخرجه أحمدُ: (جَعَلَ اللهُ الطَّلَاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ) وروى ابنُ خُزيمة والبيهقيُّ من طريقهِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ: «سئل ابنُ عبَّاسٍ عن الرَّجل يقول: إنْ تزوَّجت فلانة فهي طالقٌ، فقال: ليس بشيءٍ إنَّما الطَّلاق لما ملكَ(5)، قالوا: فابن مسعودٍ كان يقول: إذا وقَّت وقتًا فهو كما قال، قال: يرحم الله أبا عبد الرَّحمن لو كان كما قال لقال الله: إذا طلَّقتم المؤمنات ثمَّ نكحتموهنَّ».
          (وَيُرْوَى) ولابن عساكرَ: ”ورُوي“ (فِي ذَلِكَ) أي: في أنْ لا طلاق(6) قبل النِّكاح (عَنْ عَلِيٍّ) ☺ فيما رواه عبد الرَّزَّاق برجالٍ ثقاتٍ من طريق الحسن البصريِّ قال: «سألَ رجلٌ عليًّا قال: قلت: إن تزوَّجتُ فلانة فهي طالقٌ‼، فقال عليٌّ: ليس بشيءٍ»، لكنَّ الحسن لم يسمع من عليٍّ، وقد روي مرفوعًا فيما أخرجه البيهقيُّ، وأبو داود عن عليٍّ، قال: حفظتُ من رسولِ الله صلعم : «لا طلاقَ إلَّا مِن بعدِ نكَاحٍ، وَلا يُتم بعدَ احتلَامٍ» (وَ) عن (سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ) فيما رواه عبدُ الرَّزَّاق بإسنادٍ صحيحٍ، عن ابن جُريجٍ، بلفظ: أخبرني عبدُ الكريم الجزريُّ أنَّه سأل سعيدَ بن المسيَّب وسعيدَ بن جُبير(7) وعطاءَ بن أبي رباحٍ عن طلاق الرَّجل ما لم ينكح، فكلُّهم قال(8): لا طلاقَ قبل أن ينكِح إن سمَّاها وإن لم يسمِّها (وَ) عن (عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوَّام ممَّا(9) رواه سعيد بنُ منصورٍ بسندٍ صحيح: حدَّثنا حمَّاد بن زيدٍ، عن هشام بنِ عروةَ: أنَّ أباه كان يقول: كلُّ طلاقٍ أو عتقٍ قبل المِلك فهو باطلٌ (وَ) عن (أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن الحارث بنِ هشامٍ (وَعُبَيْدِ اللهِ) بضم العين (بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ) / بن مسعودٍ، فيما رواه يعقوبُ ابن سفيان والبيهقيُّ من طريقهِ من رواية ابن الهادِ، عن(10) المنذرِ بن أبي(11) عليِّ بنِ الحكم: أنَّ ابنَ أخيهِ خطبَ ابنة عمِّه، فتشاجروا في بعض الأمرِ، فقال الفتى: هي طالقٌ إنْ نكحتها حتَّى آكل الغضيضَ. قال: والغضيضُ: طلعُ النَّخل الذَّكرِ، ثمَّ ندموا على ما كان من الأمرِ، فقال المنذر: أنا آتيكُم بالبيانِ من ذلك، فانطلقَ إلى سعيد بن المسيَّب فذكرَ له، فقال ابنُ المسيَّب: ليس عليه شيءٌ طلَّق ما لا يملكُ. قال: ثمَّ إنِّي سألت عروةَ بن الزُّبير، فقال مثل ذلك، ثمَّ سألتُ أبا سلمة بن عبد الرَّحمن فقالَ مثل ذلك، ثمَّ سألتُ أبا بكر بن عبد الرَّحمن بن الحارث بن هشامٍ فقال مثل ذلك، ثمَّ سألتُ عُبيد الله بن عبد الله بنِ عُتبة بنِ مسعودٍ فقال مثلَ ذلك، ثمَّ سألتُ عمر بن عبد العزيز، فقال: هل سألتَ أحدًا؟ قلتُ: نعم، فسمَّاهم. قال: ثمَّ رجعتُ إلى القومِ فأخبرتهم.
          (وَ) عن (أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ) لكن قال الحافظُ ابن حَجرٍ: لم أقفْ على إسناد إليه بذلك (وَ) عن (عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ) المشهور بزين العابدين، ممَّا أخرجه في «الغيلانيات» بلفظ: «لا طلاقَ إلَّا بعد نكاحٍ».
          (وَ) عن (شُرَيْحٍ) القاضي فيما رواه سعيد بن منصورٍ، وابنُ أبي شيبة من طريق سعيد بن جبيرٍ، عنه، قال: «لا طلاقَ قبل نكاحٍ» وسندهُ صحيحٌ.
          (وَ) عن (سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر) ممَّا رواه ابنُ أبي شيبة: أنَّه قال في الرَّجل يقول: يوم أتزوَّج فلانة فهي طالقٌ، قال: ليس بشيءٍ إنَّما الطَّلاق بعد النِّكاح. ورواه الدَّارقطنيُّ مرفوعًا من طريق أبي هاشم الرُّمانيِّ عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابنِ عمر، عن النَّبيِّ صلعم أنَّه سئل عن رجلٍ قال: يوم أتزوَّج فلانة فهي طالقٌ، فقال: «طلَّقَ مَا لَا يملِكُ» وفي سندهِ أبو خالدٍ الواسطيُّ، وهو واهٍ.
          (وَ) عن (القَاسِمِ) بن محمَّد بن أبي بكر الصِّدِّيق (وَسَالِمٍ) وهو: ابنُ عبد الله بن عمر، ممَّا رواه أبو عُبيد في «كتاب النِّكاح» له‼ عن هُشيم، ويزيد بن هارون، كلاهما عن يحيى بن سعيدٍ، قال: كان القاسمُ بن محمَّدٍ، وسالمُ بن عبد الله، وعمرُ بن عبد العزيز، لا يرون الطَّلاق قبل النِّكاح. وهذا إسنادٌ صحيحٌ، وقد سقط لأبي ذرٍّ قوله: «والقاسم وسالم».
          (وَ) عن (طَاوُسٍ) ممَّا أخرجه عبد الرَّزَّاق عن مَعمر، قال: كتبَ الوليدُ بن يزيد إلى أمراء الأمصار أن يكتبوا إليه بالطَّلاق قبل النِّكاح، وكان قد ابتُلي بذلك فكتب إلى عامله باليمن، فدعا ابن طاوس، وإسماعيل بن شَرُوس، وسماك بن الفضل، فأخبرهُم ابن طاوس، عن أبيه، وإسماعيل بن شَرُوس، عن عطاء، وسِمَاك بن الفضل، عن وهب بن منبِّه، أنَّهم قالوا: لا طلاقَ قبل نكاحٍ. قال سِمَاك من عنده: إنَّما النِّكاح عُقدةٌ تُعقد والطَّلاق يحلُّها، فكيف تحلُّ عقدةٌ قبل أن تُعقد (وَ) عن (الحَسَنِ) فيما رواه عبدُ الرَّزَّاق بلفظِ: «لا طلاق قبل النِّكاح، ولا عتقَ قبل المِلك» (وَ) عن (عِكْرِمَةَ) فيما رواهُ(12) الأثرمُ عن الفضل بنِ دكين، عن سويد بن نجيحٍ، قال: سألت عِكرمة مولى ابن عبَّاسٍ، قلت: رجل قالوا له: تزوَّج فلانةً، قال: هي يوم أتزوَّجها طالقٌ كذا وكذا، قال: إنَّما الطَّلاق بعد النِّكاح (وَ) عن (عَطَاءٍ) ممَّا رواه الطَّبرانيُّ(13) في «الأوسط» عنه: عن جابرٍ: أنَّ رسول الله صلعم قال: «لَا طلَاقَ إلَّا بعدَ نكَاحٍ، ولَا عتقَ إلَّا بعدَ مِلكٍ».
          (وَ) عن (عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ(14)) هو البجليُّ الكوفيُّ التَّابعيُّ كما قاله في «الفتح»، وجزم الكِرمانيُّ: أنَّه ابن سعد بن أبي وقَّاصٍ. قال ابن حجرٍ: وفيه نظرٌ، وتعقَّبه العينيُّ بأنَّ صاحب «رجال الصَّحيحين» لم يذكر عامرَ بن سعد البجليَّ، فالظَّاهر أنَّه ابنُ أبي وقَّاصٍ، ولم يقفْ على إسنادِ هذا الأثر.
          (وَ) عن (جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ) أبي الشَّعثاء البصريِّ ممَّا رواه سعيدُ بن منصورٍ، وفي رواية أبي ذرٍّ هنا: ”وسالم“ أي: ابن عبد الله بن عمر، وقد سبق.
          (وَ) عن (نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ) أي: ابن مُطعمٍ (وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ) القرظيِّ ممَّا وصلَه ابنُ أبي شيبةَ عنهما، أنَّهما قالا: لا طلاقَ إلَّا بعد نكاحٍ.
          (وَ) عن (سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) ممَّا وصله سعيد بنُ منصور (وَ) عن (مُجَاهِدٍ) ممَّا وصله ابنُ أبي شيبة، عن الحسن بن الرَّمَّاح، سألت سعيد بن المسيَّب ومجاهدًا، وعطاءً عن(15) رجلٍ قال: يوم أتزوَّج فلانةً فهي طالقٌ، فكلُّهم قال: ليس بشيءٍ. وزاد سعيدٌ: أيكون سيلٌ قبل مطرٍ.
          (وَ) عن (القَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عبد الله بن مسعودٍ ممَّا رواه ابنُ أبي شيبة بلفظ / : لا طلاقَ إلَّا بعد نكاحٍ.
          (وَ) عن (عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ) بفتح العين في الأوَّل، والهاء‼ وكسر الراء والصَّرف في الثاني، الأزديِّ، من أتباع التَّابعين ممَّا قال الحافظُ ابن حجرٍ: لم أقفْ على مقالتهِ موصولةً إلَّا في(16) كلام بعضِ الشُّرَّاح: أنَّ أبا عُبيدٍ أخرجه من طريقهِ.
          (وَ) عن (الشَّعْبِيِّ) عامر بن شُرَاحيل (أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ) لكن رواه وكيعٌ في «مصنفه» عن الشَّعبيِّ قال: إن قال: كلُّ امرأةٍ أتزوَّجها فهي طالقٌ فليس بشيءٍ فإذا وقَّت لزمه، وقال الكِرمانيُّ: ومقصودُ البخاريِّ من تعداد هذه الجماعة الثَّلاثة والعشرين من الفقهاء الأفاضل الإشعار بأنَّه يكاد أن يكون إجماعًا على أنَّه لا تُطلَّق المرأةُ قبل النِّكاح. وقال في «الفتح»: وقد تجوَّز البخاريُّ في نسبةِ جميع مَن(17) ذكر عنهم إلى القولِ بعدم الوقوعِ مطلقًا مع أنَّ بعضَهم يفصِّل وبعضهم يختلف عليه، ولعلَّ ذلك هو النُّكتةُ بتصديرهِ النَّقل عنهم بصيغةِ التَّمريض، والمسألة من الخِلافيَّات(18) الشَّهيرة، وللعلماء فيها مذاهب: الوقوع مطلقًا، وعدم الوقوع مطلقًا، والتَّفصيل بين ما إذا عمَّم أو عيَّن، والجمهور _وهو قول الشَّافعيِّ_ على عدمِ الوقوع. نعم حكى ابن الرِّفعة في «كفايته»(19) عن «أمالي أبي الفرج» وكتاب الحنَّاطي: أنَّ منهم من أثبت وقوعَ الطَّلاق، قال: واعلم أنَّ بعض الشَّارحين للمسألةِ استدلَّ بقوله صلعم : «لَا طلَاقَ قبلَ النِّكاحِ» مُقتصرًا على ذلك، وهو غير كافٍ لأنَّ مَن قال بوقوع الطَّلاق يقول بموجبهِ، فإنَّه يقول الطَّلاق إنَّما يقع بعد النِّكاح. انتهى.
          وأبو حنيفة وأصحابه بالوقوع مطلقًا لأنَّ التَّعليق بالشَّرط يمينٌ، فلا تتوقَّف صحَّته على وجود مُلك المحلِّ كاليمين بالله تعالى، وهذا لأنَّ اليمين تصرُّفٌ من الحالف في ذمَّة نفسه لأنَّه يوجبُ البرَّ على نفسه والمحلوف به ليس بطلاقٍ؛ لأنَّه لا يكون طلاقًا إلَّا بعد الوصول إلى المحلِّ، وعند ذلك الملك واجبٌ، وقال بالتَّفصيل جمهور المالكيَّة: فإن سمَّى امرأةً، أو طائفةً، أو قبيلةً، أو مكانًا، أو زمانًا يمكن أن يعيشَ إليه لَزِمه، واحترزوا بذلك عمَّا لو قال: إلى مئتي سنةٍ لا(20) يلزمه شيءٌ. وقال الشَّيخ خليلٌ في «توضيحه»: ولو قال لأجنبيةٍ: إن دخلتِ الدَّار فأنت طالقٌ، فلا(21) شيءَ عليه لعدم عِصمتها، ولو قال: إن تزوَّجتُك فأنت طالقٌ، فالمشهورُ اعتباره. وروى ابن وهبٍ عن مالكٍ: أنَّه لا يلزمه. قال في «الاستذكار»: ورُوي على نحو هذا القول أحاديث إلَّا أنَّها عند أهل الحديث معلولةٌ، ومنهم من يصحِّح بعضها، وأحسنها ما خرَّج قاسمٌ: قال رسول الله صلعم ‼: «لَا طلَاقَ إلَّا بعدَ نكَاحٍ» ولأبي داود: «لَا طلَاقَ(22) إلَّا فيمَا يملِكُ».
          قال البخاريُّ: وهو أصحُّ شيءٍ في الطَّلاق قبل النِّكاح. وأُجيب عنها بأنَّا نقول بموجبها لأنَّ الَّذي دلَّ عليه الحديث إنَّما هو انتفاءُ وقوع الطَّلاق قبل النِّكاح، ونحن نقول به، ومحلُّ النِّزاع إنَّما هو التزام الطَّلاق.


[1] في (س): «فلو».
[2] في (م): «للملابسة».
[3] في (ب) و(س): «ولا».
[4] «قلت: وكذا هو ثابتٌ في اليونينيَّة»: وقع في (م) بعد لفظ: (ثابت عنده) المتقدم.
[5] في (د): «تملك».
[6] في (ص): «الطلاق».
[7] «سعيد بن جبير»: ليست في (س).
[8] في (م): «قالوا».
[9] في (م) و(د): «فيما».
[10] في (م) زيادة: «ابن».
[11] لفظة: «أبي» ليست في كل النسخ، والزيادة من مصادر التخريج.
[12] في (م) و(د) زيادة: «ابن».
[13] في (م): «الطبري» وهو خطأ.
[14] في (م): «سعيد».
[15] في (م): «قال».
[16] في (د): «إلا أن».
[17] كتب فوقها في (م): «ما».
[18] في (م): «الخلافات».
[19] في (م): «كافيته».
[20] في (د): «أنه لا».
[21] في (م) و(د): «لا».
[22] في (ص): «نكاح».