إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: كان النبي يقرؤهن اثنين اثنين في كل ركعة

          4996- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدَانُ) هو لقبُ عبدِ اللهِ بنِ عثمانَ المروزيِّ (عَنْ أَبِي حَمْزَةَ) بالحاء المهملة والزاي، محمَّدِ بنِ ميمونَ السُّكريِّ المروزيِّ (عَنِ الأَعْمَشِ) سليمانَ بنِ مهرانَ (عَنْ شَقِيقٍ) أبي وائل بنِ سلمةَ، أنَّه (قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ) بنُ مسعودٍ: (قَدْ عَلِمْتُ) وللأَصيليِّ وابنِ عساكرٍ: ”لقد تعلَّمت“ (النَّظَائِرَ) أي: السُّور المتماثلةِ في المعاني، كالموعظةِ أو الحكمِ أو القصصِ، أو السُّور المتقاربةِ في الطُّول و(1) القصرِ (الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلعم يَقْرَؤُهُنَّ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ إسقاط لفظ «كل»، وفي نسخةٍ: ”اثنينِ كلَّ ركعة“(2) بإسقاط الجار (فَقَامَ عَبْدُ اللهِ) يعني: ابنَ مسعودٍ من مجلسهِ ودخلَ بيته (وَدَخَلَ مَعَهُ عَلْقَمَةُ) بنُ قيسٍ النَّخعيُّ (وَخَرَجَ عَلْقَمَةُ) المذكور (فَسَأَلْنَاهُ) عنها (فَقَالَ: عِشْرُونَ سُورَةً مِنْ أَوَّلِ المُفَصَّلِ عَلَى تَأْلِيفِ) مصحف (ابْنِ مَسْعُودٍ، آخِرُهُنَّ الحَوَامِيمُ) ولأبي ذرٍّ: ”من الحواميم“ (حم الدُّخَانُ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ)، ولابنِ خزيمةَ من طريقِ أبي خالدٍ الأحمر، عن الأعمش مثلَ هذا الحديث، وزادَ: قال الأعمشُ: أولهنَّ الرَّحمن وآخرهنَّ الدُّخان، وذكر الدُّخان في المفصَّل تجوز؛ لأنَّها ليستْ منه.
          نعم، يصحُّ على أحدِ الأقوالِ في حدِّ المفصَّل، وقد مرَّ في «بابِ الجمعِ بين السُّورتين في ركعةٍ» من «كتابِ الصَّلاة» [خ¦775] سرد السُّور العشرين فيما أخرجَه أبو داود، وفي الحديثِ دليلٌ على أنَّ تأليفَ مصحفِ ابنِ مسعودٍ على غير التَّأليف العثمانيِّ، ولم يكن على ترتيبِ النُّزول.
          وقيل: إنَّ مصحف عليِّ بنِ أبي طالبٍ كان على ترتيبِ النُّزول، أوَّله: اقرأ، ثمَّ المدَّثر، ثمَّ ن والقلم‼، وهكذا إلى آخر(3) المكِّيِّ، ثمَّ المدنيِّ، وهل ترتيبُ المصحف العثمانيِّ كان باجتهادٍ من الصَّحابة أو توقيفيًّا؟ فذهبَ إلى الأوَّل الجمهور، ومنهم القاضِي أبو بكرِ بنِ الطَّيب فيما اعتمدهُ واستقرَّ عليه رأيهُ من قوليه وأنَّه فوَّض ذلك إلى أمَّته بعدهُ، وذهبتْ طائفةٌ إلى الثَّاني، والخلافُ لفظيٌّ؛ لأنَّ القائلَ بالأوَّل يقول: إنَّه رمزَ إليهم ذلك لعلمهِم بأسبابِ نزولهِ ومواقعِ كلماتهِ؛ ولذلك قال الإمامُ مالكٌ: وإنَّما ألَّفوا القرآن على ما كانوا يسمعونهُ من النَّبيِّ صلعم .
          وهناك(4) قولٌ ثالثٌ: وهو أنَّ كثيرًا من السُّور قد كانَ علم ترتيبهُ في حياتهِ صلعم ، كالسَّبع الطِّوال، والحواميمِ، والمفصَّلِ، وكقوله: «اقرؤوا الزَّهراوين البقرةَ وآل عمران» وإلى هذا مالَ ابن عطيَّة / ، وقال بعضُهم: لترتيبِ وضع السُّور في المصحفِ أشياء قد تطلعكَ على أنَّه توقيفيٌّ صادرٌ عن حكيمٍ: أحدها: بحسب الحروف كما في الحواميمِ، وثانيها: لموافقة أوَّل السُّور لآخر ما قبلها، كآخرِ الحمدِ في المعنى وأول البقرة، وثالثها: للوزنِ في اللَّفظ، كآخر {تَبَّتْ} وأول الإخلاص، ورابعها: لمشابهةِ جملةِ السُّورة لجملة الأخرى؛ مثل: الضَّحى و{أَلَمْ نَشْرَحْ}.
          وقال بعضهم: سورة الفاتحة تضمَّنت الإقرار بالرُّبوبيَّة، والالتجاء إليه في دينِ الإسلام، والصِّيانة عن دينِ اليهوديَّة والنَّصرانيَّة، وسورةُ البقرةِ تضمَّنت قواعدَ الدِّين، وآل عمران مكمِّلة لمقصودها، فالبقرةُ بمنزلةِ إقامة الدَّليل على الحكم، وآل عمران بمنزلةِ الجوابِ عن شبهات الخُصوم، وسورة النِّساء تتضمَّن أحكام الأنساب التي بين النَّاس، والمائدةُ سورة العقود، وبها تمَّ الدِّين. انتهى.
          وأمَّا ترتيبُ الآيات فإنَّه توقيفيٌّ بلا شكٍّ، ولا خلاف أنَّه من النَّبيِّ صلعم ، وهو أمرٌ واجبٌ وحكمٌ لازمٌ، فقد كان جبريلُ يقول: ضعْ آيةَ كذا في موضعِ كذا، وفيه حديثٍ أخرجه البيهقيُّ في «المدخل» و«الدلائل»، والحاكمُ في «المستدرك»، وقال: صحيحٌ على شرطهما.


[1] في (ب) و(س): «أو».
[2] قوله: «إسقاط لفظ كل وفي نسخة اثنين كل ركعة»: ليست في (د).
[3] في (ب): «آخرها».
[4] قوله: «وهناك»: ليست في (ص) و(م) و(د).