إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل

          4993- وبه قال: (حَدَّثَنَا) بالجمع، ولأبي الوقتِ: ”حَدَّثني“ بالإفراد (إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى) الفرَّاء الرَّازيُّ الصَّغير قال: (أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ) قاضِي صنعاءَ (أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ) عبدَ الملكِ بن عبد العزيز (أَخْبَرَهُمْ قَالَ): أخبرني فلانٌ بكذا (وَأَخْبَرَنِي يُوسُفُ بْنُ مَاهَـِكٍَ) بفتح الهاء وكسرها، يصرف ولا يصرف للعجمة والعلميَّة، فالعطف على مقدَّر، وقال ابنُ حجرٍ: وما عرفتُ ماذا عطفَ عليه، ثمَّ رأيتُ الواو ساقطة من رواية النَّسفي (قَالَ: إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ ♦ إِذْ جَاءَهَا) رجلٌ (عِرَاقِيٌّ) لم يعرف الحافظُ ابن حجرٍ اسمه (فَقَالَ) لها (أَيُّ الكَفَنِ خَيْرٌ) الأبيض أو غيره؟ (قَالَتْ: وَيْحَكَ) كلمة ترحُّم (وَمَا) أي: أيُّ شيء (يَضُرُّكَ) بعد موتكَ في أيِّ كفنٍ كفِّنتَ؟ (قَالَ: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ أَرِينِي مُصْحَفَكِ. قَالَتْ: لِمَ) أريكه؟ (قَالَ: لَعَلِّي أُؤَلِّفُ القُرْآنَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ) قال في «الفتح»: الظَّاهر لي‼ أنَّ هذا العراقيَّ كان ممَّن(1) يأخذ بقراءةِ ابنِ مسعودٍ، وكانَ ابنُ مسعود لمَّا حضر مصحفُ عثمان إلى الكوفةِ لم يرجعْ عن قراءتهِ، ولا على إعدامِ مصحفهِ، فكان تأليفُ مصحفهِ مغايرًا لتأليفِ عثمان، ولا ريبَ أنَّ تأليف المصحفِ العثمانيِّ أكثرُ مناسبةً من غيرهِ، فلهذا أطلقَ العراقيُّ أنَّه غير مؤلَّف، وهذا كلُّه على أنَّ السُّؤال إنَّما وقع عن ترتيبِ السُّور؛ ولذا (قَالَتْ) له عائشة: (وَمَا يَضُرُّكَ) بضم الضاد المعجمة والراء المشددة، من الضَّرر، ولأبوي ذرٍّ والوقتِ والأَصيليِّ: ”يضِيْرك“ بكسر الضاد بعدها تحتية ساكنة، من الضَّير(2) (أَيَّهُ) بفتح الهمزة والتحتية المشددة بعدها هاء مضمومة، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”أيَّةٌ“ بفوقية بدل الهاء منونة (قَرَأْتَ قَبْلُ) أي: قبلَ قراءةِ السُّورة الأخرى (إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ) سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}[العلق:1] إذ ذاك لازم من قولهِ فيها: {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ}[العلق:13] و{سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}[العلق:18] أو المدَّثر، وذكرهُما صريحٌ فيها في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ}[المدثر:27] و{فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ}[المدثر:40] لكن الَّذي نزل أولًا من سورةِ «اقرأ» خمسُ آياتٍ فقط، أو المرادُ بالأوَّلية بعد الفترة وهي المدَّثر، فلعلَّ آخرها نزلَ قبل نزولِ بقيَّة اقرأ، أو بتقدير: من؛ أي: من أوَّل ما نزلَ (حَتَّى إِذَا ثَابَ) بالمثلثة والموحدة بينهما ألف؛ أي: رجعَ (النَّاسُ إِلَى الإِسْلَامِ) واطمأنَّت نفوسهُم عليه، وتيقَّنوا أنَّ الجنَّة للمطيعِ والنَّار للعاصي (نَزَلَ الحَلَالُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لَا تَشْرَبُوا الخَمْرَ؛ لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ لَا تَزْنُوا: لَقَالُوا لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا) وذلك لمَا طبعَتْ عليه النُّفوس من النَّفرة عن تركِ المألوفِ، فاقتضتِ الحكمةُ الإلهيَّة ترتيب النُّزول على ما ذكر (لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلعم وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ) صغيرةٌ (أَلْعَبُ: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}[القمر:46]) من سورةِ القمر الَّتي ليسَ فيها ذكرُ شيءٍ من الأحكامِ (وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ) المشتملتانِ(3) على الأحكامِ من الحلالِ والحرامِ (إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ) بعد الهجرةِ بالمدينة، وأرادتْ بذلك تأخُّر نزولِ الأحكامِ، وسقط لأبي ذرٍّ «سورة» فالبقرةُ ومعطوفُها مرفوعان(4).
          (قَالَ: فَأَخْرَجَتْ لَهُ) أي: للعراقيِّ (المُصْحَفَ فَأَمْلَتْ) بسكون الميم وتخفيف اللام وبتشديدها مع فتح الميم، وفي «اليونينية»: بتشديد الميم، فليحرَّر(5) (عَلَيْهِ آيَ السُّوَرَة) ولأبي ذرٍّ / : ”السُّور“ أي: آياتِ كلِّ سورة، كأن قالت له مثلًا: سورة البقرة كذا كذا آية، وهذا يؤِّيد أنَّ السَّؤال وقعَ عن تفصيلِ آياتِ كلِّ سورةٍ، وقد ذكرَ بعضُ الأئمةِ(6) آياتِ السُّور مفردة، كابن شيطى والجعبريِّ، وفي مجموعي «لطائفِ الإشارات لفنونِ القراءاتِ» ما يكفي ويشفي.


[1] قوله: «ممَّن»: ليس في (د) و(م).
[2] قوله: «ساكنة من الضير»: ليس في (د).
[3] زيد في (ب): «منه».
[4] قوله: «وسقط لأبي ذرٍّ سورة، فالبقرة ومعطوفها مرفوعان»: ليس في (د)، وفي (ص) و(م): «مرفوع».
[5] قوله: «مع فتح الميم، وفي اليونينيَّة بتشديد الميم؛ فليُحرَّر»: ليس في (د).
[6] في (ص) زيادة: «أن».