إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

عدد الأحاديث

          وأمَّا عدد أحاديث «الجامع»؛ فقال ابن الصَّلاح: سبعة آلافٍ ومئتان وخمسة وسبعون _بتأخير الموحَّدة عن السين فيهما_ بالأحاديث المكرَّرة، وتبعه النَّوويُّ وذكرها مُفصَّلةً، وساقها ناقلًا لها من كتاب «جواب المتعنِّت» لأبي الفضل بن طاهرٍ، وتعقَّب ذلك الحافظ أبو الفضل ابن حجرٍ ⌂ بابًا بابًا محرِّرًا ذلك، وحاصله أنَّه قال: جميع أحاديثه بالمكرَّر سوى المعلَّقات والمتابعات على ما حرَّرته وأتقنته سبعة آلافٍ _بالموحَّدة بعد السِّين_ وثلاث مئةٍ وسبعةٌ وتسعون حديثًا، فقد زاد على ما ذكروه مئةَ حديثٍ واثنين وعشرين حديثًا، والخالص من ذلك بلا تكرارٍ ألفا حديثٍ وستُّ مئةٍ وحديثان، وإذا ضمَّ له المتون المعلَّقة المرفوعة التي لم يوصلها في موضعٍ آخر منه، وهي مئةٌ وتسعةٌ وخمسون؛ صار مجموع الخالص ألفي حديثٍ وسبع مئةٍ وإحدى وستِّين حديثًا. وجملة ما فيه من التَّعاليق ألفٌ وثلاثة مئةٍ وأحدٌ وأربعون حديثًا، وأكثرها مكرَّرٌ مخرَّجٌ في الكتاب أصول متونه، وليس فيه من المتون التي لم تخرَّج في الكتاب _ولو من طريقٍ أخرى_ إلَّا مئةٌ وستُّون حديثًا، وجملة ما فيه من المتابعات والتَّنبيه على اختلاف الرِّوايات ثلاث مئةٍ وأربعةٌ وأربعون حديثًا، فجملة ما في الكتاب على هذا بالمكرَّر تسعة آلافٍ واثنان وثمانون حديثًا، خارجًا عن الموقوفات على الصَّحابة، والمقطوعات على التَّابعين، فمن بعدهم.
          وأمَّا عدد كتبه فقال في «الكواكب»: إنَّها مئةٌ وشيءٌ، وأبوابه ثلاثة آلافٍ وأربع مئةٍ وخمسون بابًا، مع اختلافٍ قليلٍ في نسخ الأصول.
          وعدد مشايخه الذين خرَّج(1) عنهم فيه مئتان وتسعةٌ وثمانون، وعدد من تفرَّد بالرِّواية عنهم دون مسلمٍ مئةٌ وأربعةٌ وثلاثون، وتفرَّد أيضًا بمشايخَ لم تقع الرِّواية عنهم لبقية(2) أصحاب الكتب الخمسة إلَّا بالواسطة، ووقع له اثنان وعشرون حديثًا ثلاثيَّات الإسناد، والله سبحانه الموفِّق والمعين.
          وأمَّا فضيلة «الجامع الصَّحيح»: فهو _كما سبق_ أصحُّ الكتب المؤلَّفة في هذا الشَّأن، والمُتلقَّى بالقبول من العلماء في كلِّ أوانٍ، قد فاق أمثاله في جميع الفنون والأقسام، وخُصَّ بمزايا من بين دواوين الإسلام، شهد له بالبراعة والتَّقدُّم الصَّناديد العِظَام، والأفاضل الكرام، ففوائده أكثر من أن تُحصَى، وأعزُّ من أن تُستقصَى‼، وقد أنبأني غير واحدٍ عن المسندة الكبيرة عائشة بنت محمَّد بن عبد الهادي: أنَّ أحمد بن أبي طالبٍ أخبرهم: عن / عبد الله بن عمر بن عليٍّ: أن أبا الوقت أخبرهم عنه سماعًا قال: أخبرنا أحمد بن محمَّد بن إسماعيل الهروِيُّ شيخ الإسلام، سمعت خالد بن عبد الله المروزيَّ يقول: سمعت أبا سهلٍ محمَّد بن أحمد المروزيَّ يقول: سمعت أبا زيدٍ المروزيَّ يقول: «كنت نائمًا بين الرُّكن والمقام، فرأيت النَّبيَّ صلعم في المنام، فقال لي: يا أبا زيدٍ؛ إلى متى تدرس كتاب الشَّافعيِّ وما تدرس كتابي؟ فقلت: يا رسول الله؛ وما كتابك؟ قال: جامع محمَّد بن إسماعيل».
          وقال الذَّهبيُّ في «تاريخ الإسلام»: وأمَّا «جامع البخاريِّ الصَّحيح»؛ فَأَجَلُّ كتب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله تعالى، قال: وهو أعلى في وقتنا هذا إسنادًا للنَّاس، ومن ثلاثين سنةً يفرحون بعلوِّ سماعه، فكيف اليوم؟! فلو رحل الشَّخص لسماعه من ألف فرسخٍ؛ لَمَا ضاعت رحلته. انتهى.
          وهذا قاله الذَّهبيُّ ☼ في سنة ثلاثَ عَشْرَةَ وسبعِ مئةٍ.
          ورُوِيَ بالإسناد الثَّابت عن البخاريِّ أنَّه قال: رأيت النَّبيَّ صلعم وكأنَّني واقفٌ بين يديه، وبيدي مروحةٌ أذبُّ بها عنه، فسألت بعض المعبِّرين، فقال لي: أنت تذبُّ عنه الكذب، فهو الذي حملني على إخراج «الجامع الصَّحيح»، وقال: ما كتبت في «الجامع(3) الصَّحيح» حديثًا إلَّا اغتسلت قبل ذلك وصلَّيت ركعتين، وقال: خرَّجته من نحو ستِّ مئة ألف حديثٍ، وصنَّفته في ستَّ عشْرةَ سنةً، وجعلته حجَّةً فيما بيني وبين الله تعالى، وقال: ما أدخلت فيه إلَّا صحيحًا، وما تركت من الصَّحيح أكثرُ حتَّى لا يطولَ، وقال: صنَّفت كتابي «الجامع» في المسجد الحرام، وما أدخلت فيه حديثًا حتَّى استخرت الله تعالى وصلَّيت ركعتين، وتيقَّنت صحَّته.
          قال الحافظ ابن حجرٍ ⌂ : والجمع بين هذا وبين ما رُوِيَ: أنَّه كان يصنِّفه في البلاد: أنَّه ابتدأ تصنيفه وترتيب أبوابه في المسجد الحرام، ثمَّ كان يخرِّج الأحاديث بعد ذلك في بلده(4) وغيرها، ويدلُّ عليه قوله: إنَّه أقام فيه ستَّ عشْرةَ سنةً، فإنَّه لم يجاور بمكَّة هذه المدَّة كلَّها.
          وقد روى ابن عديٍّ عن جماعةٍ من المشايخ: أنَّ البخاريَّ حوَّل تراجم «جامعه» بين قبر النَّبيِّ صلعم ومنبره، وكان يصلِّي لكلِّ ترجمةٍ ركعتين، ولا ينافي هذا أيضًا ما تقدَّم؛ لأنَّه يحمل على أنَّه في الأوَّل كتبه في المُسودَّة، وهنا حوَّله من المُسوَّدة إلى المُبيضَّة.
          وقال الفَـِرَبْريِّ: قال لي محمَّد بن إسماعيلَ: ما وضعت في الصَّحيح حديثًا إلَّا اغتسلت قبل ذلك وصلَّيت ركعتين، وأرجو أن يبارك الله تعالى في هذه المصنَّفات.
          وقال الشَّيخ أبو محمَّدٍ عبد الله بن أبي جَمْرَة: قال لي مَن لقيت من العارفين عمَّن لقيه من السَّادة المُقَرِّ لهم بالفضل: إنَّ «صحيح البخاريِّ» ما قُرِئَ في شدَّةٍ إِلَّا فُرِجَت، ولا رُكِبَ به في مركبٍ فغرق. قال: وكان مُجابَ الدُّعاء، وقد دعا لقارئه ⌂ .
          وقال الحافظ عماد الدِّين ابن كثيرٍ: وكتاب البخاريِّ «الصَّحيح» يُستسقَى‼ بقراءته الغمامُ، وأجمع على قبوله وصحَّة ما فيه أهلُ الإسلام. وما أحسن قول البرهان القيراطيِّ ☼ :
حدِّث وشنِّف بالحديث مسامعي                     فحديثُ مَنْ أهوى حليُّ مسامعي
لله ما أحلى مكرَّره الذي                     يحلو ويعذب في مذاق السَّامع
بسماعه نلتُ الذي أمَّلتُه                     وبلغتُ كلَّ مطالبي ومطامعي
وطلعتُ في أفق السَّعادة صاعدًا                     في خير أوقاتٍ وأسعدِ طالعِ
ولقد هُديتُ لغاية القصد التي(5)                     صحَّت أدلَّته بغير ممانعِ
وسمعت نصًّا للحديث معرَّفًا                     ممَّا تضمَّنه كتاب «الجامع»
وهو الذي يُتلَى إذا خَطْبٌ عَرا                     فتراه للمحذور(6) أعظَم دافعِ
كم من يدٍ بَيْضَا حواها طِرْسُه                     تُومي إلى طُرُق العلا بأصابعِ
وإذا بدا باللَّيل أسودُ نقشه                     يجلو علينا كلَّ بدرٍ ساطعِ
مَلَكَ القلوبَ به حديثٌ نافعٌ                     ممَّا رواه مالكٌ عن نافعِ
في سادةٍ ما إن سمعتَ بِمثلهم                     من مُسمِعٍ عالي السَّماعِ وسامعِ
/
وقراءة القاري له ألفاظه                     تغريدها يزري بسجْع السَّاجعِ
(وقول الآخر):
وفتى بُخارى عند كلِّ محدِّثٍ                     هو في الحديث جُهينةُ الأخبارِ
لكتابه الفضلُ المبينُ(7) لأنَّه                     أسفاره في الصُّبح كالإسفار
كم أزهرت بحديثه أوراقُه                     مثل الرِّياض لصاحب الأذكارِ
أَلِفَاتُه مثلُ الغصونِ إذا بدت                     من فوقها الهمزاتُ كالأطيارِ
بجوامعِ الكَلِمِ التي اجتمعت به                      متفرِّقاتُ الزُّهرِ والأزهارِ
وقول الشَّيخ أبي الحسن عليِّ بن عبيد الله(8) بن عمر الشَّقِّيع _بالشِّين المُعجمَة، والقاف المكسورة المُشدَّدة، وبعد التَّحتيَّة السَّاكنة عينٌ مُهملَةٌ_ النَّابلسيِّ، المُتوفَّى بالقاهرة سنة ستَّ عشْرةَ وتسع مئةٍ:
خُتِم الصَّحيحُ بِحمْدِ ربِّي وانتهى                     وأرى به الجاني تقهقر وانتهى
فسقى البخاري جُودُ جَوْدِ سحائبٍ                     ما غابت الشِّعرى وما طلعَ السُّهى
الحافظُ الثِّقةُ الإمامُ المُرتضَى                     مَنْ سار في طلبِ الحديث وما وهى
طَلَبَ الحديثَ بكلِّ قطرٍ شاسعٍ                     وروى عن الجمِّ الغفير أُولي النُّهى
ورواه خلقٌ عنه وانتفعوا به                     وبفضله اعترف البريةُ كلُّها
بحرٌ بجامعه الصَّحيح جواهرٌ                     قد غاصها فاجهد وغُصْ إن رُمْتَها
واروي(9) أحاديثًا معنعنةً زهتْ                     تحلو لذائقِها(10) إذا كرَّرتها
          وللإمام أبي الفتوح العجلي:
صحيحُ البخاريِّ يا ذا الأدبْ                     قويُّ المتون عَلِيُّ الرُّتبْ
قويمُ النِّظام بهيجُ الرُّواء                     خطيرٌ يروجُ كنقد الذَّهبْ
فتبيانُه مُوضِحُ المعضِلاتِ                     وألفاظه نخبةٌ للنُّخبْ‼
مفيدُ المعاني شريفُ المعالي                     رشيقٌ أنيقٌ كثيرُ الشُّعبْ
سما عزُّه فوق نجم السَّماء                     فكلُّ جميلٍ به يُجتلَبْ
سناءٌ منيرٌ كضوء الضُّحى                      ومتنٌ مزيحٌ لشوب الرِّيَبْ
كأنَّ البخاريَّ في جمعه                     تلقَّى من المُصطفَى ما اكتتبْ
فللَّه خاطره إذ وعى                     وساق فرائده وانتخبْ
جزاه الإله بما يرتضي                     وبلَّغه عالياتِ القربْ(11)
ولأبي(12) عامرٍ الفضل بن إسماعيل الجرجانيِّ الأديب ⌂ :
صحيح البخاريِّ لو أنصفوهُ                     لمَا خُطَّ إلَّا بماء الذَّهبْ
هو الفرق بين الهدى والعمى(13)                     هو السَّدُّ دون العنا والعطبْ
أسانيدُ مثلُ نجومِ السَّماءِ                     أمامَ متونٍ كمثل الشُّهُبْ
بهِ قام ميزانُ دينِ النَّبي                     ودان له(14) العُجْمُ بعد العربْ
حجابٌ من النَّار لا شكَّ فيه                     يميِّز بين الرِّضا والغضبْ
وخير رفيق(15) إلى المُصطفَى                     ونورٌ مبينٌ لكشف الرِّيَبْ
فيا عالمًا أجمع العالمون                     على فضل رتبته في الرُّتبْ
سبقْتَ الأئمَّة فيما جمعتَ                     وفزت على رغمهم(16) بالقَصَبْ
نفيتَ السَّقيم من(17) الغافلينَ                     ومن كان مُتَّهمًا بالكذبْ
وأثبتَّ من عدّلتْه الرواةُ                     وصحّتْ روايته في الكتبْ
وأبرزتَ في حسن ترتيبه                     وتبويبه عجبًا للعجبْ
/
فأعطاك ربُّك ما تشتهيه                     وأجزل حظَّك فيما يَهَبْ
وخصَّك في عَرَصات الجنان                     بخيرٍ يدوم ولا يقتضبْ(18)
          فلله دَرُّه من تأليفٍ رفع عَلَم علمه بمعارف معرفته، وتسلسل حديثه بهذا الجامع، فَأَكْرِمْ بسنده العالي ورفعته، انتصب لرفع بيوتٍ أذن الله أن تُرفَع، فيا له من تصنيفٍ تسجد له جباه التَّصانيف _إذا تُلِيَتْ آياته_ وتركع، هَتَكَ بأنوار مصابيحه المشرقة من المشكلات كلَّ مظلمٍ، واستمدَّت جداول العلماء من ينابيع أحاديثه التي ما شكَّ في صحَّتها مسلمٌ، فهو قطب سماء الجوامع، ومطالع الأنوار اللَّوامع، فالله تعالى يبوِّئ مؤلِّفه في الجنان منازلَ مرفوعةً، ويكرمه بصِلَاتٍ عائدةٍ غير مقطوعةٍ ولا ممنوعةٍ.


[1] في (ب) و (س): «صرَّح».
[2] في (ص): «كبقيَّة».
[3] في غير (د): «كتاب».
[4] في (د): «بلد أهله».
[5] في (د): «الذي».
[6] في (ص): «للمخدور».
[7] في (ص): «الكبير».
[8] في (ص): «عبد الله».
[9] في (ب) و (س): «وروى».
[10] في (ب) و (س): «لسامعها».
[11] في (د): «الرُّتب».
[12] في غير (س): «لابن»، وهو تحريفٌ.
[13] في (د): «بين العمى»، وفي (ص): «هو السر بين».
[14] في (د): «وزان به».
[15] في (د) و (ص): «وسير رقيق».
[16] في (ص) و (م): «جمعهم».
[17] في (ص): «عن».
[18] البيت سقط من (م)، وفي (د) و (ص): «ينغصب».